محمد الزرقطوني.. أيقونة الفداء

حكاية المقاوم الذي ضحى بنفسه لحفظ أسرار المقاومة حلت يوم 18 يونيو الجاري الذكرى 69 لاستشهاد المقاوم محمد الزرقطوني، لتتحول بذلك اللحظة التي اختار فيها هذا الشاب إنهاء فصول حياته القصيرة فداء للوطن والحرية والاستقلال، إلى عيد وطني رسمي للمقاومة. في هذا الخاص تستعيد معكم "الصباح" جوانب من سيرة هذا المقاوم الذي ارتبط اسمه بسيرة الكفاح الوطني وخلايا المقاومة المسلحة التي عجلت بإرغام المستعمر على الجلوس للتفاوض الذي قاد المغرب إلى الاستقلال. إعداد: عزيز المجدوب بين المقاومين المغاربة الذين استشهدوا من أجل الوطن وبين انتحاريي 16 ماي الذين استهدفوا الوطن، لم تكن المسافة الفاصلة بين هذين الحدين الزمنيين، سوى نصف قرن كانت كافية لتكشف طبيعة التحول الجذري الذي طبع علاقة الشباب المغربي بوطنه، بين الموت من أجله والموت في سبيل زعزعة استقراره. مناسبة هذا القول مرور 69 سنة على استشهاد المقاوم محمد الزرقطوني الذي جسد بحق صورة الشاب المغربي الذي جعل حب الوطن فوق كل اعتبار، وجعل له أولوية على حياته التي لم يتردد لحظة في تقديمها فداء للوطن، حين اقتضت الضرورة أن يتناول حبة سم تعفيه مواجهة تعذيب قد يدفعه إلى الاعتراف بأسرار مقاومة حضرية مسلحة، تجمعت خيوطها في رأسه، ففضل الموت على أن يفشي أسرار مقاومة انطلقت لتوها وخلطت أوراق المستعمر حينها، ولم يكن ممكنا استمرارها بالشكل الذي أوصلها إلى الهدف المنشود منها لولا تضحيات شباب من طينة الزرقطوني. فمن هو الزرقطوني وكيف استطاع أن يقود مقاومة مسلحة أقضت مضجع الحماية الفرنسية وجعلت اسمه على رأس لائحة المراد شل حركتهم بأي طريقة. طفولة صوفية ولد محمد الزرقطوني سنة 1927، بدرب "السوينية" بالمدينة القديمة بالدار البيضاء، من أسرة تعود أصولها إلى قبيلة ركراكة بالصويرة، حيث كان والده مقدما للزاوية الحمدوشية، وحرص على تربية ابنه "سي محمد" تربية دينية مشبعة بنَفَس صوفي، فتمكن الفتى الصغير، آنذاك، من حفظ القرآن ولم يتجاوز سنه الخامسة عشرة. كان ذلك بداية الأربعينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي كان فيها العالم يعيش على إيقاع الحرب الكونية الثانية، أما في المغرب ففي سنة 1944 سيتم تقديم وثيقة 11 يناير للمطالبة بالاستقلال، وجاء تقديم تلك الوثيقة مرحلة من مراحل تطور الوعي الوطني بضرورة استقلال المغرب وبناء دولته الحديثة. في تلك المرحلة التحق محمد الزرقطوني بالمدرسة العبدلاوية، ومن هناك سيبدأ احتكاكه مبكرا بخلايا حزب الاستقلال من خلال العديد من الأنشطة التي كان يقوم بها الشباب الاستقلالي خاصة خلال المناسبات الوطنية التي كانت فرصة للوطنيين لتمرير رسائلهم المشفرة وأيضا المباشرة للاستعمار الفرنسي. بمعنى أن وعي الفتى الزرقطوني سيشرع في التبلور خلال هذه المرحلة، وستظهر فعاليته خاصة في الكشفية الحسنية ولجن التزيين التابعة لحزب الاستقلال بشكل جعله موضع اهتمام خاص من قبل مسيري الحزب، آنذاك، بالمدينة القديمة، وفي تلك المرحلة ظهر الدور الفعال للفتى الزرقطوني كمؤطر من طراز نادر. وتوالت الأحداث منها أحداث أبريل 1947 بدرب الكبير الذي شهد مجزرة راح ضحيتها الآلاف والتي عرفت لدى عموم المغاربة ب"ضربة ساليغان"، وجاءت تلك المجزرة بالتزامن مع الزيارة التاريخية التي قام بها محمد الخامس إلى طنجة حيث ألقى خطابه الشهير، كرد فعل من طرف سلطات الحماية للتشويش على تلك الزيارة. كان الزرقطوني قد بلغ حينها ربيعه العشرين، ومضى على زواجه الأول سنتان، وازدان فراشه بمولوده البكر "عبد الكريم"، لم تحل التزاماته الأسرية دون انخراطه في صفوف حركة المقاومة التي بدأت وتيرتها في الاشتداد سيما بعد توالي الأحداث التي كانت مناسبة لإذكاء الحماس الوطني لدى الشباب المغربي، وفي الوقت نفسه تزايد القمع ضد المقاومين ونشاطهم الذي اتخذ صبغة أكثر تنظيما خاصة بعد الاقتناع الذي ساد وسط ثلة من الشباب الوطني بضرورة اعتماد الخيار المسلح. وأخذ محمد الزرقطوني يلعب أدوارا طلائعية، في قيادة خلايا المقاومة المسلحة التي بدأت في التشكل داخل المدن وعلى رأسها الدار البيضاء التي كانت منطلق جل التحولات التي شهدها المغرب المعاصر، وعلى رأسها التحول في اتجاه احتضان الحواضر للمقاومة المسلحة بعد أن كان الأمر مقتصرا على البوادي والأرياف، بحكم أن المدن كانت تحت السيطرة المباشرة لسلطات الحماية. المنعطف الحاسم وتسارعت وتيرة الأحداث، نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، وتزايد معها دور الزرقطوني في السهر على تشكيل خلايا المقاومة السرية وتأطير أفرادها بدنيا ونفسيا من خلال تدريبهم على استعمال السلاح وتنفيذ العمليات الفدائية بدقة مع الالتزام بالاحتفاظ بأسرار المقاومة، وفوق كل هذا فقد كان اختيار أفراد الخلايا وفق شروط دقيقة. وشكلت أحداث دجنبر 1952، منعطفا حاسما في طريقة اشتغال خلايا المقاومة السرية وكذلك في أسلوب تفاعل الشعب المغربي مع الأحداث الوطنية والقومية، وتجلى ذلك بوضوح من خلال حركة التضامن الواسعة مع الشعب التونسي خاصة بعد اغتيال الزعيم النقابي "فرحات حشاد" وكان رد الفعل الفرنسي على تلك الحركة ارتكابه مجزرة أخرى بالكاريان سانطرال بالحي المحمدي بالبيضاء، خلفت مئات القتلى. خلال تلك المرحلة انتقل الزرقطوني من المدينة القديمة إلى درب السلطان ومن هناك شرع في تشكيل الخلايا السرية التي كانت تخضع لتنظيم محكم على مستوى توفير الدعم المالي وجلب الأسلحة ومواد تصنيع القنابل والمتفجرات التي سيتم بها استهداف المستعمر، وتشكيل شبكة "مخابراتية" تتولى جمع المعلومات عن المستهدفين من الخونة والمسؤولين الاستعماريين. ومن بين أهم المبادئ التي أسست عليها المقاومة، أن "القرار" يجب أن يظل، في يد أصحابها بعيدا عن أي جهة خارجية حتى ولو كان حزب الاستقلال نفسه الذي تربى فيه الزرقطوني. وشرعت خلايا المقاومة السرية، بزعامة الزرقطوني رفقة مجموعة من الوطنيين، في توجيه الضربات الموجعة إلى المستعمر الفرنسي ورموزه، خاصة بعد نفي محمد الخامس، من خلال الاغتيال المتواصل للخونة، وتفجير بعض المواقع الحساسة، مثل حادثة تفجير القطار الرابط بين الدار البيضاء والجزائر، وقَنْبَلَة "السوق المركزي" بالعاصمة الاقتصادية وشكلت العمليتان الأخيرتان، إلى جانب عمليات أخرى كثيرة، فرصة أبان فيها الفدائيون عن نضج كبير في تنفيذ العمليات بالشكل الذي يربك حسابات المستعمر، وكل تلك العمليات كانت بصمة الزرقطوني حاضرة فيها. ولم يكن نجاح العمليات الفدائية ضد الفرنسيين إلا ليدفع هؤلاء إلى بذل الجهد للوصول إلى العقل المدبر الذي لم سوى شاب بالكاد تجاوز السادسة والعشرين من عمره، وتأتى لهم ذلك عن طريق "الخونة" الذين طالما استهدفهم الشهيد، فألقي القبض على الزرقطوني خلال فجر يوم 18 يونيو 1954، لكن وفي غفلة من رجال الشرطة الذين أوقفوه تناول حبة سم كان المقاومون درجوا على توزيعها في ما بينهم لاستعمالها في حال ما إذا سقط أحدهم في يد الشرطة، وهو الشيء الذي فعله الزرقطوني وفوت على الفرنسيين فرصة انتزاع المعلومات منه، بعد أن لفظ أنفاسه في الطريق إلى "كوميسارية المعاريف". الزرقطوني والاستمرار خلف الشهيد محمد الزرقطوني وراءه ابنا ظل حريصا على الوفاء لذكرى والده، من خلال التوثيق لسيرته بل والإشراف على مؤسسة ثقافية تحمل اسم الشهيد تعنى بكل ما له علاقة بنشاط المقاومة وأشرفت على طبع العديد من المؤلفات وتنظيم العديد من الأنشطة ذات الطابع التوثيقي إنه عبد الكريم الزرقطوني. ومن حسن الشهيد الزرقطوني كذلك أنه ترك حفيدا، يحمل من خصال جده الكثير، إضافة إلى اسمه، سواء على مستوى الشبه "الفيزيقي" أو من خلال إصرار الحفيد على الاهتمام بتاريخ المقاومة والاستفادة من الدروس والعبر التي يمنحها والمتمثلة في حب الوطن والسعي إلى خدمته. ويتجلى اهتمام محمد الزرقطوني (الحفيد) من خلال مساهمته في الترجمة الانجليزية لكتاب "سيرة حياة الشهيد الزرقطوني" الذي ألفه لحسن العسبي وعبد الكريم الزرقطوني، وتمت الترجمة تحت إشراف الدكتور "جوفري كامبل" عميد جامعة مونتانا الأمريكية وثلة من الأساتذة. وإلى جانب كل هذا فالزرقطوني (الحفيد)، وقع على مسار دراسي موفق تكرس من خلال التحاقه بجامعة "الأخوين" بإفران ثم جامعة مونتانا الأمريكية وحصل على الماجستير في الاقتصاد والعلوم السياسية ثم الدكتوراه في مجال إدارة الأعمال والمقاولات.

محمد الزرقطوني.. أيقونة الفداء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

آش خاصك تدير؟ ... فتح قاعة للرياضة أو مؤسسة خاصة

إيقاف مسؤول قضائي بالعرائش

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات