الهروب الكبير

الكارثة التي تخفيها أحداث "عابرة"، مثل استحقاق المغرب في المونديال، وتداعيات امتحان المحاماة، وفضيحة التذاكر، و"خزعبلات" البرلمان الأوربي، أن ثمة عددا كبيرا من المغاربة يفضلون "تهريب" أموالهم إلى الخارج، بدل توطينها في بلدهم الأصل. فقط من أجل هذا التطور المزعج في بنية تفكير الرأسمال المغربي، ينبغي أن يتوقف كل شيء، ويجلس الجميع إلى طاولة المكاشفة، ونطرح الأسئلة التي يجب أن تطرح على نحو عاجل من قبيل: ما الذي يدفع أصحاب الأموال إلى الهجرة إلى الخارج؟ ولماذا لم تقنع خطابات تأهيل الاستثمار وتشجيعهم على البقاء في وطنهم؟ الموضوع جدي ولا يحتمل أي هزل، لأنه يمس، في العمق، بنية الأمن الاستثماري في المغرب وأحد مقومات الاستقلالية والاستقرار والسيادة. فلم يعد الأمر مقتصرا على حالات معزولة لأفراد، بل يهم مجموعات تفكير، ومؤسسات تشتغل في الليل والنهار، وآليات تعبئة وتواصل بمستوى عال من الحرفية، لإقناع أكبر عدد ممكن من المستثمرين لترك الجمل بما حمل هنا في المغرب، واستغلال الفرص والتسهيلات التي تضعها دولة في الخليج رهن إشارة المقبلين على التجربة. إن الأمر أشبه بهروب جماعي، يستغل فيه مستثمرون أية ثغرة في عمليات الصرف والإجراءات المرافقة لها، لإخراج عشرات ملايين الدراهم إلى الخارج، كما وقع، أخيرا، حين سمح مكتب الصرف برفع قيمة الأموال الممكن تحويلها للاستثمار إلى 200 مليون درهم سنويا، دون تحديد شرط التوزيع. ووجدت شركات وأشخاص الفرصة سانحة (بسبب هذه الثغرة) لتحويل الأموال كلها إلى مناطق التسهيلات والربح السريع بمنطقة الخليج، وتحديدا إلى الإمارات، ما تنبه إليه مكتب الصرف الذي بدأ يدق ناقوس الخطر في عدد من المراسلات الموجهة، سواء إلى القطب المالي للبيضاء، أو المجموعة المهنية للبنوك. ورغم أهمية التدابير التي يقوم بها مكتب الصرف لوقف النزيف، فإن الدم مستمر في التدفق من شرايين أخرى، في غياب عمليات جراحية حاسمة لاستئصال الداء لمرة أخيرة. فما يفعله المسؤولون في هذه الأثناء، هو أضعف الإيمان فقط، في وقت يحتاج المغرب إلى إيمان قوي لإصلاح قطاع الاستثمار وإعادة الثقة إلى الرأسمال الجبان بطبيعته الذي يرتعش لأقل الأسباب، ولا يتردد في ركوب أول قارب لـ"الحريك". فماذا تنتظر من "رأسمال" يقف عدة أشهر في طابور طويل لتسلم رخصة بناء بئيسة؟ وكيف تطلب منه البقاء في وطنه، وهو يرى كل يوم قوانين تنتهك، ومساطر ترمى من النافذة، وصفقات عمومية على المقاس، وعراقيل إدارية وابتزاز ومساومة ورشوة؟ ومن سيجبر مستثمرا على حب بلد، توزع فيه الشعارات ومشاريع الإصلاح والهيكلة بسخاء، ثم تدخل كل هذه الأشياء إلى صندوق التجميد عند أول تنزيل أو تنفيذ؟ ولماذا سيكون مطلوبا من مستثمر مواجهة تعسف الإدارة وظلم الرقمنة، والتوزيع غير العادل للضرائب والتقتير في الأرباح في بلده، بينما تفتح له سماوات التسهيلات والإغراءات في البلدان الأخرى؟ وكيف سيكون موقفه حين يرى أن المخطئ لا يحاسب، والمسؤول لا يتعرض إلى التوبيخ والعقاب، وحين يرى أن شقاء سنوات في جمع الرأسمال، يمكن أن يهدره موظف يائس لم يتوصل بترقية؟ إنها صورة تقريبية لعبث مستمر لا حدود له في التعاطي مع الاستثمار الوطني. عبثٌ نتعايش معه كأنه قدر منزل، ونلعن المتمردين عليه حين يختارون وجهات أخرى. وجهات أخرى أكثر رحابة، لاستنشاق هواء نقي.

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو

متهم: لم أسمع الحكم المرجو قراءته

بن بطوش باق على رأس ما تبقى من بوليساريو

مقالات ذات صلة