الجماعات رفعت الراية البيضاء والوزارة الوصية في دار غفلون ودعوات للإنقاذ ماذا تبقى من المواقع الأثرية والسياحية بمنطقة دكالة، بعدما تعرضت له من إهمال وإقصاء وتهميش صارخ، في غياب اهتمام المسؤولين المباشرين وغير المباشرين، سواء تعلق الأمر بالوزارات الوصية، أو الجماعات المحلية، قروية كانت أم حضرية؟ وإذا كانت الجماعات الترابية، ترفع الراية البيضاء، متعللة بقلة الإمكانيات وضعف الموارد المالية المخصصة للترميم والإصلاحات والصيانة وإعادة الهيكلة، فإن الوزارات، تكاد لا تعرف الشيء الكثير عن أغلب المآثر والمواقع السياحية. إنجاز: أحمد ذو الرشاد (الجديدة) نظمت جمعية ذاكرة دكالة للحفاظ على التراث، أخيرا يوما دراسيا احتفالا بالذكرى العشرين لتصنيف المدينة البرتغالية "مازاغان" ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، حضره عدد من المهتمين بالتراث وناقشوا فيه معيقات وصعوبات الحفاظ عليه من الاندثار والتلاشي. وأجمع جل المتدخلين على أن هذا الإرث الحضاري، الذي خلفه البرتغاليون بعد خروجهم من "مزاغان" مكرهين، تحت ضغط المقاومة الشرسة لأهل البلد، سنة 1769 على عهد سيدي محمد بن عبد الله، آخذ في الزوال لعدة أسباب. وذكر عز الدين عازم، رئيس جامعة شعيب الدكالي بأهمية الموروث الحضاري المعماري، وقال: "إن أهمية هذا المعمار تكمن في ما يمكن للمرء أن يلامسه من خصوصيات معمارية، تنعكس بشكل أو بآخر على السكان وتعزز روابط التماسك الاجتماعي والثقة والمعرفة المشتركة، كما تساهم في تعزيز الاقتصاد وإنعاشه". وأضاف أن السياحة الأثرية أصبحت رافدا أساسيا في الاقتصاد العالمي، وصناعة تساعد على الدفع بعجلة الاقتصاد نحو مزيد من التقدم والازدهار وإعادة استثمار مداخيل السياحة في مجال الخدمات العامة من تعليم وصحة وغيرهما. وأجمعت كل المداخلات على أن الحفاظ على هذا التراث والتعريف به يمثلان ضرورة أساسية، إن على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الجهوي أو الوطني لإثبات هويتنا وتاريخنا ومنبعا لا يجف من المعرفة المشتركة ومصدرا مهما للإبداع في خارطة التراث الثقافي. ولا يقتصر التراث على ما هو مادي محض، بل يتعدى ذلك إلى الجوانب اللامادية، من طقوس وفن وأهازيج وأغان وحكايات شعبية وطبخ، تم توارثها من جل لجيل. ومعلوم أن البرتغاليين احتلوا مزاغان وأزمور سنة 1514 واستوطنوهما حوالي قرنين ونصف، إلى أن جاء سيدي محمد بن عبد الله، الذي شكل مقاومة شرسة وحاصر القلعة مما دفع بملك البرتغال، أمام الحصار المفروض عليه، إلى إخلاء المدينة سنة 1769، آمرا الجنود بتلغيم السور الخارجي بوضع 25 برميلا من البارود ومغادرتها عبر باب البحر قرب برج الملائكة، وتركوا رجلا مسنا كلفوه بإشعال فتيل البراميل، فأتى الانفجار على جزء كبير من السور وتسبب في قتل حوالي 5000 فرد من الجنود وسميت المدينة بالمهدومة. بولعوان... قصبة تتلاشى يوما عن يوم، تفقد قصبة بولعوان بعضا مما تبقى من بناياتها الكثيرة، سواء تعلق الأمر بالأسوار أو المسجد أو قصر السلطان مولاي إسماعيل المعروف بلقب "أبي الأعوان" التي تحولت إلى "بولعوان". وكان أبو القاسم الشبري، باحث أثري ومدير مركز أبحاث ودراسات التراث المغربي، أثار انتباه المسؤولين عن وزارة الثقافة والشباب والتواصل والمسؤولين المحليين والإقليميين والجهويين، وعمل على استفزازهم إيجابا، لإيلاء أهمية وعناية خاصة لقصبة "بولعوان"، المعلمة التاريخية، التي تتساقط بناياتها يوما عن يوم وتتآكل جنباتها، سيما بعد الارتدادات التي رافقت زلزال الحوز. ولم تفلح القرارات الكثيرة التي اتخذها عدد من مسؤولي وزارة الثقافة في العديد من المناسبات، الرامية إلى القيام بدراسات جيو ـ تقنية للبحث عن سبل إعادة تهيئة وترميم المرافق والفضاءات التابعة لقصبة "بولعوان"، لتظل الأوضاع على ما هي عليه، بل تزداد تدهورا بسبب الإهمال. وأكد أبو القاسم الشبري، الرئيس السابق لـ "إكوموس المغرب"، اللجنة المغربية للمجلس العالمي للمباني التاريخية والمواقع، أن تشققات تهدد الأبراج في أي لحظة، بعدما تضررت الشرفات والممرات الموجودة فوق الأسوار، الموجودة في الواجهة الرئيسية، ويظهر جليا أن البرج القريب من الباب الرئيسي، كأنه انفصل عن السور، إذ ظهرت شقوق في واجهاته الثلاث، كما تضرر المسجد. واستفسر عن سبب توقف المشاريع السابقة لإنقاذ "بولعوان"، وأبدى تخوفه من بطء التدخل لأنه كلما تأخر التدخل كلما كان الخطر أكبر، ويلزم في تقديره، لرأب التصدعات والشقوق، وترميم بعض الأجزاء المتضررة منذ سنوات، تخصيص غلاف مالي مهم، واعتماد مكتب هندسة مدنية وهندسة معمارية ومختبرات بتنسيق مع المختصين في الميدان وإشراك السلطات المحلية والإقليمية لمتابعة وتتبع ورش الترميم. مغارة الخنزيرة... زحف المنشآت الصناعية لا تزال مغارة الخنزيرة التي تقع على بعد 20 كيلومترا جنوب الجديدة بدوار أولاد إبراهيم بجماعة مولاي عبد الله، في حاجة إلى المزيد من الحفريات والبحث والتنقيب لاستكشاف أسرارها، إذ تشكل موقعا أثريا تم اكتشافه أول مرة من قبل بعثة استكشافية سنة 1934 تحت قيادة عالم الآثار الألماني "أرمان رولمان". وللمغارة، التي تقع فوق جرف مقابل للبحر على بعد نصف كيلومتر تقريبا من المنطقة المعروفة بالرأس الأبيض (Cap blanc)، بابان يلتقيان في الأسفل، الأول دائري وعميق والثاني مفتوح ومواجه للبحر، مما جعل البعض يعتقد أن الأمر يتعلق بمغارتين. وأكد الباحث أبو القاسم الشبري، مدير مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي، أن مغارة الخنزيرة تعود إلى الفترة العتيرية التي تعود، حسب الأبحاث العلمية والمستوى العلمي للعلماء والمختبرات آنذاك، إلى ما بين 30 و40 ألف سنة. وأضاف أن جديد الأبحاث الأثرية في مناطق أخرى سيما منذ تجديدها سنة 2017، التي قام بها مغاربة بشراكة مع باحثين أجانب من أوكسفورد ومارسيليا، تحدد تاريخ الفترة العتيرية، التي تهم مغارة الخنزيرة، فيما بين 160 و170 ألف سنة. ويعود تاريخ مغارة الخنزيرة، إلى 200 ألف سنة ويأتي بعد تاريخ مغارة جبل إيغود باليوسفية، الذي يقدر ب300 ألف سنة، ولا تزال في حاجة إلى عملية تنقيب أخرى قد تكشف عن أشياء جديدة وغير معروفة، لأن هناك أجنحة عذراء ما زالت مجهولة، سيما أنها (المغارة) مصنفة ضمن التراث الوطني وتتوفر على منطقة للاتفاق والحماية شاسعة، لكنها مهددة اليوم من قبل زحف المنشآت الصناعية التي توسعت بمحيط الجرف الأصفر. رباط المجاهدين... بقايا أسوار ومسجد منذ الشروع في استعمال الطريق السيار، اكتشف سكان الجديدة وزوارها، فجأة موقعا اسمه رباط المجاهدين أو منار سيدي صالح، قليلون من كانوا يعلمون بوجوده. كثر اللغط ولا أحد تحرك لوضع برنامج تأهيل هذا الموقع المرتبط قطعا بتحرير "مزاغان" من يد البرتغال سنة 1769 وبحصار 1562 من دون شك. لم يتبق من موقع مدينة المجاهدين سوى بقايا مسجد وأسوار تهدم أغلبها وسرداب ما زالت مداخله ومخارجه مجهولة، إذ كانت الرواية الشفوية تقول بارتباطه بالمدينة عبر نفق تحت أرضي. تقع مدينة المجاهدين على بعد حوالي خمسة كيلومترات من الجديدة، في نقطة إستراتيجية قريبة من محطة الأداء على الطريق السيار. وأصبحت اليوم وسط فضاء القطب الحضري لـ"مازاغان"، الذي تم إحداثه من قبل المجمع الشريف للفوسفاط، تجسيدا للإستراتيجية الجديدة، الرامية إلى تنمية الأقطاب الحضرية التي تعززت على الصعيد الوطني من قبل وزارة السكنى والتعمير وسياسة المدينة. وتفرض الضرورة اليوم وضع مخططات ودراسات وفرض أبحاث، تهتم بالحفر والتنقيب في فضاء مدينة المجاهدين، لاستكناه خباياها وخفاياها وسبر مكنوناتها التاريخية، إذ يسجل المهتمون بالتراث شحا في الدراسات والتوثيق، في غياب متاحف وخزانات متخصصة، تعنى بتاريخ وتراث وأعلام المنطقة. ولا تشد حالة التراث المغربي بدكالة اليوم، عن القاعدة الوطنية في ما يتهدد التراث من نسيان وإهمال وغياب كلي لأي إستراتيجية لكل الأجهزة المعنية الحكومية والمنتخبة، لأن كل مشاريع الترميم التي عرفها، مثلا، الحي البرتغالي منـذ 1994 إلـى تاريخ تصنيفه في 30 يونيو 2004، أنجزت بدون إستراتيجية. وبحكم الإهمال والإقصاء والرغبة في النهوض بالتراث المعماري، دعا متدخلون إلى ضرورة الاهتمام بالتكوين والبحث في علاقة السكان بمحيطهم الاجتماعي والسوسيو اقتصادي وتخصيص حيز مهم في مجال البحث الجامعي والتكوين العلمي في مجال التراث ونسج علاقات وطيدة مع المواطنين ين ليصبحوا من أهم المدافعين والمحافظين على هذا التراث العالمي.