الموسيقار عبد الوهاب الدكالي يتقاسم تاريخه الفني مع عشاقه افتتح الموسيقار عبد الوهاب الدكالي منذ أشهر متحفه الخاص، بشقته التي كان يقيم فيها بعمارة الحرية بالدار البيضاء. في هذا الفضاء وضع عميد الأغنية المغربية جانبا من تاريخه الفني والشخصي، رهن إشارة جمهوره ومحبي فنه، ليطلعوا عليه، ويستعيدوا معه ذكريات من زمن الفن الجميل الذي ظل صاحب "أنا والغربة" أحد أبرز وجوهه. في هذا الخاص تقودكم "الصباح" في جولة داخل هذا الفضاء الذي يختزن عقودا من الذكريات. إنجاز: عزيز المجدوب - تصوير: (عبد اللطيف مفيق) كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال. حين وضعت أصبعي على زر شقة في الطابق السابع عشر لعمارة "الحرية" الشهيرة بابن جدية، كنت أتأمل العنوان المكتوب على اللوحة النحاسية، "مؤسسة عبد الوهاب الدكالي للفنون والإبداع" محيطة بعبارة أكبر هي "المتحف الصغير". لم أكد بالكاد أتم قراءة مواعيد الزيارة المحددة طيلة أيام الأسبوع، باستثناء الاثنين، ما بين العاشرة صباحا ومنتصف النهار، ثم الرابعة عصرا إلى السابعة، حتى انفتح الباب وخلفه موظفة الاستقبال بابتسامة ترحيب. قبل أن نجتاز عتبة الباب كان الموسيقار عبد الوهاب الدكالي قد وصل لتوه قادما، من الطابق السادس عشر حيث يقطن، وهو يغالب تعبا يعتريه، جراء عملية جراحية خضع لها، أخيرا، لم يحل دون تقديمه واجب الترحيب بالزيارة والحضور في الموعد المضبوط كما هي عادته دائما. عبر الممر المفضي إلى القاعة الفسيحة، وانطلاقا من الباب حيث يوجد مكتب موظفة الاستقبال، زينت الجدران بعشرات الشهادات بإطارات مذهبة، تعكس جانبا من التقدير الذي حظي ويحظى به "عميد الأغنية المغربية" من قبل ملوك ورؤساء دول ومنظمات وطنية ودولية، في محطات مختلفة من مساره الفني. مسار فني ممتد لأزيد من ستين سنة، لم يكن صاحبه يتخلص من أي شيء. كل قطعة وكل ذكرى وكل قصاصة من محطات حياته، إلا ويحتفظ بذكرى منها، في هوس توثيقي واهتمام خاص بالإمساك باللحظات المنفلتة، من قبل فنان يدرك قيمة التوثيق والأرشيف في صيانة الذاكرة الفردية والجماعية. كيف يمكن للمرء أن يتخيل ما الذي يمكن أن يضمه بين جدرانه ورفوفه وفي مختلف زواياه، فضاء يسع ما يفوق ستة عقود من المجد الفني؟.. هذا ما حاول الموسيقار عبد الوهاب الدكالي أن يكشف لنا عن جانب منه، وهو يقودنا وسط "المتحف الصغير" الذي يحتوي حلما كبيرا لفنان يحرص على تقاسم عالمه الخاص مع زواره وعشاق فنه، وهو عالم وذكريات تعكس تاريخا موضوعيا يتجاوز عبد الوهاب الدكالي الفرد، إلى الرمز والشاهد على أكثر من مرحلة تاريخية. معروضات من كل الأزمنة في الباحة الرئيسية للفضاء، حيث قادنا صاحب "مولد القمر"، ينبسط جزء من التذكارات والجوائز التي حصلها لمناسبات مختلفة، وعلى الجدران لوحات لبورتريهات لشخصيات عالمية وتاريخية ممهورة بتوقيع الموسيقار نفسه رسمها بريشته، مثل الراحل الحسن الثاني وفان غوغ ومحمود درويش وموزار وبتهوفن وغاندي وجيمس دين وفاطمة المرنيسي وألبرت إنشتاين وشارلي شابلن، فضلا عن خزانة كتب تضم عناوين مختلفة معظمها مهدى إليه من قبل مؤلفيها. كما خصص الدكالي خزانة زجاجية وضع فيها تذكارات ملكية من الحسن الثاني والملك فيصل والملك فهد، فضلا عن ساعات متنوعة أقربها إلى قلبه ساعة والده التي ما زال يحتفظ بها، إضافة إلى خزانة أخرى وضع فيها نسخا من جوازات سفره التي تضم تأشيرات زار بها مختلف أرجاء العالم. ويتوسط الباحة الفسيحة تمثال برونزي رأسي لعبد الوهاب الدكالي، وغير بعيد عنه كرسي تجاورت فوقه آلتا عود لشخصيتين فنيتين رفيعتين هما الموسيقار محمد القصبجي والموسيقار محمد عبد الوهاب يحتفظ صاحب "مرسول الحب" بتقدير خاص لهما. قادنا الموسيقار نحو أركان أخرى بالمتحف، منها غرف خصصها لمقتنيات خاصة، منها جناح وضع فيه ملابسه والأزياء التي غنى بها في أشهر سهراته، أو صور بها كليبات أغانيه، فضلا عن نماذج من أسطوانات كثيرة كانت تتصدر المبيعات في وقتها مع شركات إنتاج مغربية وعالمية. وتضم غرفة أخرى صورا له مع شخصيات مختلفة قابلها عبر مساره الممتد، وصورا أخرى توثق عبوره وإقامته في مصر لسنوات، خلال النصف الأول من ستينات القرن الماضي، التي توقف الدكالي في حديثه مع "الصباح" عنها وهي المحطة المفصلية من تاريخه الفني، التي حقق فيها نجاحات وواجه صعوبات. وعلى رأس الصعوبات التي واجهها عبد الوهاب الدكالي، لدى مقامه بالشرق، أنه في بداية الستينات لم يكن المشارقة يعرفون شيئا اسمه الأغنية المغربية، رغم التحاق بعض الفنانين المغاربة بمصر منذ منتصف الخمسينات، مثل عبد الرحيم السقاط ومحمد المزكلدي والطاهر جيمي وأكومي، إلا أن تجاربهم هناك لم تستمر، فضلا عن أن انتشارهم كان محدودا. فكان إذن على عاتق عبد الوهاب الدكالي مهمة إيصال اللهجة المغربية إلى المشرق، لذلك فقد كان حريصا على انتقاء كلمات مغربية واضحة وسهلة التلقي بالنسبة إلى المشارقة، ولم يكن ذلك ليتأتى لولا وجود زجالين وكتاب مغاربة أكفاء انبروا لهذه المهمة، منهم أحمد الطيب العلج الذي كان وراء أول أغنية اشتهر بها الدكالي وهي "أنا مخاصمك"، إضافة إلى الراحل حسن المفتي الذي كان، حينها، مقيما بمصر ويشتغل في مجال السينما، ويحظى بتقدير خاص في الأوساط الفنية هناك. نصيحة محمد عبد الوهاب أتيحت لعبد الوهاب الدكالي فرصة الاحتكاك مع نجوم الطرب العربي منهم عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ورياض السنباطي والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان الدكالي يطمح في أن يغني أغنية من ألحانه، إلا أنه في إحدى المرات استمع موسيقار الأجيال للحن جديد للفنان المغربي الصاعد، آنذاك، هو قطعة "أجي نتسالمو" فأعجب به لدرجة أنه قال له بالحرف "يا وهاب، وهكذا كان يناديه، لا تغن لأي أحد حتى ولو كان محمد عبد الوهاب نفسه". وفعلا منذ ذلك الحين، طبق عبد الوهاب الدكالي نصيحة موسيقار الأجيال فصار يلحن لنفسه، وهو الذي سبق له أن غنى من ألحان آخرين، خاصة في بداياته، منهم عبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام وعبد النبي الجيراري وعبد السلام عامر، روائع أبرزت اسمه مثل "وشاية" و"آخر آه" و"يالغادي فالطوموبيل" و"أنت"، إلا أن الأعمال التي لحنها لنفسه هي التي أعلنت ميلاده نجما مغربيا سطع من الشرق. فخلال وجوده بالشرق، في عقد الستينات، انخرط عبد الوهاب الدكالي في لجة مشهد فني، كان البقاء فيه للأصلح ول"الأبدع"، وتمكن من فرض اسمه هناك أولا بأغنيات ذات نفس جديد، بكلمات مكتوبة بدارجة مغربية "فصيحة"، وألحان تزاوج بين النفحة الشرقية أو اللون المغربي الأصيل يكفي ذكر أمثلة من قبيل "الليل والنجوم" و"ديني معاك" و"أجي نتسالمو" و"ما أنا إلا بشر" أو قصيدة "مولد القمر" أو "حكاية هوى" التي قال الدكالي إنه أعدها خصيصا ليغنيها عبد الحليم حافظ. لم يفوت عبد الوهاب الدكالي فرصة مقامه بالشرق، ليغني أغنيات باللهجة المصرية مثل "إوعي تقصي شعرك" و"سيجارة" و"حكايتي ويا حبي" ويقول عن هذه التجربة "أردت من خلال مثل هذه الأغاني أن أقول للمصريين أنني بإمكاني أن ألحن قطعا بلهجاتهم وأن ذلك أسهل ما يكون، لكن اعتزازي بمغربيتي ولهجتي كان فوق كل اعتبار". فكرة المتحف تحدث عبد الوهاب الدكالي عن رمزية الفضاء بالنسبة إليه، قائلا إن عمارة الحرية ظلت تسكن خياله منذ أول مرة وطأت فيها قدماه أرض الدار البيضاء، قادما إليها من فاس، في زيارة مع والدته، وعمره لا يتجاوز العاشرة، حين وضعتهما الحافلة بحي بن جدية، قبل أن يرفع رأسه منبهرا بعلو العمارة وهو يسأله والدته عنها. وشاءت الظروف بعد أن صنع الطفل الصغير اسمه وأصبح رمزا فنيا في المغرب والعالم العربي، أن يستقر في العمارة نفسها، منذ حوالي ثلاثين سنة، قائلا إنه عشق هذه البناية لعلوها لأنه دائما يحب الأشياء العالية التي ترمز إلى الرفعة والسمو. سكن صاحب "سوق البشرية" في طابقين من العمارة، التي احتضنت شخصيات أخرى، مثل الفرنسي لوميغر دوبروي الذي اغتيل أمام بابها منتصف الخمسينات، من قبل منظمة فرنسية، بسبب تعاطفه مع القضية المغربية، وحملت الساحة المقابلة للعمارة اسمه. ويقول الدكالي إن فكرة المتحف جاءت باقتراح من ابنه الصغير آدم، الذي انتبه إلى حجم المقتنيات والذكريات التي يحتفظ بها والده، فقال له لماذا لا يخصص لها متحفا، فظلت هذه الفكرة ترن في ذهن الأب لسنوات، قبل أن يخصص لها هذا الفضاء باستشارة مع أصدقاء مقربين، شكلوا معه مؤسسة "عبد الوهاب الدكالي للفنون والإبداع"، وترى النور بمجهود شخصي منه. تصميم المتحف وطريقة وضع المعروضات فيه، يخضعان للمزاج الشخصي للموسيقار الذي يقول "إنني فتحت بيتي لهذا الجمهور الذي صنعني، وأجعله يطلع على أشياء يراها لأول مرة".