سلطات الجديدة أزالت 50 "براكة" وأنهت 60 سنة من ريع الضريح على غرار ما حدث في ضريح سيدي عبدالرحمان بالبيضاء، جاء الدور هذه المرة على ضريح للاعائشة البحرية الواقع بتراب جماعة سيدي علي بن حمدوش المتاخمة لأزمور. بأمر من محمد العطفاوي، عامل الجديدة تحركت جرافات وقوات عمومية في مهمة تعلقت بتحرير حرم ضريحها من أزيد من 50 كوخا و"براكة"، ظل أربابها وطيلة أزيد من 60 سنة يتكسبون من بيع مستلزمات الزيارة وإعادة تدوير "ملابس التابعة" وتقديم وجبات غذائية شعبية، وغيرها من أنشطة الدجل والشعوذة ، نهاية الأسبوع الذي ودعناه ترسخ تاريخا لنهاية أحد أكبر تجمعات الشعوذة. عبدالله غيتومي (الجديدة ) لم تكن للا عايشة البحرية تدري أنها وهي التي تجشمت عناء سفر طويل من بغداد إلى أزمور ، طامعة في لقاء لم يتحقق مع مولاي بوشعيب الرداد في قصة عشق طويت صفحاتها وهي لم تفتح بعد، أن حجم التعاطف الوجداني معها، بلغ ذروته في نسج خرافات حول قدرتها على طرد النحس وهو المرادف لـ "التابعة"، التي تحول بين الناس والوصول إلى أمانيهم في الزواج والشغل والأبناء الصالحين، ومع مرور الأيام أضحى "قبر الولية الصالحة" المتشبعة ببركة "مولاي عبدالقادر الجيلاني" مقصدا لكل الراغبين والراغبات في شريكة أو شريك للحياة، والقطع مع مرحلة بوار وعزوبية طالت في الزمن. حاجات الناس إلى "سعد مفقود" جعلتهم وعلى مدار أكثر من 60 سنة، عجينة طيعة في أيادي بعض المشعوذين والمشعوذات، الذين تحصنوا في "براريك" وأكواخ مصنوعة من الخشب والبلاستيك، وراحوا يوزعون أوهاما بمقابل مادي وعطايا، جعلتهم يراكمون ثراء سهلا لا تطوله الضريبة على الدخل. تدوير "التابعة" والقرابين لما توقفت نهاية الأسبوع الذي ودعناه بأرض للاعايشة البحرية، صادفت رجلا كهلا يمشي متكئا على عكازه، يمشط بنظره الذي لا يسعفه كثيرا، مخلفات عملية هدم مجمع الشعوذة. لما دنوت منه سألته عن وجهة نظره في عملية الهدم فبادرني بالقول "الدايم الله لكل شيء نهاية من كان يظن أنه سيأتي اليوم الذي تهدم فيه هذه البراريك والأكواخ وعمرها أكثر من ستين سنة". ثم ابتلع بعضا من ريقه وواصل "وأنا طفل صغير أتذكر أن المكان كان به ضريح الولية الصالحة، ومقهى شعبي في براكة كان في ملكية محمد بلفرجي هو الذي كان يقدم فيه بعض الخبز وكؤوس الشاي للزوار، ثم توالت الأيام فازدادت البراريك بكيفية عشوائية فوق أرض في ملكية أوقاف الجديدة، بعضها تخصص في تقديم مأكولات شعبية وأخرى في بيع شموع وحناء وبخور وغيرها، فيما حجز مشعوذون أطلقوا على أنفسهم "مجاذيب" أمكنة كثيرة وأضحوا قبلة لمترددين عليهم من داخل المغرب وخارجه". وعلى العموم كان اقتصاد "مجمع للا عايشة" يقوم على تدوير "التابعة" والقرابين، فقد كانت تفرض طقوس طرد النحس، والاستحمام من بئر مجاور للضريح والتخلص من كل الملابس الداخلية برميها على جنباته، حيث تجمع وتنظف ويعاد بيعها من جديد في إطار "مداورة" مدرة للدخل، كما أن الدجاج المقدم قرابين للضريح كان يعاد بيعه والاستفادة من عائداته، دون الحديث عن حجم مداخيل أكشاك السحر والشعوذة، إذ مكنت مداهمة أمنية قبل سنوات لواحد منها من حجز عملات وطنية وأجنبية، ما يعكس الشهرة التي اكتسبها ضريح "للاعايشة" البحرية والتي تجاوزت إلى ما وراء الحدود . رحيل غير منتظر لما حللنا، السبت الماضي، بضريح الولية الصالحة، لم تستقبلنا كالعادة مكبرات صوت كانت تذاع منها أغان للسواكن والحضرة، ولم يتناه إلى مسامعنا ذلك المقطع الشهير منها "عاري عليك أعايشة"، لقد اختفت تلك التوسلات التي كانت توجه إلى دفينة الضريح، لتقضي حوائج زوارها الذين كانوا يقصدونها من كل حدب وصوب. كذلك لم يستقبلنا سدنة الضريح وهم عادة "حفظان وحفيظات" لهم امتدادات تاريخية بالمكان، من كانوا يعرضون على الزوار وصفات سحرية لطرد "العكس" والتمكن من الحظ المنشود، شاهدنا البعض منهم منهمكا في تفكيك محلاتهم العشوائية، وقد استبد بهم يأس شديد وهم يتأهبون لتوديع أرض أمضوا فيها وقتا ليس باليسير، دون أن يدور بخلدهم أنهم سيرغمون على رحيل بدون عودة. هناك غير بعيد عن ضريح الولية الصالحة، لم تتبق من "براكة" أحد المشعوذين سوى خشبة معلقة عليها رقم هاتفه، الذي يشهد أن صاحبه كان يزاول "نشاطه الممنوع" على مرأى ومسمع من قائد سيدي علي بن حمدوش وخليفته ومساعديه. بينما توقفت عربات تجرها دواب كانت في الأصل هي التي تحمل الزوار من أزمور إلى "للاعايشة"، لكنها كانت تحمل أعمدة خشبية وخياما بلاستيكية وتجهيزات مقاه شعبية، نتاج عملية تفكيك استمرت ثلاثة أيام متواصلة. مخلفات الجهل بدا مجمع "الولية للاعايشة" خاليا على عروشه، في صورة توحي منذ أول نظرة أن زلزال الهدم أتى في ثلاثة أيام فقط على تراكمات أكثر من ستين سنة، ومنذ هدمت المحلات العشوائية بسيدي عبد الرحمان بعين الذئاب بالبيضاء، كانت أوامر محمد مهيدية صدرت إلى العامل السابق بالنيابة، محمد سمير الخمليشي لإزالة كل المحلات المحيطة بضريح "للا عايشة البحرية"، لكن ذلك لم يحدث وظل أمر الوالي يراوح مكانه لأكثر من سنة كاملة، إلى حين مجيء محمد العطفاوي، الذي شرع في برنامج هدم إقليمي بدأه على العشوائي بمولاي عبدالله والحوزية، ثم "مصور راسو" وسور كورنيش شارع النصر ومقهى سندس بغابة الحوزية، وجاء الدور على "مجمع السحر والشعوذة"، والظاهر أنه لن يكون الأخير في أجندة العامل، وخاصة حربه على الانزلاقات الكبرى في التعمير التي حدثت زمن أسلافه، الذين سبقوه علـى رأس الإدارة الترابية بإقليم الجديدة. ونحن نتجول بجنبات الضريح، كان هناك أطفال صغار يجمعون صورا لبعض الناس، هي مخلفات عثر عليها ببراريك مشعوذين، وعلى ظهرها كانت هناك كتابات وجداول، لعلها تلك التي كانوا بواسطتها يسوقون منتوجهم لبيع أوهام وتأشيرات عبور إلى حياة الزوجية لعازبين وعازبات عاكسهم نحس شديد. زوار النظرة الأخيرة بالقدر الذي خيم حزن شديد على من كانوا يشكلون مجتمع للاعايشة البحرية، إلى درجة أن البعض منهم لم يصدق إطلاقا أنه الرحيل فعلا، كانت سيارات تتردد على الضريح ويترجل زوار منها، جاؤوا لإلقاء النظرة الأخيرة، وهذه المرة لم يطلب منهم تأدية واجبات ركن سياراتهم كما كان في السابق ، لقد اختفى الحراس أيضا وكل من كان يعيش على ريع "الولية الصالحة". وسمعنا وسط جلبة جمع بقايا أكواخ وبراريك، صوت امرأة زائرة تردد في حوار مع إحدى الحفيظات "سبحان الله أضحى المكان مقفرا كأن لم يكن به أحد، لن نعود إليه بعد اليوم لأنه فقد طقوسه، بصراحة المكان أصبح مخيفا". بينما ظل شخص آخر يردد بصوت عال "دوام الحال من المحال لم يبق إلا ضريح الولية ومقر الدرك الملكي والقوات المساعدة أرض الله الواسعة". المطالبة بأنشطة بديلة على الجهة الأخرى، لم يتردد أصحاب محلات تجارية في القول "لسنا كلنا سحرة ومشعوذين" لقد كنا نكسب قوتنا من أنشطة تجارية مسموح بها قانونيا، وها نحن اليوم وبعد أجيال كثيرة وجدنا أنفسنا عرضة للضياع". فيما زاد آخر قائلا "من عائدات المقهى الذي كنت أبيع فيها الفطائر والشاي، كنت أوفر مصروفا لأبنائي، وهاهي ابنتي الصغيرة لم تقو على النظر إلي وأنا أقوم بتفكيك تلك المقهى، حقيقة نحن نرحل اليوم نحو المجهول". قفلنا راجعين من ضريح للاعايشة البحرية ولم نصادف في طريقنا كثافة المرور، من سيارات وعربات ودراجات ثلاثية العجلات، وكان ذلك فعلا علامة حقيقية على أن الجميع شيع "مجمع الشعوذة" إلى مثواه الأخير، وأن للا عايشة التي تذكر الروايات أنها دفنت ذات يوم في "قبر غريب" دون أن يكتب لها اللقاء بمولاي بوشعيب الرداد، ها هي اليوم كذلك لم يكتب لها أن يستمر الناس متحلقين حولها، فكما ماتت غريبة... أضحى مزارها غريبا وتلك أيام نداولها بين الناس.