صديق العندليب وكبار الطرب الذي خانه البشر وعاشر الحيوانات غيب الموت نهاية الأسبوع الماضي الفنان الحبيب الإدريسي، عن سن ناهز الخامسة والسبعين، وحيدا في شقته. في هذا الخاص تستحضر "الصباح" جوانب من سيرة هذا الفنان الذي طواه النسيان، وغادرنا في ظروف لا تليق بواحد من الأسماء التي رسخت هوية الأغنية المغربية العصرية. إعداد: عزيز المجدوب اليتيم الذي تقاذفته الأقدار ليعيش وسط أكثر من عائلة، والبوهيمي الذي عشق الفن ونذر له نفسه فعاش عازبا محاطا بأنغامه وحيواناته التي كان يحدب عليها، ويجد فيها تعويضا عن جحود البشر. إنه الفنان الحبيب الإدريسي الذي عاشر كبار أهل الفن واحتفظ بصداقات عميقة معهم، بدءا من عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي وكمال الشناوي، وصولا إلى جل رواد الأغنية المغربية الذين كانوا يحلون ضيوفا على "زواية الشريف" بزنقة الطاهر السبتي بالدار البيضاء، وهي الشقة نفسها التي خلت من زوارها ليرحل صاحبها فيها وحيدا بعدما انفض عنه الجميع. ولد الحبيب الإدريسي سنة 1948 وسط أسرة تتحدر من منطقة جبل أمركو وكان الأصغر بين إخوته الأشقاء وغير الأشقاء، إذ فقد والده صغيرا ولم يتجاوز بعد الثالثة من عمره، وكان الوالد فقيها يدرس القرآن والعلوم الدينية ودائم التنقل والسفر بين المساجد والزوايا، وتربى الطفل في كنف أمه التي تتحدر هي الأخرى من شرفاء "القليعة" بنواحي غفساي. الانتقال إلى بيت التازي ساقت الصدف في طريق الطفل الحبيب الإدريسي، واحدا من أثرياء فاس وهو الحاج احميدة التازي، ليعرض على والدته أن يتربى الطفل في كنفه بفاس. وهكذا انطلقت مرحلة أخرى في حياة الإدريسي الذي لم يكن يتجاوز حينها، سنته الرابعة، وشرع، تدريجيا في التعود على حياته الجديدة، وعاش "طفلا مدللا" وسط أسرة التازي التي غمرته بعطفها وحنانها. لم يقض الحبيب بمنزل آل التازي بفاس بالكاد سنتين، حتى ألحت ابنة الحاج على أخذ الحبيب معها إلى مدينة الدار البيضاء، وقد كانت حينها حديثة العهد بالزواج، وطلبت من والدها أن يترك الطفل معها ليملأ عليها وحدتها، فحقق لها الوالد رغبتها رغم معارضة باقي أفراد الأسرة الذين ألفوا بدورهم خفة دم الحبيب. وبانتقال الإدريسي إلى مدينة الدار البيضاء وتحديدا إلى حي بوسمارة، سيبدأ فصل آخر في حياته، وسط العاصمة الاقتصادية التي كانت تعيش على إيقاع حركية غير مسبوقة خلال منتصف الخمسينات. وبالقرب من المنزل الذي استقر فيه الحبيب، بحي بوسمارة، يوجد منزل الحاج بنجلون "شوكولا" أحد أشهر الشخصيات البيضاوية في تلك المرحلة، وأيضا منزل المارشال "قيبو" عازف الكمان الشهير ضمن فرقة الفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي، إضافة إلى منزل عائلة "التوزاني" ذائعة الصيت بالدار البيضاء، والتي كان أبناؤها من أبرز أصدقاء الطفولة بالنسبة إلى الحبيب الإدريسي، فضلا عن عائلتي الزموري وبن جلون. في ضيافة البلغيثيين كان الحبيب الإدريسي موزعا في تلك الفترة بين الدار البيضاء وفاس التي كان يتردد عليها بين الفينة والأخرى لزيارة والدته، فضلا عن أنه اشتغل أيضا، ولفترة قصيرة، "مراقبا" بحافلات نقل تابعة للحاج "احميدة التازي" خاصة الرابطة بين البيضاء وتاونات أو فاس. إلا أن قدر الإدريسي ظل مرتبطا بعدم الاستقرار ومخلصا لمقولة "دوام الحال من المحال"، فقد شاءت الظروف أن ينتقل إلى العيش رفقة عائلة أخرى هي عائلة البلغيثي، التي تربطها صلة قرابة بوالدة الحبيب، وهذه المرة بحي مرس السلطان، على بعد أمتار من القصر الملكي بحي الأحباس، وتحديدا بشارع فيكتور هيجو، وشكل الانتقال إلى العيش رفقة تلك العائلة نقطة التحول الجوهرية في حياته. شاءت الأقدار أن تتوفى والدة الحبيب وسنه لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، ليتعمق إحساسه بالوحدة، رغم أن عائلة البلغيثي حاولت أن تغطي على إحساسه باليتم، عبر جعله واحدا من أبنائها، إذ كان مستأمنا على تجارتها بالمحلات التجارية التابعة لها والكائنة بدرب عمر وطريق مديونة والمختصة في تجارة الأثواب. وكانت عائلة البلغيثي، المشكلة من ثلاثة إخوة، تملك العديد من القاعات السينمائية، منها على وجه الخصوص سينما "فوكس" و"ريالطو" و"الريف" و"الأطلس"...، فضلا عن أنهم أسسوا شركة سينمائية تحمل اسم "المغرب الموحد" وكان أحد مؤسسيها، من عائلة البلغيثي، دائم التردد على الشرق خاصة مصر، وكانت له علاقات وطيدة بكبار المنتجين السينمائيين بأرض الكنانة، وكذلك الممثلين والمطربين. بمعنى أن الحبيب الإدريسي وجد المناخ المناسب لكي يطور مواهبه الفنية، رغم أن ذلك يعارض إرادة العائلة التي احتضنته، والتي كانت ترى أن سبيل الحبيب في الحياة مرتبط بعالم التجارة التي وفروا له كل الظروف الملائمة لكي يصير من كبار التجار في ذلك الوقت، إلا أن الحبيب كانت له وجهة نظر أخرى واختيار آخر هو الفن ولا شيء سواه. ومن بين المهام التي كان الإدريسي مكلفا بها، استخلاص عائدات القاعات السينمائية التابعة لآل البلغيثي، ومكنته هذه المهمة من توطيد علاقته بفن السينما، وفن الغناء على وجه الخصوص، بحكم أن الأفلام الغنائية والاستعراضية كانت بضاعة رائجة في ذلك الوقت، مثل أفلام محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وشادية وغيرهم، وكان الحبيب مهووسا بمشاهدة تلك الأفلام. ظهر خلال تلك الفترة لدى الإدريسي ولع خاص بالمطرب الراحل عبد الحليم حافظ الذي كان يحفظ جل أغانيه التي كانت مشهورة، حينها، ويرددها في العديد من المناسبات، كما كانت للإدريسي خلال الفترة نفسها محاولات خجولة في التلحين، فضلا عن أنه كان يغني للأصدقاء في كل المناسبات التي تتاح له. لكن سرعان ما سيكتشف آل البلغيثي أمر الفتى، خاصة بعد أن تبين لهم أنه لم يعد يولي اهتماما كافيا للأنشطة التجارية التي كلفوه بها، وصار في العديد من المرات يفتعل الأعذار لحضور نشاط فني معين، ويترك المحل التجاري تحت إمرة مساعده أو صديق. التاقي بن عزوز والسقاط ساقت الأقدار في طريق الحبيب الإدريسي ثريا وتاجرا آخرا هو الحاج التاقي بن عزوز، الذي كان أول المقتنعين بمواهبه الغنائية، وآل على نفسه أن يأخذه بيده، إلى أن يضع قدميه على سكة الفن، وعن طريقه تعرف على الملحن عبد الرحيم السقاط في إحدى السهرات الخاصة، فنشأت بينهما صداقة وطيدة، ستثمر أول أغنية لحنها له بعنوان "غير سير أو كان" وهي من كلمات حمادي التونسي. وكانت الأغنية الثانية التي لحنها السقاط للحبيب الإدريسي، هي أغنية "شنو اللي كان" والتي نظم كلماتها الشاعر الغنائي جواد العمارتي، وجرى تسجيلها هذه المرة رفقة الجوق الجهوي لإذاعة الدار البيضاء. "ما بقيتي عندي في البال" مفتاح الشهرة وجاءت الأغنية الثالثة التي كانت "ثابتة"، كما يقول المثل الشعبي المغربي الدارج، وهي رائعة "ما بقيتي عندي في البال" ووضع ألحانها عبد الرحيم السقاط، وصاغ كلماتها الفنان فتح الله لمغاري، والتي شكلت مفتاح شهرة الحبيب الإدريسي وضمنت له امتدادا شعبيا وجماهيريا داخل المغرب والعالم العربي ككل. وتوالت بعد أغنية "ما بقيتي عندي في البال" أغنيات أخرى من ألحان عبد الرحيم السقاط مثل "إيلا سد الله باب يفتح أبواب"، كما غنى الإدريسي في تلك الفترة أغنية "البارح حبيت" من كلمات الزجال حميد مخلوف وألحان إدريس برادة، وأغنية أخرى بعنوان "لله يالخاين" وضع ألحانها عبد الهادي السوسي، سُجلت رفقة الجوق الجهوي لإذاعة فاس. وحاول الحبيب الإدريسي التقدم إلى الإذاعة ملحنا، إلا أنه اصطدم بالموسيقار أحمد البيضاوي الذي نصحه بدراسة الموسيقى وهي النصيحة التي طبقها بالتحاقه بمعهد الموسيقى بداية السبعينات، وبعدها بسنوات، عاد إلى الإذاعة وقدم أول لحن معتمد له، تزامنا مع حدث المسيرة الخضراء سنة 1975 عبارة عن ملحمة وطنية بعنوان "الثورة الدائمة" من كلمات محمد بن حسو وشاركه في غنائها المطرب حميد شكري وخديجة الصامت. "بطاقة تعريف"... جواز مرور ظل الإدريسي يطمح إلى إثبات نفسه في مجال الأغنية العاطفية أيضا، وجاءت الفرصة الثانية مع أغنية "بطاقة تعريف" التي سعى الإدريسي من خلالها إلى تأكيد "الاعتراف" به في هذا المجال. وفتحت أغنية "بطاقة تعريف" أبواب التلحين على مصراعيها، أمام الحبيب الإدريسي، وتوالت الألحان التي قدمها بصوته أو بأصوات مطربين ومطربات آخرين، على رأسهم حميد شكري وحياة الإدريسي والمطربة المصرية شاهيناز فاضل، وسعاد محمد (المغربية) وعزيزة ملاك، وفوزية صفاء وعفيفة جحفل ورفيعة غيلان، كما كان هناك تعاون فني لم يتم كان بينه والمطربة التونسية الراحلة ذكرى، حينما قدمت بداية التسعينات إلى المغرب، وقضت أسبوعين وهي تتمرن على أغنية من ألحان الإدريسي قبل أن يقرر الأخير إسناد الأغنية إلى مطربة أخرى بسبب تأخر ذكرى عن موعد التسجيل. في رصيد الحبيب الإدريسي عشرات الأغاني منها "خليك مني قريب" و"دابا يصاوب الله" و"يا المالكة قلبي بهواك" وغيرها.