الباحث السوسيولوجي محمد مرفوق يفكك الظاهرة في كتاب «المجتمع والهجرة» أعادت الأحداث الأخيرة لمحاولة جماعية للهجرة السرية سباحة من الفنيدق نحو سبتة، إلى واجهة النقاش العمومي سؤال الهجرة، وتفضيل فئة عريضة من المهاجرين الشباب، الارتماء في أحضان الموت المجهول، في سبيل البحث عن آفاق أفضل للحياة. عن هذا الموضوع ينبري محمد مرفوق الباحث في علم الاجتماع، إلى تفصيل القول فيه في كتابه الصادر حديثا بعنوان "المجتمع والهجرة.. المهاجرون الأفارقة من جنوب صحراء المغرب إستراتيجيات الإدماج والاندماج". في هذا الخاص تتوقف "الصباح" عند مضامين هذا الكتاب الذي يبحث في مسارات الهجرة، ومجتمعات الاستقبال، وما يرتبط بهما من عوامل جذب ودفع، تؤثر على المهاجرين في الاستقرار داخل مجتمع دون سواه، مع ربطها بالسياق الحالي والأحداث المستجدة. إعداد: عزيز المجدوب في مقدمة كتابه "المجتمع والهجرة" يرى الباحث محمد مرفوق أننا "نعيش في عصر الهجرة بامتياز، فكل الأشياء المادية واللامادية فيه تهاجر، فلم نشهد طيلة القرون الأربعة الماضية حركية للبشر منتجة ظاهرة الهجرة العالمية كما شهدناها مع انبثاق مجتمعات الألفية الثالثة، لتتخذ هذه الحركية أشكالا متعددة بتعدد دوافعها. تشكل الحروب والاضطهاد أهم أسباب الهجرة، تليها الكوارث الطبيعية والمجاعة، إلا أن التفاوتات الاجتماعية، وانعدام الفرص، والصعوبات المرتبطة بمساحات الحرية الفردية تتربع على إشكالات المقارنات بين المجتمعات المستقبلة للهجرة ومجتمعات الانطلاق، لتصبح تأثيرات ظاهرة الهجرة على الفرد والجماعات والمجتمع ككل، تبتدئ منذ اللحظة التي يفكر فيها فرد بالهجرة، وتستمر بالتراكم طيلة مسار الهجرة، وتشتد بعد إقامة الفرد بمجتمع الإقامة، وتترك وقعها بعد عودة المهاجر لبلده الأصل. بعد انقضاء رحلة الهجرة والاستقرار في مجتمع الاستقبال، تعود مشكلة التفاوت الاجتماعي، وتضاف إليها مشكلة الاختلاف الثقافي، والتي تمتد في كل تلابيب الحياة الاجتماعية". تحصيل حاصل يعلق مرفوق على الأحداث الأخيرة التي شهدتها الفنيدق وسبتة، قائلا إنها تحصيل حاصل وإن هذا العبور وبهذه الكيفية، ليس الأول، ولن يكون الأخير، لأن علاقة هؤلاء الشباب مع مسألة الهجرة هي علاقة وجودية ترتبط بواقع اجتماعي معين، وظروف اجتماعية معينة وسياقات سوسيو اقتصادية، هي التي تدفع هؤلاء الشباب إلى المغامرة سباحة، من المدن المغربية المتاخمة لحدود سبتة ومليلية، والمغامرة بهذا الشكل ليست مقتصرة على المغاربة فقط، بل حتى الأفارقة جنوب الصحراء، وقد لاحظنا مرارا وتكرارا عمليات محاولات اقتحام الحدود، مع الجارة الإسبانية. ويشير المتحدث نفسه إلى الظروف الاجتماعية والسوسيو اقتصادية لعائلات وأسر هؤلاء الشباب، إضافة إلى الأمثلة الناجحة التي هاجرت إلى أوربا وعادت، بعد سنوات من الهجرة، وانحسار الآفاق بشكل جعل العديد من الشباب يرى أنه لا يمكن تحقيق أحلامهم وطموحاتهم معها، لأن من يهاجرون بهذه الطريقة نسبة منهم لا تتوفر على مستوى تعليمي ولا يملكون حرفة معينة، وبالتالي لم يسبق لهم أن اشتغلوا في المغرب أو حاولوا ذلك، وبالتالي لم يبق أمامهم سوى هذا الحلم وتحقيقه بطريقة من الطرق. إلا أن الأساس الذي يدفع هؤلاء الشباب إلى المغامرة بحياتهم من أجل الجنة الموعودة مرتبط بنوع من التمثلات التي يحملها الشباب عن الغرب عموما، و الدول الأوربية على وجه التحديد، فبالنسبة إلى العديد منهم المستقبل لا يوجد هنا بالمغرب، بل يوجد هناك، حيث يؤكد محمد مرفوق أنه "ما مات الأفراد في حرب من حروب الأبيض المتوسط كما مات المهاجرون السريون في البحث عن الأرض الموعودة"، وقد دقق محمد مرفوق في دوافع الهجرة و أسبابها في الفصل الأول من الكتاب، والذي يستعرض فيه مجمل التصورات المرتبطة بفعل الهجرة . أضغاث أحلام في سياق ربط مضامين كتاب الباحث محمد مرفوق بواقع الشباب المعاش فإن الدوافع المحركة للهجرة الجماعية نحو إسبانيا، لا ترتبط فقط بالمناطق الشمالية فقط، بل إن المناطق الجنوبية أيضا لها نصيبها من هذه الظاهرة، حيث يهاجرون نحو جزر الكناري، ومن هناك يمكنهم الدخول إلى الديار الأوربية، أي أنه أصبح لدينا مركز جذب للهجرة السرية بالمغرب. أما بالنسبة إلى الظروف كما يؤكد ذلك محمد مرفوق فهناك حلم وهناك رؤية مرسخة وتمثلات على أن الديار الأوربية، والغرب عموما، توفر للمواطنين، سواء كانوا أجانب أو سكانا أصليين، كل ظروف الحياة الكريمة لتحقيق الذات والثروة بسهولة، وهذا التمثل نابع من الصور النمطية التي يتم تسويقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الإعلامية والقنوات الدولية، وبالتالي فهذه الصورة المترسخة لدى الشباب هي ما تدفعه نحو الهجرة. إضافة إلى ذلك هناك تأثير تجارب الهجرة الناجحة، التي سبق أن ذكرها محمد مرفوق في الفصل الأول، إذ في سياق تواصل الناجحين في تجاربهم في الهجرة، يسوقون لذلك المجتمع الذي يكرم مواطنيه ومهاجريه، وهذه ليست الصورة الحقيقية، بل هي مجرد أمثلة لا تعكس الواقع بصدق، ويجب في هذا السياق أن نستحضر أيضا النماذج الفاشلة، والأشخاص الذين مازالوا متورطين في هجرتهم للديار الأوربية ولم يتمكنوا من تحقيق شيء يذكر، ولم يجدوا تلك الجنة الموعودة، أو ذلك المجتمع المثالي الذي يحقق الكرامة لمواطنيه، ويعزو ذلك محمد مرفوق إلى الصورة النمطية التي ترسخت بعد الحرب العالمية الثانية إبان الثلاثين المجيدة، بعد أن احتاجت أوربا إلى اليد العاملة، من مستعمراتها السابقة، من أجل إعادة الإعمار والبناء، وشيدت أوربا الحالية بسواعدها، لكن أوربا صارت تعتبر الأجيال اللاحقة من أبناء هؤلاء المهاجرين الذين ساهموا في نهضتها، إشكالا حقيقيا، إذن فهي صورة تراكمت على مدى سنوات وعقود، وهذه الصورة هي التي انبنت عليها جل محاولات الهجرة من قبل الشباب نحو القارة الأوربية وغيرها من دول الغرب. اللجوء... شروط ومساطر كما استعرض الباحث محمد مرفوق في الفصل الرابع من الكتاب المقتضيات والمساطر التي تتبعها المفوضية العليا للاجئين لمنح اللجوء للمهاجرين، مؤكدا أن المفوضية العليا للاجئين، تضع شروطا صارمة للجوء الذي لا يقدم إلا في حالات معينة، إذ هناك لجوء سياسي، خاصـــــــــــة إذا كانت للمهاجر مشاكل سياسية في بلـــــــده الأم، وهناك لجوء إنساني، وهو نوع من اللجوء ينبني على قناعات شخصية للفرد، فهناك مثلا لجوء للمثليين جنسيا، خاصة إذا كانوا في بلدان لا تشجع على المثلية ولا تطبع معها، ثم هناك اللاجئون الثقافيون، خاصة الذين يريدون تغيير ديانتهم ويشعرون بالخطر في بلدانهم إذا غيروها، وهناك اللاجئون الجدد، وهم اللاجئون بسبب الظروف الطبيعية ولاجئو التغيرات المناخية، ولاجئو الحروب، فضلا عن نوع آخر من اللاجئين الأفارقة جنوب الصحراء والذين يفرون من بلدانهم لاعتبارات صحية حيث يجد فئة منهم أنفسهم أمام خطر الموت للطلب المتزايد عن دمائهم التي تستعمل في السحر الأسود. وبالتالي فمسألة طلب اللجوء تخضع لمسطرة قانونية طويلة الأمد، يمكن أن تصل إلى سنتين أو ثلاث سنوات، يتم فيها الإنصات إلى اللاجئ واستفساره عن سبب لجوئه، ثم يتم التحقق من ذلك بإرسال ملفه إلى البلد الأم، وإخضاعه لمجموعة من المقابلات. و يضيف محمد مرفوق أنه في أوربا يكون اللجوء الذي يقدم إلى المهاجرين من شمال إفريقيا في حالات نادرة وقليلة، لاعتبارات معينة، بحكم أنهم يعتبرونها مجتمعات مستقرة، وليست فيها حروب ومشاكل يمكن أن تدفع بالمفوضية العليا للاجئين لأن تقر بلجوئهم. ويضيف محمد مرفوق أن القاصرين من المهاجرين لا تتم إعادتهم إلى بلدانهم، ويتم توفير مسكن لهم، والعديد من الخدمات حتى يصلوا إلى السن القانوني فيمكنهم الحصول على أوراق الإقامة ما لم يقترفوا جرائم يعاقب عليها القانون، ما عدا ذلك، فعموما فكل دولة لها قانونها الخاص بالهجرة، ففي إسبانيا يجب أن تتعدى ثلاث أو خمس سنوات، حسب المناطق وحسب الجهات، وفي فرنسا لا يمكنك الحصول على أوراق الإقامة إلا وفق شروط معينة، فالدول الأوربية ليست متفقة على مسألة الهجرة، بشكل موحد، فكل دولة لها تشريعاتها ومساطرها الخاصة. بين الفردانية ومنطق الجماعة الهجرة السرية نحو أوربا هي أحلام وردية وتجانب الصواب والواقع، يقول مرفوق، لأن الحياة داخل المجتمع الأوربي الحديث، هي حياة صعبة جدا، حتى بالنسبة إلى مواطني تلك المجتمعات، وبمقارنة بسيطة بين مجتمعنا المغربي والمجتمعات الغربية عموما، فالمجتمع الغربي، تبعا للسوسيولوجيا الحديثة فهو يعيش الفردانية أي أن الفرد هو الشخص الذي يقدم كل شيء، وهو الشخص الذي تبنى عليه الدولة، ويبنى عليه المجتمع، في حين أننا في مجتمعنا المغربي لا نعيش الفردانية، لكن نعيش بمنطق الجماعة، ومنطق التضامن الاجتماعي، أي أنه منطق مغاير للمجتمعات المعاصرة، وهاته المسألة ستضع الفرد الذي سيصل إلى المجتمع الأوربي أمام إشكالين رئيسيين، الأول هو أنه لا يجد تضامنا من طرف أعضاء جماعته، حتى وإن وجده في الأسابيع الأولى فإن هذا التضامن ليس ممتدا في الزمن، وبالتالي فإنه يفهم مع مرور الوقت أن الفرد هو أساس كل شيء، وأنه هو الوحيد المسؤول عن وضعيته، وهو الوحيد الذي يجب أن يتحرك، فإذا كان الفرد يعيش داخل الجماعة في المجتمع المغربي فإنه سيجد صعوبة كبرى للتأقلم وفي أن يصبح فردا من هذا المجتمع الحديث. وعندما يصل الفرد إلى هناك، فأول شرط يجب أن يتوفر عليه هو أن يتكلم لغة البلد الذي يحل فيه، هناك بعض الأفراد الذين يستبقون المسألة، ويقومون بتكوينات في اللغة، ونسبة قليلة من تقوم بذلك، وبالتالي عندما يصطدم بالعائق الأول وهو عائق اللغة لأنه بدونها من الصعب أن يتحقق التواصل، وبالتالي تقل فرص الشغل والنجاح في الحصول على أوراق الإقامة. فالظروف الاجتماعية التي يعيش فيها الأشخاص الذين هاجروا بطريقة غير شرعية في مجتمعات الاستقبال، تتعلق بأوضاعهم: أين يقطنون؟ وكيف يعيشون؟ هذه الوضعية تدفع الكثيرين إلى عدم البوح بما يعيشونه ولا يستطيعون العودة إلى المغرب من أجل بناء حياتهم من جديد، لأن ذلك سيكون صعبا، إذا لجأنا لمنطق المحاسبة الاجتماعية، لذلك هناك من يفضلون أن يعيشوا حياة غير إنسانية على أن يعودوا إلى بلدهم والخضوع للمساءلة الاجتماعية من قبل محيطهم القريب.