جوانب من مسار العراب الصامت للمجموعة الأسطورية لقبه الكثيرون بـ "الفنان الصامت". يبدو وكأنه لم يكن ينطق إلا من خلال أنامله وهي تداعب آلة "البانجو"، التي كان يروضها كما يشاء. علال يعلى اسم بثقل المجموعة الأسطورية "ناس الغيوان" التي كان أحد مؤسسيها، وحمل على أكتافه وبين أنامله مسؤولية ضبط ألحانها موسيقيا وإيقاعيا ومقاميا. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الاستثنائي الذي ظل بمثابة العلبة السوداء الموسيقية للمجموعة الأشهر في تاريخ المغرب. إعداد: عزيز المجدوب بالكريان الجديد بالحي المحمدي كان الميلاد سنة 1941، ووسط هذا الحي العمالي استنشق صدر علال يعلى أولى نسمات الهواء المشبع برائحة المصانع وجلبة العمال الذي يقصدون مصانعهم باكرا، قبل أن يؤويهم المساء إلى أكواخهم أو منازلهم الصغيرة المحيطة بمقرات عملهم. نزحت أسرة يعلى سنة 1923 من قبيلة "أولاد برحيل" بإقليم تارودانت، ليستقر بها الحال بالكريان الجديد، حيث كان والد علال يشتغل بأحد مصانع "الشابو"، وفي الوقت نفسه مقدما لطائفة هوارة وأحد الضالعين في إيقاعاتها. أنجب والد يعلى 12 طفلا وطفلة، عاش منهم خمسة فقط، وكان علال أصغرهم. ومما يذكره عن طفولته الظروف الصعبة التي كان يعيشها المغرب خلال فترة الأربعينات، والظروف الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة بفعل توالي الحروب والمجاعات، وأيضا بسط المستعمر الفرنسي سيطرته على المناطق الخاضعة له بقوة الحديد والنار، وكتم أنفاس السكان وفرض نوع من حظر التجول بالليل عليهم، فضلا عن حملات التفتيش والمداهمة للمنازل والأكواخ خاصة بعد تصاعد مد المقاومة نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات. الميزان بالوراثة فتح علال يعلى عينيه على الأجواء الخاصة التي منحتها له فضاءات الحي المحمدي المشبعة بالتنوع والتعدد العرقي والثقافي. والدته الشهيرة ب"مي جميعة" كانت "مولدة" مشهورة بالحي، يكفي أن تحمل في يدها حفنة ملح وتقصد البيوت التي تستنجد بها كلما اشتد مخاض الوضع بامرأة حامل، ما أكسبها شهرة كبيرة وسط أبناء الحي الذين مازال الكثيرون يدينون لها بتسهيل مهمة خروجهم إلى الدنيا. أما الوالد فلم تثنه ساعات العمل الطويلة في "لاشين" بأحد معامل "الشابو" عن مواصلة عشقه للميزان الهواري، إذ كان يجتمع برفاقه كل سبت ليحيوا حفلات غنائية، كان فيها فارسا لا يشق له غبار في ضبط هذا الميزان الصعب. لكن والد علال رغم شغفه بالموسيقى والإيقاعات، إلا أنه آثر أن يظل أبناؤه بعيدين عن هذا الشغف الخاص، لكن دون أن يدري أن جينات الولع بالأنغام قد تسربت إلى اثنين من أبنائه هما علال و"الزاز". لم يكن المناخ المشبع بالفن الشعبي الذي كانت توفره "الحلاقي" المنتشرة بالحي المحمدي، يمر دون أن يترك أثره في نفسية علال يعلى، الذي وجد نفسه مسكونا بالإيقاعات و"الميازن" التي ورث جيناتها عن والده. كما كان علال يغشى "حلاقي" الحي التي كانت تعكس جزءا من العادات والتقاليد الخاصة بالسكان الوافدين على الحي والذين حافظوا عليها في حياتهم اليومية، كما كانت الفنون التي تقدم فيها لمحة عن المزاج العام للتشكيلة السكانية المكونة للحي. عود "الزاز" كان بيت الأسرة ينضح بالنغم، رغم أن الوالد لم يكن يفصح عن ولعه وإتقانه الميزان الهواري، وشقيقه الأكبر الملقب ب"الزاز" يداعب آلة عوده خلسة. إذن آلة العود كانت المدخل الأول لعلال لمداعبة الأوتار، لأول مرة، إذ بمجرد ما يكون شقيقه غائبا حتى يتسلل إلى الغرفة المودعة فيها آله العود ويشرع في مداعبتها، ومحاولة تتبع أنغامها بأنامله علّه يستعيد ما كانت تلتقطه أذناه من هنا وهناك، سواء عبر جهاز الراديو أو الفونوغراف أو "الحلاقي". وخلال الفترة نفسها حاول علال أن يبتكر آلته الموسيقية الخاصة، وصنعها من "الطارّو" وركب أوتارها بنفسه، حتى يتسنى له مداعبتها أنّى شاء دون أن ينتظر غياب شقيقه، كما كان يصنع آلات الناي من القصب ويحاول العزف عليها، ومحاكاة ما يسمعه من أصوات وأنغام. كان والد علال رافضا بشكل حاسم هذا الشغف الطارئ بالموسيقى الذي أصيب به ابنه، فقد كان يريد له مستقبلا آخر، وهو الذي ألحقه مبكرا بالكتّاب ليتسنى له حفظ ما تيسر من القرآن، قبل أن يسجله بإحدى المدارس الابتدائية الحرة، وهناك بدأ سنواته الأولى في التمدرس، إلى أن تعرض لموقف على يد معلم اللغة الفرنسية بعد أن وجه له لكمة قوية إلى بطنه كادت أن تفقد علال حياته، لمجرد أنه أخطأ النطق في إحدى الكلمات، وهو ما جعله يفقد الرغبة أيضا في تعلم اللغة الفرنسية وشكل لديه عقدة منها ما زالت مستمرة إلى الآن. تابع علال دراسته أيضا في مدرسة "الاتحاد" الشهيرة بالحي المحمدي، وكانت تضم حينها أشهر أبناء الحي الذين سيصير لهم شأن في ما بعد، ويذكر أن من زملاء الدراسة الذين جاوروه بالطاولة نفسها بالقسم الراحل بوجميع وشخص آخر يدعى علي وردة وآخرون. حصل علال على الشهادة الابتدائية نهاية الخمسينات، قبل أن ينتسب إلى معهد الرشاد الذي لم يطل مقامه به بسبب ضعف لغته الفرنسية ليقرر مغادرة أقسام الدراسة، مطلع الستينات، ليجاري ولعه الخاص بالموسيقى ويتفرغ له. الكتاب الذي كون علال ظل علال يعلى يعتقد أن مداعباته الأولى لآلة عود شقيقه "الزاز"، خلسة، كانت كافية لتجعل منه موسيقيا، وهو الأمر الذي زكته ملاحظاته أترابه الذين كانوا يقولون له إنه أصبح "موسيقارا" لمجرد ما أنه يكمل بعض الجمل الموسيقية التي كان يسمعها هنا وهناك بشكل فطري على الآلة. كما أن الثقة الأولية التي اكتسبها علال جعلته يقتحم مبكرا عالم الموسيقى والغناء، من خلال انخراطه في مجموعة من الأجواق الموسيقية التي انتشرت خلال السنوات الأولى للاستقلال، خاصة في الأحياء الشعبية. ومن الفرق التي انخرط فيها علال في بداياته الفنية و لم يتجاوز سن العشرين، هناك فرقة الحاج حسن لطرب الملحون، إضافة إلى فرق أخرى عصرية مثل فرقة "حسن المقدم" كان يقدم رفقتها ما كان سائدا من أغان عصرية جديدة للمعطي بنقاسم وإبراهيم العلمي وبعض المقطوعات الشرقية الخفيفة لفريد الأطرش وغيره. وكان علال يشعر في قرارة نفسه، أن طريقة عزفه ينقصها شيء ما، وهو الأمر الذي تأكد له من خلال إدمانه الاستماع إلى الموسيقى وتردده على بعض الأندية الفنية التي كانت منتشرة بالعديد من أحياء الدار البيضاء. كان اكتشاف علال يعلى لكتاب "الموسيقى النظرية" للباحث والموسيقي اللبناني سليم الحلو، بمثابة استفاقة جعلته يدرك أن الموسيقى ليست مجرد موهبة فطرية، ومحاكاة آلية للأصوات والنغمات، بل هي علم قائم بذاته يتطلب من المشتغل فيه أن يكون ملما بأبجدياته حتى يعرف أين يتجه فيه. قضى علال حوالي سنة منزويا مع كتابه الأثير الذي أغناه عن ولوج المعهد الموسيقي، فكان بمثابة معلمه المباشر الذي مكنه من الإمساك بناصية النغم، وامتلاك جزء من أسراره التي بدت تتكشف له مع مرور الأيام، وبالاحتكاك المباشر مع الموسيقيين الذين واصل معهم الاشتغال في الأجواق العصرية. من المسرح إلى الموسيقى قضى علال يعلى حوالي سنة ضمن تجربة مسرح الطيب الصديقي، ولم يكن أكثر انغماسا في التجربة من زملائه ورفاقه خاصة منهم بوجميع والعربي باطما وعمر السيد، إذ كانت مشاركاته في التجربة تقتصر على العزف وتقديم الموسيقى المصاحبة للمشاهد المسرحية. رغم أن علال لم ينخرط في تجربة الطيب الصديقي المسرحية، ممثلا إلا أن حضوره موسيقيا جعله يواكب عن كثب عمق التجربة، ويطلع على ما اختزنته من أعمال مسرحية ميزت الريبرتوار المسرحي خلال منتصف الستينات. واستفاد علال كثيرا من هذه التجربة التي مكنته من الانفتاح على المخزون التراثي الذي كان يشتغل عليه الطيب الصديقي ويوظفه في أعماله المسرحية، وهو ما التقى فيه مع الأفق الذي كان يوحد الشباب الذين سيكونون العمود الفقري لتجربة "ناس الغيوان" وتجربة المجموعات الغنائية بشكل عام. مياه كثيرة جرت تحت جسر الغيوان، وطرائف كثيرة تخللت مسارهم الحافل بالمجد والشهرة وكذلك الخلافات الأخوية الناجمة عن اختلاف مزاج كل فرد من المجموعة. كانت قوة ناس الغيوان في هذا التنوع، وفي بوهيمية أفرادها و"جنونهم" الخلاق. لم يكن من السهل ترويضهم واحتواء شغبهم، دون أن تكون لذلك آثار جانبية تصيب كل من حاول ذلك. وحده عمر السيد تحمل عبء المجموعة طيلة عقود، جامعا بين الحزم والجد والهزل والجنون. بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضاها علال في حضن تجربة فنية كان أحد أعلامها، ظل يستعيد الوجوه التي مضت واختطفها الموت في أوج عطائها مثل الراحلين بوجمع والعربي باطما وعبد الرحمن باكو، ولسان حاله يردد المقطع الغيواني الشهير "أنا واللي كانوا فيك والنادي أنا". يرتكن علال إلى صمته الذي لا تنفك عقدته إلا بالحديث في الموسيقى والأنغام والإيقاعات والمقامات، خارج هذا الإطار من الصعب جدا أن تستدرج علال إلى البوح بما يختزنه في صدره وذاكرته، كل استدراج لا يكون إلا مغلفا بالنغم وهنا تستنفر ذاكرته حواسها وتستعيد الوقائع والأشياء والأشخاص والمواقف.