النقيب بوعشرين… الفنان

حول المرافعة إلى فن يتنافس الشباب على تعلمها لفصاحته ورؤيته القانونية الثاقبة نزل خبر وفاة النقيب بوعشرين صادما للجميع، إذ لا أحد كان يتوقع رحيله المفاجئ، فحضوره الدائم بالمحاكم وحيويته وبشاشته ولباقته، خصوصا ابتسامته التي لا تفارق محياه، اعتاد عليها حد الإدمان زملاؤه في المهنة والقضاء وموظفون ونجوم وإعلاميون، كانت توحي بأنه خالد للأبد، إلا أن كل ذلك كان محاولة منه لإخفاء مرض كان ينخر جسده في صمت لسنوات، وفضل عدم مشاركة الجميع معاناته. أسبوع يفصلنا عن مرور سنة على رحيل النقيب عبد اللطيف بوعشرين، وما زال الجميع إلى اليوم يتذكر طريقة دخوله البهية إلى المحكمة وقاعات الجلسات، وحضوره الوازن في القضايا الكبرى، إذ يسارع الجميع إلى حجز مقاعدهم استعدادا لسهرة قانونية تستنبط منها الدروس واجتهادات قانونية جديدة. عندما يبدأ المرافعة يلتزم الجميع الصمت، ليس لسماع مرافعته بل للاستمتاع بنقاش قانوني واجتهادات غالبا ما تستنفر ممثل النيابة العامة، الذي يجد نفسه ملزما ببذل جهد كبير واجتهاد خاص للتعقيب على كل نقطة قانونية شرحها بكل تفاصيلها، وهو ما يضفي على المحاكمة رونقا خاصا، يزينه نقاش الكبار في القانون من كلا الطرفين. ولد الراحل بوعشرين بالبيضاء في 10 مارس 1953، بمنطقة درب السلطان، هذه المنطقة التي كانت وراء ظهور فنانين ومسؤولين أمنيين وقضائيين كبار، كما شهدت أحداثا تاريخية ما زالت مؤرخة إلى اليوم، قدمت لمهنة المحاماة خيرة أبنائها وأكثرهم كفاءة، ليس فقط وطنيا بل حتى عريبا، سيما عندما انتخب أمينا عاما للمحامين العرب. صدمة وفاة النقيب بوعشرين أدت إلى ظهور مرثيات ضاهت بلاغتها ورقة إحساسها وجمال كلماتها المعبرة عن ألم الفراق، نظير ما كتبه شعراء وأدباء معروفون في التاريخ، إذ تشعر عند مطالعتها أن القلم أدرك حجم خسارة فقدان الراحل، وناب عن صاحبه للتعيير عن لوعة الفراق والحزن. أورع ما كتب عن الراحل، ما خطه القاضي عبد الرحيم الوردي، إذ لخص رحيل النقيب بوعشرين بعبارة "فقدرنا اليوم أن نعيش زمن الخسارات الكبرى برحيل الكبار"، قبل أن يفسح المجال لإبداعاته اللغوية والأدبية لكشف حجم المعاناة والصدمة التي طالته رفقة زملائه التي سببها الموت " مثلما تتحجر الدموع في المآقي، تتكلس الكلمات على الشفاه. ففداحة الخسران لا تعوضها آيات البيان. وما من لغة غير الصمت الشائخ تجلي عن الذات ما داهمها من أحزان. لتغدو الكتابة عن الغياب وهم من الإحساس بالسلوى، وربما قبض يائس على الذكرى، أو انتقام من الفقدان". وزاد القاضي الوردي لتأكيد فداحة الخسارة بالقول "لم يكن ابن درب السلطان رجلا سهل النسيان، لم يكن ظلا شاردا في زوايا الجلسات، أو شقيا لاهثا وراء فتات الأتعاب والملفات، أو خامل الذكر عندما تدلهم الخطب والنكبات. كان محاميا كامل المحاماة، هيابا في المرافعات، بارعا في ارتجال أفخم العبارات حتى في أقسى اللحظات". الصدمة نفسها عمت رفاقه في المهنة وآخرين يفتخرون بأنهم كانوا وسيظلون تلاميذته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فبوعشرين وهبه الله فصاحة الكلام والرؤية القانونية الثاقبة، عندما يرافع يعم الصمت قاعة المحكمة ويصغي الجميع باهتمام كبير لكل حرف أو كلمة ينطق بها، بعباءة فقيه في القانون والمتمكن من صنعة المحاماة، يبحر دون خوف في عوالم قضايا كبرى أثارت الحدث بالمغرب، آخرها قضيتا توفيق بوعشرين، قبل أن ينسحب منها لأسباب غامضة، ودنيا باطما، مبهرا الجميع إلى حد تحويل مرافعته إلى فن يجتهد المحامون الشباب في تعلم حروفها الأبجدية. نعي كل هذا التاريخ والمجد الذي صنعه النقيب عبد اللطيف بوعشرين، كان يحاربه في الخفاء مرض تسلل إلى كبده، خضع لعملية زرع الكبد بعناية ملكية واهتمام من الوزير العدل الأسبق الراحل الناصري. اعتقد الجميع أن بوعشرين هزم المرض، لكن الأخير ظل يتحين الفرصة لمدة 15 سنة، بدأت بأعراض وآلام شديدة، حينها تم نقله إلى مستشفى الشيخ زايد بالرباط، قبل أن يصدر بيان النعي الصادم، السبت 19 فبراير 2022. مصطفى لطفي

النقيب بوعشرين… الفنان

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

آش خاصك تدير؟ ... السياقة برخصة أجنبية

جرائم لإخفاء أخرى

مقالات ذات صلة