منتجع الفرنسي «بانيو» الذي عشق مكناس في حاجة للإنقاذ بالأمس كان منتجع بانيو أو ما يعرف ب"الشعبة السعيدة" واحدا من أكثر المواقع الساحرة التي تزخر بها العاصمة الإسماعيلية آنذاك، تبعد عن أقرب نقطة من المدينة بأربعة كيلومترات فقط في الطريق الوطنية المؤدية للرباط، وتقع بتراب جماعة دار أم السلطان القروية. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جانبا من تاريخ هذا الفضاء والمصير المزري الذي آل إليه بعد أزيد من قرن على تشييده. إنجاز: حميد بن التهامي (مكناس) شيدت "الشعبة السعيدة" في عهد الحماية وكانت تسمى آنذاك بـ "الفــردوس المفقــــــــود" نظرا لتــوفرها على كل المقومات الطبيعية الساحرة، إلى درجة أنها تفوقت على "الشعبــــة السعيــــدة" الموجــودة بكل من فرنسا وبرشلونة وسويسرا، نظرا لتميزها بخصوصيات مناخية متوسطة وحضارية مغربية أصيلة رغم أن مالكها شخصية فرنسية. عرف منتزه بانيو حركة ثقافية كبيرة، إذ نظمت به عدة حفلات رسمية ضمت كل عناصر البهجة والراحة والاستجمام وسط شلالات أحواض مائية بأسماك مزركشة ونافورات عجيبة تشد الأنفاس، يحيط بها غطاء نباتي متنوع وأشجار استوائية وورود ذات ألوان زاهية وحدائق غناء تضم مقهى ومطعما والكثير من وسائل الترفيه، تجلب الزوار من كل صوب، حيث كانت وبشهادة الجميع جزءا من جنة الله فوق أرضه، مستحقة بذلك حمل اسم "الشعبة السعيدة"، قبل أن تتحول سعادتها إلى مأتم وصحراء بيداء قاحلة تدمي القلوب، ليحرم منها ليس سكان مدينة مكناس فحسب، بل حتى الزوار الذين كانوا يحجون جماعات وفرادى إلى العاصمة الإسماعيلية للاستمتاع بهذه التحفة النادرة. منتجع في غرفة الإنعاش مع مرور الأيام، أضحت حدائق "بانيو" ذات القيمة البيئية والسياحية المتميزة، تعرف إهمالا وتدهورا كارثيين، إذ لم تعد صالحة لا للاستجمام ولا للترويح عن النفس كما كانت من ذي قبل، بسبب النسيان الذي طالها من قبل المسؤولين الجماعيين المتعاقبين على المنطقة، وامتداد أيادي التخريب التي عاثت فسادا في فضاءاتها، إذ اجتثت أشجارها وأتلفت معالمها التاريخية، التي كانت إلى عهد قريب آية في الروعة والجمال تغري الزوار. وبذلك يكون المنتجع قد دخل في خانة الإهمال والنسيان ومرثيات الزمن الجميل بالحاضرة الإسماعيلية. و"إيميل بانيو" الذي كرس حياته لإنجاز هذه الجوهرة الفريدة، لا أعتقد أنه كان سيغامر بتكريس سنوات طويلة من عمره لتشييد هذه القطعة الفنية لو أنه كان يعلم بأن من سيأتون بعده من مسؤولين محليين ومركزيين سيساهمون في إهمالها وتدميرها. الأمر الذي أضحت معه مدينة مكناس أكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة لإعادة تأهيل هذا الفضاء الساحر وفق مخطط تنموي مجالي حتى يصبح وجهة سياحية وثقافية واقتصادية تعـــود بالنفـــع العميم على التنميــــة البشـــرية والمجاليـــة للمدينة وضواحيها، خاصة وأن العاصمة الإسماعيلية لا تتوفر حاليا ولو على حديقة واحدة مفتـــــــوحة تستجيب لأبســـط المعايير المعمول بها في مجال الاستجمام والتــرويح عن النفس. والمصيبة أن الوضعية الكارثية التي يوجد عليها حاليا هذا المنتجع، لا تثير اهتمام المواطنين الذين أصبحوا يرون في هـــذا الوضع الشــاذ أمرا عاديا، ربما لأنهم فقدوا الأمل فيها واستسلموا للأمر الواقع أمام مسؤولين جماعيين مصابين بالصمم والعمى. أما آن الأوان لتتـــــــــــوحد جهود كل الفاعلين بالحاضرة الإسماعيلية كــل من موقعــــــه لإخراج حدائـــق "بانيو" الجريحة من غرفة الإنعاش قــــــد تعيــــد لنا مجدها ورونقهـــــــــا، حتــى ينعــــم المواطنــــون بمناظــــرها الخلابـــة وهــوائهــــا النقــــي المنعش؟ نتمنى أن يتم التفكيـــر جديا في إعادة هيكلـــة وترميم منتجع "الشعبة السعيدة" (بانيــــــو)، لعل ذلك يعطــــــــــــــي دفعــــة قوية للقطاع السياحي وللتنمية الاقتصادية بالعاصمة الإسماعيلية وبالجهة عموما. ولد إيميل بانيو، صاحب منتجع "الشعبة السعيدة" سنة 1876 في وسط عائلة كبيرة تمتهن الفلاحة بفرنسا. استقر إميل بمدينة وهران بالجزائر سنة 1905، ونظرا لعشقه للأماكن الطبيعية والمروج العذراء انتقل سنة 1908 إلى مدينة بركان المغربية، حيت أنشأ بها أول مزرعة عصرية تبلغ مساحتها 200 هكتار. وفي إحدى السفريات غير المتوقعة حل بمدينة مكناس، حيث تغيرت حياته عندما وقف على المؤهلات الطبيعية والمناخية الهائلة التي تزخر بها العاصمة الإسماعيلية ونواحيها، إذ افتتن بالمناظر الطبيعية الخلابة وغزارة المياه واعتدال المناخ وخصوبة التربة التي تميز المنطقة عن غيرها. ويحكي إميل، أنه تأثر بعد رفعه لحفنة تراب إلى السماء وقبلها قائلا "بمكناس سأحيا وبها سأموت". وفعلا، استقر بانيو بمنطقة تولال غرب المدينة منذ 1914 مؤسسا بذلك إمبراطورية فلاحية بأحدث الوسائل والآلات العصرية وبسواعد المغاربة الذين أخذت منهم أراضيهم غصبا ليتحولوا إلى عمال مجرد مياومين أو ما يعرف بالعزيب. وبعدها بست سنوات وبالضبط 1920 قام "إيميل بانيو" بتأسيس منتزه "الشعبــة السعيــدة" الـــــذي أخذ 15 سنـــة من الأشغـــال المختلفة في البناء والاستصلاح والزرع، وذلك تحقيقــــا لواحدة من أحلامــه الطفــوليــــة التي عاشها بضاحية "فينــول" الفرنسية. شكل التنميق والزينة المعتمدان على الصدفات البحرية المجلوبة من شاطئ الرباط في نسخة طبق الأصل لأحد القصور في بلدة "فينول" الفرنسية مسقط رأس بانيو. كما قام بزرع وغرس نباتات ونخيل وأشجار جلبها من مختلف المستعمرات الفرنسية، بالإضافة إلى انشائه حديقة للحيوانات المفترسة وأحواضا ونافورات تزينها ورود وأسماك مختلفة الأشكال والألوان حتى سميت الشعبة ب"الفردوس المفقود". ويعتبر "إيميل بانيو" من الشخصيات الكبيرة إبان الحماية، فهو من مؤسسي أول مجلس بلدي بمكناس سنة 1917. تقلد منصب نائب رئيس بلدية مكناس ورئيس الغرفة المختلطة الفلاحية والصناعية لسنين ومؤسس ومالك فندق وليلي بحمرية بمكناس منذ سنة 1929 وكذلك له يد في الأعمال الاجتماعية من خلال مؤسسة بانيو "كوط دولي" لرعاية الأيتام والتي تسلمتها مريم زنيبر زوجة الفقيد ابراهيم زنيبر، فضلا عن أنه كان فاعلا جمعويا وراعيا كبيرا للثقافة في مكناس أيام ازدهار الحركة الثقافية الكولونيالية بالمدينة. وهو كذلك مؤسس زراعة وتجارة الخمور بناحية مكناس ومن مؤسسي حديقة التجارب الفلاحية بجنان بن حليمة سنة 1916. وتوفي "إميل" سنة 1953 تاركا وراءه "هولدينغ" اقتصاديا وماليا يشتمل على مجموعة من المزارع والمنشآت الفلاحية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية والسياحية.