تدابير قانونية من شأنها تغيير السياسة الجنائية وتساؤلات حول مدى قدرة تطبيقها على أرض الواقع يتبقى جزء يسير أمام قانون العقوبات البديلة ليترجم على أرض الواقع، في إطار السياسات الرامية إلى التخفيف من الاكتظاظ الذي تعرفه السجون، والذي كان مطلبا لسنوات، وتبناه وزراء عدل سابقون قبل عبد اللطيف وهبي، الذي تمكن من الدفاع عنه، وإخراجه في الصورة الأخيرة التي صادق عليها مجلس المستشارين، أخيرا، والذي يمكن تطبيقه على أرض الواقع لبلورة عدالة مواطنة، لا تجعل من أولوياتها فقط سجن أشخاص، بل تعمل على إعادة تهذيبهم بتدابير بديلة للاعتقال. حدد مشروع قانون العقوبات البديلة الذي صودق عليه، نطاق العقوبات الحبسية التي يمكن استبدالها، والمتعلقة أساسا بالجنح التي لا تتعدى مدة العقوبة المحكوم بها خمس سنوات حبسا نافذا. هذا التحديد يجعل الإطار العام لتطبيق العقوبات البديلة محصورا فقط في الجنح، رغم أن عددا من المستشارين بالغرفة الثانية وبصفة أدق بلجنة العدل والتشريع طالبوا بتمديد هذا المقتضى ليشمل كذلك بعض الجنايات التي لا تتعدى مدة الإدانة فيها خمس سنوات. وهبي: ركيزة السياسات العقابية الحديثة في كلمة تقديم مشروع القانون، الذي حظي بموافقة 36 مستشارا برلمانيا وامتناع 6 مستشارين عن التصويت، قال عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، إن العقوبات البديلة تشكل وجها مشرقا في تاريخ السياسة الجنائية وأضحت خيارا أساسيا وركيزة من الركائز في السياسات العقابية الحديثة، حملت تغييرا عميقا في فلسفة العقوبة ووظائفها عبر تدعيم غايتها الإصلاحية والإدماجية على حساب البعد الانتقامي. وسجل الوزير أن جل الأنظمة الجنائية الحديثة راهنت بشكل كبير على تبني نظام العقوبات البديلة سبيلا لتحديث وتطوير سياستها العقابية والحد من إكراهات الوضع العقابي القائم نتيجة الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية، والتغلب على مساوئ العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، التي لا تكفي زمنيا لتحقيق البرامج التأهيلية والتكوينية، بل بالعكس تسهم سلبا في إدماج المحكومين بها بفعل الاختلاط مع من هم أكثر خطورة، مشيرا إلى أنه تم في إعداد هذا النص، استحضار جل المرجعيات والقواعد والمعايير الدولية المعتمدة، وعلى رأسها المبادئ العامة الواردة في قواعد الأمم المتحدة النموذجية للتدابير غير الاحتجازية، لضمان التوازن بين حقوق المحكوم عليهم وحقوق الضحايا وحق المجتمع في الأمن العام ومنع الجريمة، من خلال توسيع دائرة الاستفادة مع استثناء الجرائم الخطيرة والأشخاص العائدين والتنصيص على تدابير إصلاح أضرار الجريمة. العمل للمنفعة العامة من التدابير التي جعلها مشروع القانون على رأس العقوبات البديلة، التي يمكن الحكم بها، تلك التي تتعلق بالمنفعة العامة، إذ أكد مشروع القانون أنه يمكن للمحكمة أن تحكم بعقوبة العمل لأجل المنفعة العامة، بديلا للعقوبة السالبة للحرية، إذا كان المحكوم عليه بالغا من العمر 15 سنة على الأقل في تاريخ صدور الحكم، إذ يعتبر العمل لأجل المنفعة العامة غير مؤدى عنه، وينجز لمدة تتراوح بين 40 ساعة و3600 لفائدة مصالح الدولة أو الجماعة الترابية أو مؤسسات أو هيآت حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة أو المؤسسات العمومية أو المؤسسات الخيرية أو دور العبادة. وحدد القانون طريقة حساب الساعات، التي يفترض أن يعمل فيها المستفيد منه لأجل المنفعة العامة المحكوم بها، مساواة عن كل يوم من مدة العقوبة الحبسية المحكوم بها، لثلاث ساعات من العمل، مع مراعاة الحدين الأدنى والأقصى لعدد ساعات العمل المنصوص عليها، كما يراعى في العمل عند الاقتضاء توافقه مع جنس وسن ومهنة أو حرفة المحكوم عليه أو مع مؤهلاته وقدراته، كما يمكن أن يكون مكملا لنشاطه المهني أو الحرفي المعتاد. ويلتزم المحكوم عليه بتنفيذ العقوبة، بالعمل لأجل المنفعة العامة داخل أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ صدور المقرر التنفيذي، ويمكن تمديد هذ الأجل لمدة مماثلة مرة واحدة، بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات، بناء على طلب من المحكوم عليه أو طلب من دفاعه. الحدث يمكنه الاستفادة لم يستثن مشروع قانون العقوبات البديلة الأحداث المدانين في جرائم جنحية من الاستفادة من تلك التدابير، خاصة العمل لأجل المنفعة العامة، إذ يجب على قاضي الأحداث أن يتأكد من مدى ملاءمة العمل لأجل المنفعة العامة، مع القدرة الجسدية للحدث ومصلحته الفضلى ولحاجيات تكوينه وإعادة إدماجه. وتتحمل الدولة مسؤولية تعويض الأضرار التي تسبب فيها المحكوم عليه، والتي لها علاقة مباشرة بتنفيذ عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة ويحق الرجوع على المحكوم عليه، للمطالبة بما تم أداؤه. المراقبة الإلكترونية وضع مشروع القانون المصادق عليه في البرلمان المراقبة الإلكترونية في الرتبة الثانية، بديلا عن العقوبة السالبة للحرية، التي يتم الخضوع إليها من خلال مراقبة حركة وتنقل المحكوم عليه إلكترونيا بواحدة أو أكثر من وسائل المراقبة الإلكترونية المعتمدة، ويحدد مكان ومدة المراقبة الإلكترونية، من قبل المحكمة وتراعى في تحديدها خطورة الجريمة والظروف الشخصية والمهنية للمحكوم عليه وسلامة الضحايا، وعدم المساس بالحقوق الشخصية للأشخاص الموجودين رفقته. تقييد بعض الحقوق من التدابير التي يمكن تفعيلها بديلا للعقوبة السالبة للحرية، الحكم بعقوبة مقيدة لبعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، وتستهدف هذه العقوبات اختبار المحكوم عليه للتأكد من استعداده لتقويم سلوكه واستجابته لإعادة إدماجه، وتتمثل تلك العقوبات في مزاولة المحكوم عليه نشاطا مهنيا محددا أو تتبعه دراسة أو تأهيلا مهنيا محددا، وإقامة المحكوم عليه بمكان محدد والتزامه بعدم مغادرته أو بعدم مغادرته في أوقات معينة أو منعه من ارتياد أماكن معينة أو من عدم ارتيادها في أوقات معينة، وفرض رقابة يلزم بموجبها المحكوم عليه بالتقدم في مواعيد محددة، إما إلى المؤسسة السجنية، وإما إلى مقر الشرطة أو الدرك الملكي أو مكتب المساعدة الاجتماعية بالمحكمة، بالإضافة إلى الحكم بالتعهد بعدم التعرض أو الاتصال بالأشخاص ضحايا الجريمة بأي وسيلة كانت، وفي حالات معينة يمكن الحكم بخضوع المحكوم عليه لعلاج نفسي أو علاج ضد الإدمان، وتعويض أو إصلاح المحكوم عليه للأضرار الناتجة عن الجريمة. ويلتزم المحكوم عليه بتنفيذ العقوبات المقيدة لبعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية داخل أجل لا يتجاوز ستة أشهر، ويمكن تمديد هذا الأجل لمدة مماثلة مرة واحدة بطلب من المحكوم عليه أو من له مصلحة في ذلك، بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات، إن اقتضى الأمر ذلك. الغرامة اليومية أثارت مسألة الغرامة اليومية، أو ما اصطلح عليه "شراء أيام السجن" نقاشا حادا، خلال عرض مشروع القانون، إذ اعتبر البعض تلك الوسيلة، قد تساهم في الإفلات من العقاب، وهو الإجراء الذي دافع عنه وزير العدل، مؤكدا أنه يخدم العدالة. ومنح هذا التدبير المحكمة إمكانية الحكم بالغرامة اليومية بديلا للعقوبة الحبسية النافذة، إذ تتمثل الغرامة اليومية في مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، ويمكن الحكم بعقوبة الغرامة اليومية عن الأحداث في حال موافقة أوليائهم أو من يمثلهم. وحدد التعديل مبلغ الغرامة اليومية، في 100 درهم حدا أدنى و2000 درهم حدا أقصى، تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، مقيدا الحكم بهذه العقوبة بالإدلاء بما يفيد وجود صلح أو تنازل صادر عن الضحية أو قيام المحكوم عليه بتعويض أو إصلاح الأضرار الناتجة عن الجريمة. وتراعي المحكمة في تحديد غرامة هذه العقوبة البديلة عن العقوبة السالبة للحرية، الإمكانيات المادية للمحكوم عليه وتحملاته المالية وخطورة الجريمة المرتكبة والضرر المترتب عنها. ويلتزم المحكوم عليه بأداء المبلغ المحدد له في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ صدور المقرر التنفيذي، ويمكن التمديد لأجل مماثل مرة واحدة بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات، بناء على طلب المحكوم عليه أو من له مصلحة في ذلك. ثلاثة أسئلة: الشفاء العاجل صادقت لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين على مشروع قانون العقوبات البديلة، هل هذه التدابير من شأنها تخفيف الاكتظاظ؟ توقعت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج في تقريرها برسم 2022، ارتفاع عدد السجناء في المغرب 2026 ليتجاوز 104 آلاف سجين وسجينة، وأن يرتفع عدد المعتقلين الاحتياطيين إلى أكثر من 40 ألفا. وحول وضعية السجناء المحكومين بعقوبات نهائية، أوضح التقرير أن العقوبات القصيرة، أقل من سنتين حبسا، تأتي على رأس العقوبات المحكوم بها بنسبة تقارب 50 %، في حين لا تتجاوز عقوبتا المؤبد والإعدام نسبة 1 %. وكشف التقرير نفسه أن حالات الاعتداء بين السجناء سجلت ارتفاعا خلال السنوات الماضية، وسجلت أكثر من 6900 حالة. ولمناسبة مناقشة ميزانية المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج لـ 2017، أكد المندوب السامي أن الحكومة المغربية تصرف حوالي 446 مليون درهم، نفقات سنوية مباشرة على حاجيات السجناء الخاصة، منها حوالي 370 مليون درهم لتغذية السجناء، حوالي 16 مليون درهم للطاقة من أجل التدفئة والطبخ، حوالي 10 ملايين درهم لشراء مواد النظافة بالسجون، وحوالي 26 مليون درهم لاقتناء الأدوية ومواد الصيدلة الخاصة بالسجناء، وحوالي 13 مليون درهم يتم صرفها كذلك على الدراسة ومواد التربية المهنية والكتب والبذلات الرياضية. وقد وصلت الميزانية المخصصة للتغذية برسم 2023 إلى 746 مليون درهم. هذه الاحصائيات المهولة والمكلفة اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، دفعت الى تبني قانون العقوبات البديلة، بالنظر للتزايد المطرد لنزلاء السجن، وهو ما يشكل ظاهرة مقلقة تستدعي إيجاد مداخل قانونية للحد من آثارها السلبية. هل تظنون أن المجتمع سيتقبل هذه التدابير؟ العقوبات البديلة تعد المدخل القانوني و الشفاء العاجل للمسألة الحقوقية لتخفيض تكلفة نظام العدالة الجنائية، ولتوفير فرصة للمجتمع للاستفادة من قدرات المدانين المحتملة وتصحيح سلوكاتهم، بدلا من عزلهم في بيئة السجن، وهو ما يتيح لهم فرصة لاكتساب مهارات جديدة وتعلم القيم الاجتماعية والمسؤولية والمواطنة. والأكيد أن المجتمع سيتقبله بالنسبة للعقوبات الصغيرة والمتوسطة للمنافع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، التي سيجنيها من تطبيق نظام العقوبات البديلة، لأن السجن يجب أن يبقى آخر وسيلة للإصلاح، وطالما أن هناك خيارات مادية واجتماعية ومهنية بديلة يمكن أن تعوض السجن، فالأولى الحفاظ على حرية الأشخاص بما أنها أقدس ما يملكون، وتقديم مكاسب للمجتمع تفوق سجنهم . السياسة العقابية بالمغرب لا تقبل مسألة "شري حبسك"، كيف يمكن بلورتها على أرض الواقع؟ الحقيقة أن هذه الفكرة كانت مستحكمة في السابق مجتمعيا، وتأكدت تشريعيا على مدى عقود، وإن كانت هناك تلطيفات لها، سيما بالنسبة للإفراج المؤقت أو بعدم الإيداع في السجن، مقابل كفالة مالية، وكان يتم تقرير منح السراح عوض السجن في كثير من القضايا، ويشكل قانون العقوبات البديلة ثورة في السياسة العقابية، وطبيعي أن تتغير الأفكار والمبادئ، لاسيما أن الواقع لا يرتفع واكتظاظ السجون واقع فرض نفسه على الدولة والمجتمع، ومن هنا تمت إعادة صياغة قواعد جديدة وبدائل مستحدثة لتعويض العقوبات السجنية، بالعقوبات البديلة المالية والاجتماعية والمهنية. والأكيد أن حكمة القضاة وكفاءتهم ستكون معيارا حاسما في إنجاح هذه القوانين وضمان التطبيق الأمثل لها، لتفادي احتكار الاستفادة من هذه العقوبات البديلة على الميسورين والأغنياء، بأن يستفيد منها الجميع كل حسب طاقته المادية، وبأن يتم اختيار بدائل للعمل للمنفعة العامة أو غيرها، بالنسبة لمن ليست له القدرة المالية، وكما كان يتم تكييف الكفالات المالية مقابل السراح المؤقت، حسب وضع المتهم المالي والاجتماعي والمهني، سيتم بقواعد الحكمة والاقتدار نفسها تكييف العقوبات البديلة في مجملها مع ظروف المحكوم عليهم. ولنا ثقة كبيرة في المؤسسة القضائية وفي الدفاع في قيادة التطبيق الأمثل لهذا القانون، الذي يعد رائدا على جميع المستويات بفلسفته الجديدة، القائمة على الإصلاح وضمان الحرية واختيار العقوبات الملائمة، والذي يجعل التشريع المغربي يرقى إلى تشريعات الدول الديمقراطية والمتحضرة. (*) محمد الهيني محام بهيأة الرباط مقبول لدى محكمة النقض دكتور في الحقوق