يعتبرون أنفسهم ضحية حملات مغرضة من قبل أطباء الأسنان سببها المنافسة وصل الخلاف بين أطباء وصناع الأسنان إلى ذروته، في الأيام الأخيرة، فاختلط الحق بالباطل. فالأطباء يدعون إلى استئصال الصناع، لأنهم متطفلون على الميدان، ويتسببون في أمراض خطيرة للمواطنين، في حين يتمسك الصناع بالقول إنهم الأصل، ومن حمل مشعل المهنة قبل تأسيس أول كلية لطب الأسنان بالمغرب. هذه الحرب قسمت أيضا الجميع، سياسيين وإعلاميين وغيرهم، كل يساند طرفا ضدا الآخر، ما يلزم الدولة بالتدخل ليتبين الخيط الأبيض من الأسود في هذا الخلاف. إنجاز: مصطفى لطفي - تصوير: أحمد جرفي بحي عمر بن الخطاب (درب ميلان) بالبيضاء، يقع محل لصناعة الأسنان، فتح منذ سنوات الستينات، فارق مالكه الحياة، وورث أبناؤه المهنة. يتذكر سكان الحي، هذا المحل جيدا، ففي الوقت الذي كانت عيادات طب الأسنان معدودات على أطراف الأصابع بوسط المدينة وحكرا على فئة اجتماعية ميسورة، كان هذا المحل ملاذ كل من أقلقه ضرس، أو أراد تعويضه بآخر، بعد أن فقده بشكل نهائي.يشرف على المحل حميد غواتي، بمشاركة شقيقيه. قسم المحل إلى مختبر صغير لصناعة الأسنان، وغرفة لتركيبها واستقبال المرضى، كأنه يطبق حرفيا المثل الشهير "تبع حرفة بوك لا يغلبوك".في الوهلة الأولى يخيل أنك بعيادة طبية. كرسي خاص متطور ومحاط بأجهزة متطورة،. عبر حميد عن ذلك بابتسامة: " نحن نساير العصر".إلا أن وراء هذه الابتسامة، حرقة على هذا الميدان، خصوصا عندما وجد المهنة التي ورثها عن والده الراحل، تحارب بشكل لا هوادة فيه من قبل أطباء الأسنان.يقول حميد باسم صناع ومركبي الأسنان وفي حلقه غصة: "هناك صعوبات يعانيها صناع الأسنان، بسبب الحرب الشرسة التي يشنها عليهم أطباء الأسنان، فهم لا يدعونهم يعملون بطيب خاطر، ويختلقون العديد من المشاكل لإحراجهم أمام الجميع، فعلاقتنا مع المواطنين طيبة، وتعود إلى سنوات تسبق تأسيس أول كلية لطب الأسنان بالمغرب، وهي النقطة التي تثير غضب الأطباء كلما أشهرناها في وجوههم".وواصل حميد حديثه، وهو يستعرض أجهزة طبية متطورة، اقتناها من أجل مسايرة مستجدات هذه المهنة، "الأطباء يختلقون العديد من الأباطيل لمحاربتنا، من قبيل أننا عديمو الكفاءة ونتسبب في أمراض خطيرة للمواطنين من قبيل السرطان ونشر أمراض معدية مثل التهاب الكبد الفيروسي وغيرها، وهذا غير صحيح. نحن أيضا نستعمل أجهزة معقمة ومماثلة لتلك التي لدى أطباء الأسنان". وبعد صمت أردف محتجا :"لدي سؤال، ألم يسبق لطبيب أسنان وهو المحترف ودارس المهنة لسنوات، أن وقع في خطأ طبي؟". لغة الأرقاممن الأسلحة العديدة التي يشهرها صناع الأسنان في وجه الأطباء، للدفاع عن أنفسهم، لغة الأرقام، فصناع الأسنان كشفوا أن عدد أطباء الأسنان لا يتجاوز 4000 طبيب، وفي نظرهم، أن هذا الرقم يكشف مدى الخصاص لتوفير تغطية طبية لأزيد من 30 مليون نسمة، مع العلم أن أغلبهم يتمركز بالمدن الكبرى. وفي المقابل، يكشف صناع الأسنان، أنهم استطاعوا تغطية هذا العجز، لأن عددهم يتجاوز 30 ألف صانع أسنان.إلا أن هذا الرقم يبقى محل تشكيك من قبل أطباء الأسنان، إذ بناء على إحصائيات صادرة عن وزارة الداخلية، يؤكدون أن العدد الحقيقي لصناع الأسنان لا يتجاوز 3300 صانع، وأن 1700 صانع أسنان يمارسون المهنة دون رخصة.ووسط جدل لغة الأرقام، ترجح الدلائل التي يقدمها صناع الأسنان بقوة الرقم الأول، أي أزيد من 30 ألف صانع، من بينها أن الدولة توقفت عن منح الرخص لمزاولة المهنة منذ سنة 1997، وبالتالي مارس العديد منهم المهنة عبر تأسيس شركات صغرى وتقييدها في السجل التجاري مع الاستعانة بمحاسب، في حين اختار طرف آخر العمل تحت إشراف طبيب.هذا الوضع، كشف أن بعض صناع الأسنان لا يتوفرون على رخصة مزاولة المهنة، وأنهم شرعوا في التنامي كالفطر، واختلط الحابل بالنابل، الأمر الذي أقلق صناع الأسنان أنفسهم، قبل الأطباء، فكان الحل التكتل في جمعيات من أجل التصدي لكل متطفل عن المهنة، ومراقبة عملهم، لتفادي الانتقادات التي يتعرضون لها من قبل الأطباء.إضافة إلى هذا المعطى، فالحديث عن 30 ألف صانع أسنان يطرح سؤالا مهما حول مستقبلهم، في حال استجابت الدولة لطلب أطباء الأسنان وأوقفتهم عن العمل، سيما أن كل صانع أسنان، يشغل على الأقل ثلاثة أشخاص، ما يعني أن 90 ألف فرد صاروا مهددين بالتشرد والضياع، وهي معضلة على الدولة معالجتها، يقول صناع الأسنان. سر "العداوة" يرى صناع الأسنان، أن معركتهم مع الأطباء، سببها تضارب المصالح، فصناع الأسنان، نجحوا في منافستهم في المهنة، وهو ما لم يتقبله الأطباء. ولتوضيح هذه النقطة، يقول رضا سباطة، نائب رئيس فدرالية صناع الأسنان بالبيضاء، بفخر :" هجوم أطباء الأسنان علينا له تفسير واحد، وهو أننا صرنا ننافسهم في مهنتهم. أصبح لدينا إقبال كبير من قبل المواطنين، خصوصا الفئات الفقيرة والمتوسطة، التي لا تستطيع مجاراة فاتورة طبيب الأسنان". وبعد صمت، بدا كأنه متردد في قول أمر ما، قبل أن يفصح عنه بشجاعة " صراحة، هم يخشون أن نفضحهم أمام العامة، خصوصا في ما يتعلق بأثمنة تركيب ضرس أو طقم الأسنان، التي نحن من يتكلف بصناعتها لهم، لأننا نبيعها لهم بثمن بخس وهم يعيدون تركيبها للمواطنين بأثمنة خيالية تصل في بعض الأحيان إلى ستة أو سبعة أضعاف الثمن الحقيقي".من جهته، يربط حميد غواتي هذه "العداوة" بغيرة الأطباء من بعض صناع الأسنان، إذ يوضح هذه النقطة قائلا :" أجبرنا تطور المهنة والمنافسة على تطوير وسائل عملنا. استطعنا الحصول على تجهيزات متطورة في مجال طب الأسنان، بل منا من له عيادة تضاهي عيادة طبيب أسنان، وكل عمليات العلاج تتم في ظروف صحية ممتازة وتستجيب لكل المعايير المتفق عليها، وهو الأمر الذي لم يتقبله الأطباء".إلا أن حميد رغم حماسته في الدفاع عن المهنة، يستدرك معترفا أن هناك عددا من المتطفلين عن المهنة، ويتسببون في بعض المصائب للمرضى، فدعا المسؤولين لمساعدة جمعيات صناع الأسنان لوضع قانون ينظم المهنة من أجل محاربة المتطفلين، بدل أن يحاربوا هم بجريرة هؤلاء.ورغم اعترافه بوجود طفيليين في المهنة، يقر حميد أن حتى الأطباء منهم من يتطفل على المهنة. كيف؟حسب قوله، إن بعض الأطباء هم أطباء عامون للأسنان، تقتصر مهمتهم على علاج أمراض اللثة وإزالة الأضراس أو الأسنان المريضة، ورغم ذلك، يمارسون جراحة الأسنان أو زرعها، اللتين تحتاجان إلى دراسة وتكوين وتخصص، فمن يتطفل على المهنة إذا؟ حسب قوله.الوردي وشباط يساندان صناع الأسنانمنذ خمسة أشهر، عقد تجمعيات صناع الأسنان لقاء مع الحسين الوردي وزير الصحة من أجل تقديم مطالبها لتنظيم المهنة. كان اللقاء إيجابيا، فحسب حاجي صبور، رئيس جمعية صناع ومركبي الأسنان بمنطقة سباتة، أزيل حجاب الهيبة أمام الوزير في هذا الاجتماع، الذي أعلن تضامنه معهم، وطالبهم بتقديم ملفهم المطلبي للوزارة، وكشف لهم بخصوص القانون المنظم للمهنة، الذي حصر ممارسة المهنة على أطباء الأسنان فقط، أنه ليس قرآنا منزلا، بل قابلا للنقاش، ما فتح لهم فسحة أمل في الاستمرار في مهنتهم رغم الضربات المتتالية من قبل أطباء الأسنان. وزاد الوزير في تأكيد تضامنه معهم، عندما أكد أن الجميع سواسية أمام القانون، وأن من له الكفاءة من سيظل في السوق.أما حميد شباط، وخلال لقاء مع جمعيات وفدراليات صناع ومرممي الأسنان بمقر حزب الاستقلال بالرباط، فهاجم الحكومة بعد الحديث عن محاولتها الاصطفاف إلى جانب الأطباء الأسنان، إذ حذر من تشريد 40 ألف صانع ومركب ومرمم أسنان، في الوقت الذي يشهد فيه طب الأسنان نقصا حادا في أطره، لعلاج 35 مليون مواطن. وأشاد شباط بالصناع، لأنهم يؤدون الضرائب، ويوفرون فرص شغل للعديد من المغاربة.هامش الربحيستبعد صناع الأسنان انقراض مهنتهم، ولو تحالف أطباء الأسنان مع الشيطان، حسب قولهم، لسبب بسيط أن وجود الأطباء متوقف على صناع الأسنان، فهم من يتكلفون بكل العمليات، من أخذ مقاسات من المرضى إلى صنع الأسنان بمختلف أشكالها، في حين يقتصر دور الطبيب على تركيبها فقط.لحميد غواتي تفسير آخر للحرب التي يشنها عليهم الأطباء، وهي محاولة أطباء الأسنان، تحويل الصناع إلى عبيد يصنعون لهم كل ما يحتاجونه في عيادتهم بأثمنة هزيلة، في حين يعيدون هم بيعها للزبون بأثمنة مرتفعة ومبالغ فيها.وللدفاع عن وجهة نظره، يوضح:" مثلا يتم بيع ضرس مصنوع بأجود المواد بثمن يتراوح بين 250 و400 درهم، ويعيد الطبيب تركيبه للزبون بـ 4500إلى 6000 درهم، كما أن طقم الأسنان ثمنه مابين 500وألف درهم، ويعاد تركيبه من قبل الطبيب بمبلغ يتراوح بين 8000 و12 آلاف درهم، وهنا يظهر الفرق الشاسع في الأرباح".وكشف حميد أن هامش الربح الكبير لأطباء الأسنان، لم يكن يعنيهم في البداية، إذ حسب قوله "الله إسهل على كل واحد"، لكن ستقع تطورات أضرت بهم، دفعتهم إلى البوح بهذا السر.من بين هذه التطورات، حسب حميد، أن العديد من أطباء الأسنان صاروا يتحكمون في مصير الصناع ماديا، إذ أن عددا كبيرا من أطباء الأسنان مدينون لهم بمبالغ مالية، والسبب أنهم يتهربون من تسديد مستحقاتهم المالية، متناسين أن هناك تكاليف مهمة أنفقها صانع الأسنان لتوفير هذه الخدمة. بعض الأطباء مدانون بسبعة ملايين، وعندما نطالبهم بمستحقاتنا، يتحججون في مماطلتهم أنهم في ضائقة مالية، رغم أنهم يعيدون بيع الأسنان للمرضى بأضعاف ثمنها الحقيقي. وأمام هذا الوضع، يؤكد حميد، اضطر العديد منهم إلى استقطاب زبناء، والتعامل معهم بشكل مباشر، وهو ما مكنهم من تحقيق توازن مالي. ضغوط وابتزازمن بين المضايقات التي يتعرض لها صناع الأسنان، يكشف رضا نائب رئيس فدرالية صناع الأسنان بالبيضاء، عن واقعتين اعتبرهما دلالة على قمة "التحقير" الذي يتعرضون له.الواقعة الأولى حدثت بحي الألفة، عندما مارست لجنة تابعة لعمالة الحي الحسني ضغوطا على زميل لهم، انتهت بإغلاق محله، بحجة أنه يمارس المهنة بشكل غير قانوني، وأنه يعرض زواره لأمراض خطيرة، لكن بعد شهر من إغلاق المحل، سيتفاجأ الجميع بتفويته إلى طبيبة أسنان. واستغرب رضا كيف سمحت السلطات المختصة لهذه الطبيبة فتح عيادتها وممارسة المهنة في إطار غير قانوني، بحكم أن الحصول على رخصة الجهة المختصة، يستغرق ثلاثة أشهر من تاريخ الحصول على مقر العيادة.وبشكل ساخر، علق على الموقف قائلا :" هدف اللجنة كان تفويت المحل للطبيبة، لأنه يقع في موقع مغر وإستراتيجي، سيدر دخلا ماليا مهما على صاحبته".أما الواقعة الثانية، حسب رضا دائما، عندما قرر رفقة زملائه في جمعية صناع ومركبي الأسنان بالحي الحسني، تنظيم دورة تكوينية بمسرح محمد السادس بالصخور السوداء، تحت إشراف مختص وضيوف من الخارج. اتبعوا جميع المساطر القانونية وحصلوا على موافقة الجهات المختصة، لكن عندما توجهوا إلى المسرح، تفاجؤوا أن قائدة بالمنطقة تمنعهم من تنظيم الدورة التكوينية، وعندما قدموا لها رخص إقامة اللقاء، تمسكت بالرفض، ليتبين لهم في ما بعد أن لوبي طب الأسنان، من مارس ضغوطه على مسؤولين محليين لنسف هذه الدورة التكوينية، وتمكن من هدفه. كرونولوجيا مهنة صناعة الأسنان ينظر صناع الأسنان، إلى تاريخهم بفخر، فهم أول من احترف هذه المهنة بالمغرب منذ الحقبة الاستعمارية، بل يعتبرونها تعود لقرون، كانت بدايتها في البوادي والأسواق الأسبوعية، وانتقلت إلى المدن تدريجيا.تشكلت النواة الأولى لصناع الأسنان المغاربة بالمدن، من مغاربة عملوا تحت إشراف أطباء أسنان فرنسيين خلال الحقبة الاستعمارية، وعندما غادر هؤلاء المغرب، تولوا هم الإشراف على المهنة، سيما مع صدور ظهير 1960 المنظم الوحيد لمزاولة مهنة التمريض، إذ مارسوا إلى جانب أطباء أسنان مغاربة محدودي العدد، تخرجوا من كليات طب بأوربا. واستمر هذا الوضع لحقبة طويلة، إلى أن قرر الملك الراحل الحسن الثاني تدشين شعبة طب الأسنان بكلية الطب بالبيضاء، وهنا بدأت انطلاقة أطباء الأسنان المغاربة.استمر عدد صناع الأسنان في تزايد بعد تأسيس معاهد خاصة لصناعة وترميم الأسنان، تخول لطلبتها دبلوما للعمل في المختبرات الخاصة بصناعة الأسنان، التي لا يتجاوز عددها حاليا 400 مختبر، إلا أنه بسبب ضعف الأجور، قرر العديد منهم، بعد أن راكموا خبرة في هذا المجال، فتح "عيادتهم" الخاصة، والتعامل بشكل مباشرة مع المواطنين ما حقق لهم دخلا مريحا. وهنا بدأت المشاكل، إذ حسب قولهم، وجدوا أنفسهم ينافسون الأطباء، سيما بعد أن حددوا تعريفات في متناول الجميع.هذه الكرونولوجيا، يتحجج بها صناع الأسنان لمواجهة الاتهامات بتسببهم في أمراض خطيرة، فهم يطروحون سؤالا يعتبرونه مشروعا : "من أشرف على علاج المغاربة خلال فترة ما بعد الاستعمار؟ أليس صناع الأسنان، وأين كان الأطباء وقتها؟ ولماذا لم تنتشر هذه الأمراض الخطيرة بين المغاربة ؟".