الكد والسعاية… الحق المبهم

العرف انتصر على القانون ومطالب بإعماله في تعديلات المدونة تختلف المواقف كثيرا حول مشروعية إعمال مبدأ الكد والسعاية، في تفريد الحقوق الخاصة بالزوجين، على اعتبار أن الأصل هو استقلالية الذمة المالية للزوجين، فبين مؤيد لتلك الفكرة خاصة في حالة عدم وجود ما يثبت الأموال المشتركة بين الزوجين، خلال فترة الزواج والثروة المكتسبة، وبين رافض لذلك باعتبار أن مدونة الأسرة وضحت الأمر بشكل جلي في المادة 49 منها بقاعدتين جوهريتين، تتجلى أولاهما في استقلال الذمة المالية لكل واحد من الزوجين، وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة، والثانية تضمنت مراعاة عمل كل واحد من الزوجين وما قدمه من مجهـودات، وما تحمل من أعباء لتنمية أموال الأسرة، وهنا تكمن ضرورة البحث في الأمر بشكل جلي خلال النقاشات الدائرة حول تعديل مدونة الأسرة. إنجاز: كريمة مصلي يعود مبدأ "الكد والسعاية" في التراث الإسلامي إلى اجتهاد قام به عمر بن الخطاب، عندما جاءته امرأة تدعى حبيبة بنت زريق، تستفتيه في قضية ميراث زوجها عمر بن الحارث، الذي كان يتاجر في ما تصنعه وتصلحه هي بيديها من عملها بالتطريز، واكتسب من ذلك مالا وفيرا، وعندما مات ترك مالا وعقارا، وتسلم ورثته الخزائن، لكن عندما نازعتهم في ذلك، ولجؤوا إلى عمر بن الخطاب، قضى للمرأة بنصف المال وبالإرث في النصف الباقي. صعوبة الاتفاق رغم أن مدونة الأسرة تحدثت بشكل صريح عن ضرورة إحداث عقد بشأن الممتلكات الشخصية لطرفي العقد قبل الزواج، إلا أن العديد من الأشخاص يتقاسمون فكرة أنه من الصعب الاتفاق بشكل مسبق حول الأموال التي قد تكتسب أثناء الزوجية، لاعتبارات عدة قد تكون مرتبطة بالواقع، أو الدين والأعراف، وأن الزواج يعني تأسيس أسرة أكبر من حساب الأموال والممتلكات، غير أنه غالبا ما تظهر ضرورة اعتماد التوثيق من خلال ما قد ينجم من خلافات بين الأزواج أو بعد وفاة أحدهما، ويجد الآخر نفسه محروما من تلك الأموال المشتركة. وتعتبر تلك الأصوات أن ضرورة تضمين هذا الاتفاق في وثيقة مستقلة على عقد الزواج يعتبر إدراكا من قبل المشرع إلى الغاية أو الهدف الأساسي من الزواج، باعتباره مؤسسة شرعية تحكمه قواعد الشريعة الإسلامية والمبنية على القيم الإنسانية العليا، في حين أن العلاقات المالية تحكمها قواعد القانون المدني المبنية على الأخذ والعطاء، إذ أنه في حال وجود الاتفاق على كيفية تدبير الأموال المكتسبة بعد الزواج، فإن الأمر يكون سهلا بعض الشيء عند قيام النزاع أو في حالة الطلاق أو الوفاة بالنسبة لتوزيع الأموال المكتسبة بين الزوجين وفقا للاتفاق المبرم بينهما. قصور في المادة 49 يجد مبدأ الكد والسعاية سنده في نظام «تمازالت» الموجود في العرف الأمازيغي، الذي يقوم على إقرار حق الزوجة في المطالبة بالحصول على نصيبها من الأموال المكتسبة خلال الحياة الزوجية باعتبارها شريكة أصلية في تلك الأموال، استنادا لما قدمته من سعاية في تكوينها وإنمائها والحفاظ عليها، وحسب النظام نفسه فإن الأموال المنشأة أثناء قيام العلاقة الزوجية هي أموال مشتركة بين الزوجين. ويرى البعض أنه إن يظهر أن المادة 49 من المدونة، أخذت مرجعيتها من هذا النظام، فإن صياغة هذا النص خرجت عن فلسفة ومبادئ هذا النظام بل قلبت قواعده بشكل عكسي، الأمر الذي ساهم في تضارب التطبيق القضائي للدعاوى الرامية الى تطبيقه بالشكل الذي أدى الى بلورة توجه عام في أغلب المحاكم يروم «حرمان» النساء من الحصول على نصيبهن من الأموال والممتلكات المنشأة اثناء الحياة الزوجية بالتشديد على ضرورة إثبات المساهمة المباشرة في إنشاء وتنمية الممتلكات، من خلال التنصيص على استقلال الذمة المالية للزوجين بينما في نظام «تمازالت» يفترض اتحاد الذمة المالية للزوجين، وأن الأصل هو الاشتراك في الأموال والممتلكات المنشأة اثناء الحياة الزوجية. تباين في مواقف محكمة النقض ذهب اجتهاد لمحكمة النقض صدر في 2021 إلى أن تقدير الكد والسعاية عند عدم وجود اتفاق بين الطرفين على تدبير الأموال التي تكتسب أثناء قيام الزوجية بينهما لاستثمارها وتوزيعها، يرجع لسلطة محكمة الموضوع في إطار القواعد العامة، مع مراعاة عمل كل واحد منهما وما قدمه من مجهودات وما تحمله من أعباء لتنميتها، واعتبر القرار أن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه لما ألغت الحكم المستأنف وقضت للطاعنة بمبلغ مالي بعدما ثبت لها من وقائع القضية ومستنداتها كد الطاعنة وسعايتها، واستندت في ما قضت به على ما ورد بتقرير الخبير من تحديد قيمة العقارات المعنية، وراعت مجهودات الطاعنة، ونسبة مساهمتها في تنمية أموال المطلوب في النقض، وذلك في إطار سلطتها التقديرية، فإنها أقامت قضاءها على أساس، وعللت قرارها تعليلا كافيا. وفي قرار آخر ذهبت محكمة النقض إلى القول إن المحكمة لما صارت إلى القواعد العامة للإثبات لعدم وجود اتفاق بين الطرفين حول تدبير الأموال المكتسبة إبان زوجيتهما، وثبت لها من مستندات الملف كد وسعاية الطاعنة في مال المطلوب خلال حياتهما الزوجية ومساهمتها بمجهودها وعملها في إنمائه اعتبارا لتوفرها على أجر شهري، واستدانتها مبالغ مالية أثناء فترة تشييدهما البناء موضوع النزاع، وعدم إقامته دليلا على أنها صرفت أموالها وما تحصلت عليه مما ذكر في أمور تخصها بعيدا عن إطار الأسرة، فعوضتها عن مساهمتها في ذلك البناء بمبلغ مالي قدرته استئناسا بتقويم الخبير، مقابلا وموازيا لما بذلته من مجهود وتحملته من أعباء في تنمية أموال الأسرة، فإنها أعملت سلطتها التقديرية وأقامت قضاءها على أساس المادة 49 من مدونة الأسرة الواجبة التطبيق على النازلة، وعللت قرارها تعليلا كافيا. عمل المنزل في عين القضاء اختلف قضاء الموضوع، في الأخذ بالكد والسعاية من عدمه في الأحكام التي أصدرها، على امتداد عقدين من عمر مدونة الأسرة، بين من اعتبر أن العمل اليومي للمرأة في البت يدخل في إطار الكد والسعاية كما هو حال في المحكمة الابتدائية الاجتماعية بالبيضاء التي قالت إن العمل اليومي للزوجة داخل البيت هو مساهمة عند التقييم، لأن عقد الزواج للعشرة الزوجية ولا يلزم الزوجة بخدمة البيت، واعتمدت المحكمة على فتوى ابن عرضون التي جاء فيها، "ولها النصف من تركته عند الوفاة غير نصيبها في الإرث جزاء لها عما قامت به من أعمال لا تلزمها أو جزاء لها عما بذلته من جهد أثناء الحياة الزوجية، وقد سمى حقها هذا بحق الشقا". أما محكمة الاستئناف بالرباط فقد كان لها رأي مخالف عبرت عنه في قرار أنه ما دام أن على الزوجة الخدمة الباطنة كما قال الشيخ خليل، ومن واجبها طبقا للمادة51 من مدونة الأسرة أن تتحمل مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال، فإن خدمتها داخل البيت لا تعتبر مساهمة في تكوين الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية. العبادي: حق شرعي خلال جلسات الاستماع في شأن التعديلات التي يراد إدخالها على مدونة الأسرة، دعا أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، إلى ضرورة إعمال مبدأ "الكد والسعاية" في القضايا المرتبطة بالإرث خلال تعديل مدونة الأسرة، مشيرا إلى أن مبدأ الكد والسعاية يمنح كل شخص حقه الشرعي طبقا للجهد الذي بذله في تحصيل هذا الإرث، مضيفا أن هذا المبدأ الذي تبناه الفقيه القاضي أبو العباس أحمد بن الحسن المعروف بابن عرضون حفظ حق المرأة في جهدها المبذول خلال العمل عند تقسيم الإرث. وأشار الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، أن الكد والسعاية يشير إلى أن للمرأة حقا في جزء من مال زوجها الذي شاركت في تكوينه مع القيام بالإجراء ذاته مع الأبناء الذين شاركوا في تكوين ثروة والدهم، إضافة لحقهم الشرعي الذي نص عليه الدين الإسلامي، داعيا إلى "مراعاة ظروف كل حالة على حدة وإعمال العدل الذي أمر به الله سبحانه وتعالى". يجب تعويض المرأة عن العمل المنزلي يثار في النقاشات المصاحبة لتعديل مدونة الأسرة مسألة الذمة المالية للزوجين، أليس الأصل استقلال تلك الذمم؟ > انتصر التشريع المغربي تاريخيا لقواعد الفقه الإسلامي، التي تعتبر أن الأصل هو استقلال الذمم المالية للزوجين، والاستثناء هو تخويل طرفي عقد الزواج الاتفاق بموجب عقد مستقل على تدبير الأموال المكتسبة أثناء الزوجية واستثمارها وتوزيعها، وفقا لاتفاقهما النابع من إرادتهما الحرة وحسب النسبة التي يرتضيانها، لذلك استقر القضاء أن الأصل هو أن لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة، وبالتالي فإن أي مطالبة بمال مشترك بمناسبة الزواج تقع تحت طائلة المادة 49 من مدونة الأسرة، لأن كل زوج «قيمة منابه» في المستفاد خلال فترة الزواج مقابل كده وسعيه. لكن في حال عدم وجود اتفاق مسبق لتدبير الأموال المكتسبة كيف يمكن تدبير الأمر؟ > تطور التشريع المغربي مع سن مدونة الأسرة، وبالتالي تم الاتفاق ليس فقط إلى ضرورة وجود اتفاق كتابي لإعمال الكد والسعاية وفق الفصل 49 المذكور، وإنما أيضا حتى في عدم وجوده على إمكانية كل طرف وفقا لقواعد العدالة والإنصاف ولما استقر عليه «العرف الأمازيغي» على إثبات ما قدمه من مجهود لتنمية أموال الأسرة والمطالبة بهذا النصيب قضاء، وهكذا قرر قضاء النقض ما يلي، أن عدم وجود اتفاق مسبق بين الزوجين لتدبير الأموال المكتسبة خلال فترة الزوجية واستثمارها وتوزيعها، يرجع للقواعد العامة للإثبات، مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين وما قدمه من مجهودات وما تحمله من أعباء لتنمية أموال الأسرة،لذلك لا يمنع أحد الزوجين من إثبات ما قدمه من مجهود أو ما تحمله من عبء لتنمية أموال الأسرة، والمطالبة بنصيبه، مما يستوجب من المحكمة أن تجري تحقيقا بشأن وقائع النازلة. هل يمكن لجوء القضاء لإجراءات التحقيق للتثبت من عمل كل من الزوجين لتنمية أموال الأسرة في حال الخلاف؟ > إن المحكمة لما تبين لها من الحجج المعروضة عليها أن البينة المثبتة للمطلوبة في النقض مقدمة على بينة الطاعن، وخلصت إلى أن المطلوبة ساهمت في الدار موضوع الدعوى، وبعد الخبرة حددت المحكمة في إطار سلطتها للمطلوبة ثلث العقار، فإنها جعلت لما قضت به أساسا. وتقدير الكد والسعاية ومدى مساهمة الزوجة في تنمية أموال الأسرة يخضع لسلطة قضاة الموضوع متى كان قضاؤهم معللا وسائغا. والمحكمة قد أجرت بحثا مع الطرفين وقدرت ما قدم أمامها، وأسست قضاءها ليس فقط على التحويل البنكي المتنازع في سببه، وإنما كذلك على إقرار الطالب الصريح المدون بجلسة البحث بأنه توصل من المطلوبة بمبلغ مالي، من أجل اقتناء السكن الجديد. ماذا تقترحون لإصلاح المادة 49 من مدونة الأسرة؟ > استقر قضاء محكمة الموضوع أن العمل المنزلي لايدخل ضمن عناصر تقييم قسمة الأموال المشتركة، واعتبر هذا الاتجاه منتقدا لأنه لا يراعي أهمية وطبيعة الجهد المبذول، سيما أنه يمكن تقويمه ماليا، لهذا نطالب بتدخل المشرع لاعتبار عمل المرأة المنزلي يدخل ضمن تقييم عناصر قسمة الأموال المشتركة بعد الزواج، لأن لا يعقل أن تكون مجهودات المرأة غير معتبرة، رغم قيمتها المادية والمعنوية، سواء في ما يخص الأبناء أو الأسرة بشكل عام. * محام بهيأة الرباط - نائب رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان

الكد والسعاية… الحق المبهم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هتك عرض مسن يورط شابا

اللعب بالنار

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات