قلة المادة الخام وغياب الدعم إكراهات أمام المنافسة الأجنبية تنتصب ساحة المشور في عمق عاصمة الفضة، التي اشتهرت منذ القدم بصياغة الحلي الفضية، وتستعرض بشموخ عبق التاريخ العريق، غير بعيد عن سوق "سي بلعيد" الذي كان محجا للراغبين في اكتشاف حضارة وثقافة غنية ومتنوعة جمعت بين اليهود والمسلمين في تطويع هذا المعدن الثمين وتشكيله بإتقان وخبرة، فإذا كان السور الحسني والعين الزرقاء وتاركا والجامع الكبير وقصبة أغناج حافظت على الحمولة التاريخية والرمزية والثقافية والدينية والاجتماعية للمدينة، فإن تسجيل زخرفة الحلي الفضية لتزنيت في قوائم التراث لدى منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، جعلها إحدى أعرق المدن العالمية في صياغة الحلي الفضية، وأكبر سوق وطني يشتهر بأصالة وجودة المنتوج التقليدي"النقرة الحرة". إنجاز: عبد الجليل شاهي (تزنيت) اختار الصائغ التقليدي أحمد لكرش شقة في الطابق الثالث بمنزل وسط ساحة المشور بتزنيت مقرا لعمله الإبداعي، في ركن قصي بها ينحت ويرسم على قطع الفضة حروفه الأبجدية ممزوجة بزخرفات تراثية ضاربة في التاريخ ليخرج تحفا فنية مبهرة. يحكي لكرش الصائغ التزنيتي الفائز بالجائزة الوطنية لأمهر صانع سنة 2016، في مهرجان تيمزار للفضة لـ "الصباح" خبرة أربعة عقود مع "النقرة الحرة"، منذ بداية الثمانينات وهو في كنف الحرفة التي أصبحت عشقا، وفضلها على الدراسة، وانطلق في التكوين والتعليم على يد المعلمين في سوق سي بلعيد. منذ 1984 إلى يومنا هذا، وهو يشتغل على تطويع الفضة، من خلال الخواتم والأساور والخلاخيل وباقي أنواع الحلي النسائية والرجالية، لينهل من الهوية الحضارية والتاريخـية والثقافية لمدينة تزنيت. وشرع "لكرش" في عرض بعض الأدوات البسيطة التي تستعمل في عملية الصياغة، قبل أن يكشف أن المهنة عرفت تطورا مهما في السنوات الأخيرة من خلال إبداعات الصائغين التقليديين في الرسوم والديكورات، مع الحفاظ على اللمسة التزنيتية المتميزة بالثقافة الأمازيغية. وأكد أن لقب عاصمة الفضة لم يأت بمحض الصدفة، بل هو نتاج لتاريخ مدينة عريقة شهدت صائغين تقليديين أبدعوا في تصميم حلي ومجوهرات فضية أمازيغية، بكل دقة وإتقان جعلت تزنيت قبلة للراغبين في اقتناء الحلي التقليدية المصنوعة من الفضة. وأوضح لكرش أن الفضة قبل أن تصبح على شكل منتوجات فنية في غاية الجمال والدقة، تمر عبر إذابة الفضة بشكل يدوي تقليدي، حيث أن طريقة العمل لم تتغير كثيرا منذ القدم في هذه المنطقة، وهذا ما يميز الفضة المشغولة يدويا كإنتاج محلي عن غيرها من أنواع الفضة المستوردة من الخارج. وتتميز الأدوات التي تستخدم في هذه الصناعة بالبساطة، إذ يقوم الصانع بأخذ المعدن الخام أو على شكل أسلاك ثم يقوم بتقطيعه إلى أجزاء ويضعها في إناء يسمى "باليوط" وهو متوسط الحجم، ويتم وضع هذا الإناء في فرن مخصص لإذابة الفقرة، هذا الفرن يتم توصيله بواسطة أنبوب موصول بدوره بقنينة غاز ويتم تسليط الملهاب على الفرن، فتمر النار إلى داخل الإناء المخصص للإذابة، ليتحول إلى شرائح وسبائك ويتم قطعها وفقا للحاجة. ورغم أن الصناعة اليدوية التقليدية هي المعتمدة، لكن هناك من الصناع من يعتمد على الآلة لتصنيع المنتوج. إكراهات الحرفيين غير بعيد عن ساحة المشور يوجد مجمع الصناعة التقليدية بتزنيت، حيث كان لـ" الصباح" لقاء مع عبد اللطيف أفكير، رئيس تعاونية الصياغين الخضراء بتزنيت، وهو في الخمسينات من العمر، أخذ الحرفة عن والده. يرى أن قطاع صياغة الفضة بتزنيت يعاني العديد من الإكراهات، وكشف أن أبرز إكراه هو نقص وغلاء المادة الأولية. منذ رحيل نقطة البيع للمادة الأولية سنة 2005 من المدينة، والحرفيون يعانون من قلة المادة الخام، أمام عجز الوزارة الوصية عن حل مشكل المادة الأولية رغم وجود المناجم الغنية بالفضة في المغرب، بالإضافة إلى غياب نقطة الدمغة بتزنيت، فجميع الحرفيين يسافرون إلى أكادير من أجل الحصول على الدمغة من الجمارك، وكذا غياب إطار قانوني ينظم ويجمع الحرفيين، خاصة بعد تحويل أغلب الحرفيين منازلهم لورشات عمل، لتسهل عملية التسويق وتحديد الأثمنة ووضع ميثاق أو قانون بين الحرفيين، لأن هناك بعض المظاهر التي تسئ للحرفة، بدخول بعض المتطفلين الذين يحاولون البيع بأي ثمن، أو بيع مجوهرات حلي ناقصة الجودة أو شبيهة بالفضة بدون مراعاة الجانب المتعلق بمعايير التصنيع. يرى أفكير أن المنتوجات المحلية بتزنيت تعاني منافسة السلع المستوردة من تركيا والتايلاند، رغم فرق الجودة والإتقان، لكن غياب رؤية لتحويل صياغة الفضة إلى صناعة قائمة الذات، يهددها بالاندثار. وطالب أفكير باقتناء الفضة من المحلات المعروفة والمعتمدة، وعدم شراء الحلي والمجوهرات الرخصية على الأرصفة والشوارع. احتجاج التجار تصادف وجود "الصباح" بساحة المشور بتزنيت، مع احتجاج الصائغين والتجار وبائعي الحلي والمجوهرات على قرار المجلس الجماعي لتزنيت القاضي بمنع وقوف السيارات بساحة المشور، الذي أثر على أرزاق أزيد من ألف أسرة، حسب بلاغ الجمعية المهنية للتجار بتزنيت، التي طالبت بضرورة التراجع والعدول عاجلا عن القرار الذي تسبب في آثر كارثية وعواقب وخيمة على أرزاق أزيد من 1000 أسرة. وأضافت الجمعية أن أزيد من ألف تاجر حوالي 500 بساحة المشور والقيساريات، وأكثر من 500 تاجر في الأزقة والأسواق المنبثقة عن الساحة، سيتأثرون بهذا القرار، من ناحية وضعهم الاجتماعي وأرزاقهم وقوت يومهم مرتبطة بالنشاط الاقتصادي بهذه الساحة، موضحين أن ساحة المشور التاريخية في قلب المدينة العتيقة لتيزنيت، باعتبارها تشكل حجر الزاوية في حياة التجار الذين زاولوا ويزاولون مهنتهم بين أحضانها منذ عقود وأجيال، تشهد لها ذاكرة تيزنيت. وعبر تجار ساحة المشور، وفق رسالتهم، عن استعداداهم لعقد لقاء توصلي مع جميع المتداخلين لإيجاد حلول مقنعة مبنية على رؤية واضحة وتصور شمولي للساحة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح التجار الاقتصادية أولا، وكذا الحمولة التاريخية للساحة وللقصر الخليفي الذي له رمزية. مجهودات الغرفة كشف عبد الحق أرخاوي، رئيس غرفة الصناعة التقليدية بجهة سوس ماسة، ورئيس جمعية تيمزار للفضة، أن تزنيت تتوفر على أزيد من 500 صائغ تقليدي، 30 في المائة منهم نساء، يبدعون في الحفاظ على الموروث الثقافي والتاريخي لعاصمة الفضة، التي تتميز بمجمع الصناعة التقليدية المجهز بمعدات جديدة لصياغة الفضة، وكذا تم إحداث محلات تجارية جديدة إلى جانب بناء قيساريات أخرى للرفع من عملية التسويق والاهتمام بتكوين الشباب والشابات المنقطعين عن الدراسة في حرفة الصياغة عبر التكوين بالتدرج وإحداث قسم الصياغة الفضية بمركز التكوين المهني في المدينة بهدف المحافظة على هذه الحرفة. ويضيف أرخاوي أن مسألة قلة المادة الأولية مطروحة بحكم ارتفاع الأسعار على الصعيد العالمي بسبب التقلبات الدولية، مما يدفع الحرفيين للبحث عن تذويب بعض الحلي المكسرة "الروسيكلاج" أو "الرافيناج". ونفى أرخاوي قيام أحد الصائغين بتذويب الحلي القديمة، واعتبر من يقوم بهذا الأمر، كمن يرتكب جريمة في حق المورث الثقافي المحلي، وأن تلك التحف لا تعوض، كما نبه أصحاب التذويب و"الرافيناج" إلى ضرورة تجنب الحلي القديمة، لان بعضها لا يقدر بثمن، وهناك متخصصون مستعدون لشرائها بأثمان عالية، لأن لها تاريخا وقيمة لا تقدر. كما أشار أرخاوي إلى أن مشكل التسويق يعانيه العديد من الحرفين، وأن مهرجان الفضة بتزنيت جاء لإحداث فضاء لتسويق هذه المنتجات من أجل تحسين دخل الحرفيين، والنهوض بأوضاعهم الاجتماعية لاسيما بالعالم القروي، بالإضافة إلى الاحتفاء بالصياغة الفضية قيمة إنتاجية وتراثية وهوياتية، من أجل تثمين هذا الموروث الثقافي، والإسهام في تثمين منتجات الصناعة التقليدية بالجهة والتعريف بها. واعتبر أرخاوي المعارض فضاء ملائما للصانعات والصناع التقليديين لتسويق منتوجاتهم، كما يشكل فرصة سانحة لهم من أجل إبراز مهاراتهم والتعريف بإبداعاتهم واكتشاف زبناء جدد وتمكينهم من الانفتاح على حرف هذا القطاع، فضلا عن أنه محطة لتبادل الخبرات والتجارب بين الحرفيين العارضين، وهو مناسبة كذلك لمضاعفة فرص تسويق منتجات الصناعة التقليدية التي تزخر بها أقاليم الجهة. أما عن موضوع الدمغة فأكد أرخاوي أن الغرفة قدمت طلبا لإدارة الجمارك لإحداث مختبر تقني الدمغة بتزنيت، لكن هناك بعض الإكراهات المرحلية، إلا أن هناك توجها لتحديد يوم خاص في الأسبوع بالصناع التقليديين بتزنيت، يتم من خلاله حضور مسؤولي الجمارك للمدينة. وأوضح أرخاوي أن غرفة الصناعة التقليدية تعمل على برنامج التكوين المستمر للحرفيين من أجل إبداع وتصميم منتوجات تلبي حاجيات السوق الوطنية وتنافس المنتوجات المستوردة، كما تحدث عن ورش الحماية الاجتماعية، التي من خلالها أصبح للصائغ الحق في التغطية الصحية. غياب الدعم على بعد 10 كيلومترات من تزنيت تقع جماعة المعدر الكبير، اختارت أمينة أخربوش أن تؤسس فيها تعاونية "تيفليوت النقرت" سنة 2019، رفقة سبع فتيات من بنات المنطقة، لتقتحم مجالا ظل حكرا على الرجال. كشفت أخربوش لـ "الصباح" أن التعاونية أصبحت تضم خيرة الصانعات المبدعات اللواتي ينشطن في مجال صياغة الفضة بإقليم تزنيت، وتبدع التعاونية في تشكيل كل أنواع الحلي التقليدية من خواتم وأساور وأقراط بالاعتماد على الطريقة التقليدية، مشيرة إلى أنها عملت على تطوير هذه الحرفة التي ورثتها عن أبيها، من خلال أشكال جديدة وقوالب حديثة، مع الحفاظ على المورث الثقافي الأمازيغي. وتضيف أخربوش "نعاني غياب الدعم من قبل الجهات المسؤولة على القطاع، لشراء الآلات ومواكبة التطوير الحاصل في مجال صناعة الحلي الفضية، فنشتغل بطرق تقليدية عبر تذويب سبائك الفضة الخالصة، مع بقايا الحلي القديمة، ويتم إفراغ المعدن المذوب داخل قوالب للحصول على شكل الحلي الذي يراد صنعه، وبعد ذلك يصقل ويزخرف، وغالبا ما تصنع الدبالج، والخلاخل، والقلادات بهذه الطريقة، وتسمى عملية القولبة. وأوضحت أخربوش أنه بعد عملية القولبة أو السبك، تأتي مرحلة الزخرفة، التي تستخدم فيها مجموعة من التقنيات، أبرزها تقنية التسليك التي تتميز بها تزنيت، وهي عبارة عن تشكيل خيوط ملتوية وحبيبات من المعدن تلحم للحصول على زخاريف للقلادات والخواتم والدبالج، وهناك تقنيات أخرى كالنيلة والنقش والفتل والتذهيب والتخريم. وتحدثت أخربوش عن أنواع الحلي النسائية والرجالية التي تزخر بها تزنيت، وتشتغل عليها التعاونية مع زبنائها، خاصة النساء، مؤكدة أن المرأة بطبيعتها تحب الحلي، وتميل إلى التزين بالكثير من الحلي الفضية، خاصة المرأة السوسية في المناسبات العائلية، لذلك تتزين بحلي الرأس، كالتاج ولخراص التي توضع على الأذنين، وكذا حلي الرقبة والصدر كالقلادات التي تلف الرقبة والصدرية والخلالات، وهي متعددة الأنواع، وتتكون من مشبكين يشدان اللباس في أجزائه العليا على مستوى الكتفين، ويربط المشبكين سلسلة طويلة ومنقوشة، بالإضافة إلى اليدين التي تتزينان بالأساور والدبالج، وعادة ما يكون عددها سبعة، تسمى "مسيبعة"، ودبالج شمس وقمر، بالإضافة إلى الخواتم فهناك خاتم "العش" وخاتم "اللوزة" وخاتم "التاج" وخاتم "الطير"، وكذا الحزام التقليدي المسمى بـ "المضمة" أو الحزام، وفي الرجلين، هناك الخلاخل المتنوعة في الزخارف والأشكال...