كتاب يستعيد جوانب من تاريخ الطيران بالمغرب صدر حديثا كتاب جديد بعنوان "تيط مليل.. أكثر من مطار" عبارة عن تأليف مشترك بين رضا بناني ومحمد فريجي، وهو الكتاب الذي جاء بالموازاة مع معرض خاص نظم من قبل المكتب الوطني للمطارات بشراكة مع مؤسسة "محترف أوبسرفاتوار" لتقديم مقاربة وثائقية ترصد تاريخ الطيران المدني في المغرب، وخاصة مطار تيط مليل، عبر مسار المراقب الجوي السابق، الراحل فريد أحمد بناني، الذي ربط التصوير الفوتوغرافي بالذاكرة، عبر فترات زمنية مختلفة. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من هذا الكتاب. إعداد: عزيز المجدوب في البدء كان الإحساس بفاجعة الفقد. رضا بناني، هذا الشاب الثلاثيني الذي يشع من بريق عينيه ذكاء حاد، لم يترك ألم فراق والده في أحد أيام يناير 2020 يستبد به، بل آثر على نفسه أن يجعل من هذا الرحيل فرصة للنبش في تاريخ الأب ومساره المهني واستعادته على نحو نوستالجي، قبل أن يطوي النسيان ذاكرته وذاكرة رفاقه. بدأ ينقب في أغراض والده فريد أحمد بناني، الذي كان يشتغل مراقب طيران بمطار تيط مليل، فكانت المفاجأة أن عثر على وثائق وصور جديرة بأن تكون نقطة انطلاق لبحث تاريخي حول فضاء احتضن ذكريات الوالد والابن معا، حيث كان يتردد على هذا المطار وهو طفل صغير، وخزن ما يكفي من الصور والمشاهد الكفيلة بتحريك الرغبة في إعادة تركيب جزء من تاريخ مطار تيط مليل والشخوص التي مرت منه. وهكذا بدأ مسار بحث اتخذ في البداية طابعا ذاتيا وشخصيا، ليتحول إلى مشروع مشترك مع محمد فريجي ضمن إطار المتحف الجماعي للدار البيضاء، الذي يشرف عليه "محترف أوبسرفاتوار"، فتنطلق رحلة البحث، مؤطرة بحس صحافي استقصائي وأرشيفي راجع إلى التكوين الدراسي لرضا بناني نفسه، تضمنت جلسات مع من تبقى من قدماء المشتغلين والموظفين السابقين بمطار تيط مليل منذ أزيد من سبعين سنة على تدشينه، من مغاربة وأجانب. كانت محصلة البحث أزيد من ألف صورة وعشرات القصاصات الصحافية والوثائق عن مطار تيط مليل، انتقى منها رضا بناني حوالي 40 صورة أثث بها كتابه، بينما مازال البحث متواصلا لاكتشاف جوانب أخرى من هذا التاريخ. من ماكس كيدج إلى تيط مليل بدأ الطيران في الدار البيضاء خلال اللحظات الأولى للوجود الاستعماري الفرنسي في حلة عسكرية وبأهداف استعمارية، وفي هذا الإطار شيد الفرنسيون بالبيضاء مطارا عسكريا "كامب كازيس" ليتحول بعد نهاية الحملات العسكرية إلى مطار مدني، وهو الذي سيحمل في ما بعد "مطار أنفا». لكن حركة النقل الجوي المطردة دفعت السلطات الاستعمارية إلى بناء آخر رئيسي للتجارة، وآخر ثانوي للسياحة، إضافة إلى مطارات ثانوية أخرى. وفي هذا السياق جاء بناء مطار تيط مليل على بعد 13 كيلومترا من الدار البيضاء، إذ يعد من أبرز المطارات السياحية التي ارتادها السياح: تجار ورجال أعمال فرنسيون وأجانب ممن استعملوا طائراتهم الخاصة. وحسب ما أورد رضا بناني في بحثه، فإن مطار تيط مليل بني عبر مراحل منذ نهاية الأربعينات، إذ كانت أرضية المطار تحمل اسما آخر هو "أرض ماكس كيدج" نسبة إلى طيار فرنسي قضى نحبه في مهمة عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1945 بالنرويج. ونشأ ماكس كيدج في أسرة يهودية بتونس حيث ولد، قبل أن تنتقل الأسرة إلى المغرب، حيث ترعرع، وكان والده فليكس محاميا ضمن هيأة الدار البيضاء. وتلقى ماكس تكوينه في الطيران بالمغرب، قبل أن ينخرط بشكل تطوعي ضمن المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي مطلع الأربعينات، وشارك في بعض العمليات العسكرية قبل أن يلقى مصرعه. وتحدثت التقارير الصحافية لتلك المرحلة عن تكوين أرض جديدة للطيران السياحي بالبيضاء، في الوقت الذي كان فيه مطار آخر هو "كامب كاز" الذي سيتحول في ما بعد إلى مطار أنفا تزامنا مع توقيع اتفاقية أنفا بالبيضاء سنة 1943، في الوقت الذي تأسس فيه هذا المطار لأغراض عسكرية سنة 1917. وفي 1923 فرضت الضرورة توسعة مطار "كامب كاز" (أو أنفا في ما بعد) بإضافة مساحة أخرى إليه تفوق الهكتار، ليصبح قاعدة رئيسية لأهم العمليات العسكرية، التي قام بها سلاح الطيران الفرنسي بالمغرب، خاصة بعد تكوين الفوج 37 للطيران، وهو عبارة عن وحدة للسلاح الجوي الفرنسي تأسس خلال الحرب العالمية الأولى تشكل من الإدارة العليا بالرباط وحظيرة للطيران بالدار البيضاء، ضمت عشر كتائب لكل كتيبة ثماني طائرات ووحدة للتصوير الجوي. ومع نهاية عمليات الاحتلال تم حل الفوج 37 للطيران، نهاية 1935، بعد أن قدم آخر استعراض له أمام العقيد "بوسكات" بمطار كاز في دجنبر 1934. ولم تنتف عن مطار "كاز" وظيفته الحربية، بانتهاء عمليات الاحتلال، بل استعادها على الصعيد الدولي أثناء الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد 1943، إذ تحول إلى جانب باقي المطارات المغربية إلى قاعدة جوية تنزل بها الطائرات الأمريكية والبريطانية، القادمة من وراء البحار، والمتوجهة إلى معارك القتال بالجزائر وتونس، ثم أوربا وآسيا. أما بالنسبة إلى مطار "تيط مليل" الذي بدأت نواة تكوينه تظهر منذ نهاية الأربعينات، فقد خصصت له حكومة الحماية، 59 مليون فرنك لإنجاز مجموعة من الأشغال، منها تشييد محطة مع برج مراقبة للمراقبة، ومقر عصري لنادي الطيران المغربي وإنشاء حظيرة من 25 مترا على 30 مترا، ثم بناء منار للإرشاد وترميم وإصلاح ميادين الهبوط. خلال تلك المرحلة انبرى ثلاثة مهندسين معماريين، هم جان فرانسوا زيفاغو ودومينيكو باسيانو وباولو ماسينا لتصميم البناية الرئيسية لمطار تيط مليل. وحسب تقرير لجمعية "كازا ميموار" فإن الأمر يتعلق ببنايتين ذات وظيفتين متمايزتين، تتصلان بمعبر مغطى طوله 20 مترا، وتبدوان وكأنهما تطفوان على سطح الأرض، ومن جهة مرائب الطائرات ومدرجات الطيران، ثمة ممشى غير متعرج يقود إلى مكاتب الإدارة، ويتشكل برج المراقبة من ثمانية أعمدة تخترقها كرة حديد وتبدو معها كمنحوتة. وفي جانب المعبر هناك سلم حديدي يؤدي إلى مقر النادي، الذي تمكن سطيحته القائمة على أوتاد مخروطية الجذع ومقلوبة، من مشاهدة تحركات الطائرة السياحية. أما المدخل فتدخل إليه الإضاءة من خلال شرائح إسمنتية عمودية يتخللها زجاج مضبب يصاحب انحناءة الحائط، وخلف المدخنة ثمة صالون نصف دائري مؤثث بمقاعد معلقة من الحديد المثقوب أنجزها الفنان والحداد ماثيو ماتيغو. الذي كان يملك ورشة للحدادة بعين السبع. جاك كارتون.. الشاهد الأخير يشترك جاك كارتون مع أحد مؤلفي الكتاب وهو رضا بناني، في أن كل واحد منهما ارتبط بمطار تيط مليل باحثا عن بقايا وأثر مرور الأب من هناك. كارتون (82 سنة) الشاهد الوحيد الباقي من الجيل الذي حضر اكتمال بناء المطار خلال مطلع الخمسينات، ولد بفرنسا ونشأ وترعرع بالبيضاء حيث درس بمدرستها الصناعية وخاض تجربة التجنيد العسكري، قبل أن يدرس الهندسة بفرنسا، ليعود إلى البيضاء بعد وفاة والده هنري كارتون في حادثة طائرة بالمغرب، ويلتحق بالورشة الميكانيكية للمطار التي كان يشرف عليها والده ليخلفه فيها، وقضى هناك عشر سنوات، مليئة بالذكريات والتفاصيل تميزت بحرية التحرك والطيران إلى حدود مرحلة ما بعد 1972 إثر حادث الانقلاب العسكري ومهاجمة الطائرة الملكية ليتحول الوضع نحو التشديد في مراقبة الأجواء وحركة الطيران وتعيين مناطق يمنع التحليق فوقها، ووضعت الجمارك ومصالح الدرك الملكي في مختلف مطارات المملكة. كما استحضر الكتاب نشاط نادي المظليين الذي تأسس بمطار تيط مليل سنة 1964 من قبل برنار ديمون ومحمد بنيس، والذي ظل يعرف نشاطا كبيرا خلال عطل نهاية الأسبوع وتزامنا مع الاحتفالات بالمناسبات الوطنية، حيث كانت تقدم الاستعراضات من قبل المظليين. أندية الطيران... الصيغة المغربية أوردت الباحثة إدريسية بخشوني في كتابها "النقل والتنقل بمدينة الدار البيضاء وناحيتها" جوانب من تاريخ تأسيس أندية الطيران بالبيضاء، مشيرة إلى أن أول ناد تأسس بها سنة 1921 تحت اسم "نادي الطيران المغربي" برئاسة الأمير شارل مورات، وتوالى على رئاسته الشرفية كل من المقيمين العامين: ليوطي وستيغ ولوسيان سانت، تشجيعا لأعمال هذه المؤسسة، التي أخذت على عاتقها ربط الاتصال مع الطيران المدني في العالم وتكوين الشباب في قيادة الطائرات من الجنسين. وظهر الطيران الخاص بفضل هذا النادي، وتطور بعدما انتظمت نوادي الطيران سنة 1930 بكل من الرباط وفاس ومراكش وأكادير، وآسفي وبورليوطي (القنيطرة)، وكانت هذه النوادي تملك طائرات لتعليم القيادة وتأجيرها لمن يرغب في التنقل جوا برسوم حسب ساعة الطيران. تقدم نادي الطيران البيضاوي في مارس 1930 إلى المقيم العام لوسيان سانت بمشروع إقامة تعاونية للنقل، بهدف تنظيم النقل الجوي في أوقات محددة، وبهدف امتلاك ربان أو بدونه. كما أنشأ النادي سنة 1936 فرعا للطيران الشرعي من عشرة أعضاء باشتراك شهري، وفي السنة الموالية أسس فرعا إسلاميا بالنادي تبرع كل من الوزير الحاج التازي وباشا مراكش الحاج التهامي المزواري بشراء طائرة "سوبيرمارفير" لتعليم القيادة بالنسبة إلى الشباب المغاربة. أما بالنسبة إلى مدرسة الطيران بالبيضاء فقد أحدثت مطلع الثلاثينات عندما قرر وزير الطيران الفرنسي إحداث مركز لتعليم قيادة الطائرة للراغبين فيها. فتحت المدارس في وجه الفرنسيين أولا، خاصة الراغبين في العمل بالطيران الحربي، وكان التعليم مجانيا لمدة 9 أشهر تحت مراقبة السلطة العسكرية، تضمن دروسا نظرية يوميا في معسكر كاز (أي مطار أنفا) وتطبيقية مرة كل أسبوع. وقامت النوادي بدور كبير في التكوين، جعلت المغرب يحتل الرتبة السادسة في هذا المجال سنة 1934، والخامسة في الأشهر الثلاثة الأولى من 1935، بين دول شمال إفريقيا والمستعمرات الفرنسية، وكان للمغاربة نصيب في هذا التكوين، وكان الأمير مولاي حسن شقيق السلطان محمد الخامس، أول مغربي ينال شهادة القيادة، حصل عليها من نادي الطيران المغربي بالبيضاء سنة 1934. لكن فرنسا، مع بداية الحرب العالمية الثانية، فرضت قيودا على الأهالي لولوج مدارس الطيران، بدأتها في منتصف 1939 بقرار لوزير الطيران الفرنسي يدعو نوادي الطيران بفرنسا والجزائر وبلاد ما وراء البحار إلى عدم قبول التلاميذ غير الفرنسيين في مدارسها. ورغم ذلك القرار استفاد مغاربة من التدريب، منهم أحمد بن عبد الله المحرز الذي كان يقدم برنامجا إذاعيا بمحطة "راديو ماروك"، وأيضا ثريا الشاوي التي كانت أول امرأة مغربية وعربية، وأصغر طيارة في العالم تحصل على شهادة القيادة من مركز تيط مليل بالبيضاء وسنها لا يتجاوز السادسة عشرة سنة 1951، قبل أن تلقى مصرعها في حادث اغتيال مأساوي أربع سنوات بعد ذلك.