مخاطبـة الانفعـال واللاشعـوري

القري استنكر تكريس الرداءة وقيم الاستسهال والقدوات الضعيفة استنكر إدريس القري، باحث في وسائل الإعلام وكاتب وناقد تفشي التفاهة، التي باتت بالنسبة إلى البعض بمثابة صناعة ومجال للاستثمار. وأكد القري أن المحتويات التافهة نجحت في مخاطبة الانفعال والمكبوت واللاشعوري. عن تفاصيل أكثر حول الموضوع يتحدث القري ل»الصباح» في الحوار التالي: أجرت الحوار: أمينة كندي < ‏إن ظاهرة انتشار ورواج التفاهة، ليست في الواقع فقط، بل على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي عموما. ‏ويرجع ذلك لعوامل متعددة منها، أولا ‏طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي، فهي عبارة عن مواقع في عالم افتراضي لا تتطلب إذنا لنشر محتوى، ‏كما أنها لا تتطلب شهادة تخصص في التواصل والتكوين للخوض في كل المواضيع، ولا التزاما أخلاقيا أو الالتزام بميثاق، ‏إلى جانب أنها لا تتطلب ولا تشترط ضوابط فكرية وثقافية، بل حتى الضوابط الأخلاقية يتم تجاوزها لأنها مواقع ما يحكم منطق الولوج إليها واستغلالها هو الربح أساسا وأولا وأخيرا. وتتجلى ثاني العوامل في ‏منطق الربح، الذي صنع من العالم الافتراضي ومن مواقع التواصل الاجتماعي، مساحات من الممكن ولوجها واستغلالها من طرف كل من يستطيع مخاطبة أكبر عدد من الجماهير، وطبعا فكلما نزلت نحو العامة إلا وكان التواصل مع الأغلبية. وهذا يتطلب التبسيطية التي تنزع التركيب والعمق، بل والمعقولية عن الأفكار والآراء، وكل ما سبق يسقط في السطحية والابتذال والديماغوجية، ما يفتح الباب أمام دغدغة المشاعر والضرب على وتر الانفعالات والمكبوتات. < يقودنا ما سبق إلى القول بأن ثمن تغطية السواد الأعظم من الشعب بخطاب مفهوم وفي متناول العامة ببساطته، وبالتالي تشويهه للحقائق باختزالها، ما يجلب أرباحا طائلة لشبكات التواصل الاجتماعي ومن يقف وراءها، وهي الشركات العابرة للقارات، لأن دخول العالم الافتراضي يتم بمقابل أولا، ولأن دخوله يقتضي فتح الباب بالضرورة لحصول الشركات على مئات الملايين من المعلومات الشخصية لمرتادي الإنترنت، وأداء رسوم، ثم هناك الإشهار المدر لأموال ضخمة لأن شركات العالم الافتراضي، تدرس أذواق وميول واختيارات الناس، انطلاقا من مراقبة ما يشاهدونه وما يحبونه وما يكرهونه وما يعلقون عليه، وبالتالي تبيع كل ذلك لشركات ولدول لأغراض متعددة. <هن يكمن ثالث العوامل هو أنه لتشجيع التفاهة والفراغ وتشويه الوعي، تدفع الشركات لمن يحقق أتباعا كثيرين، ولا يحقق هذا الهدف طبعا إلا الأقرب إلى التفاهة وبساطة الوعي، وهم صناع المحتوى الذين لا ثقافة ولا وعي جمالي أو مدني لهم، بل ولا ضمير لهم لأن وعيهم مقلوب وشقي أصلا، رغم أنهم يعتقدون العكس ويزيد حصولهم على مال وفير وشهرة شعبية من الأنا لديهم واعتقادهم بأنهم فعلا مشاهير، بل ورموز. ومن جهة أخرى، فإن سعي شركات ومؤسسات عمومية وخصوصية وراء حضورهم وبمقابل وتكريم أحيانا يزيد من الخسائر الفادحة على مستوى بنيات الذوق والتربية وسلامة الوعي الوطني. أما رابع عامل فرغم ظهور جمعيات ومنظمات وتشريعات لحماية المعطيات الشخصية لكن الاختراق قائم وسيظل نوعا جديدا من «البيغ براذر» ويتطور مع التكنولوجيات ومع الزمن. وتتجلى خامس العوامل في تصدر المحتويات التبسيطية والرديئة والتافهة قائمة المشاهدة لأن الأغلبية الساحقة من المرتادين تزداد نسبتهم بازدياد تخلف البلد في ميادين التعليم والتربية والثقافة والفنون، وبالتالي الوعي المدني والثقافي. < إن إقبال واستهلاك الآلاف أيضا من الطبقات الوسطى للمحتويات الرديئة، وبالتالي دعمها وتشجيعها على النجاح، يعود في نظري إلى ضعف هذه الطبقة نفسها بضعف التربية والتعليم، وضعف الإعلام الذي من المفروض أن يكون توعويا وعقلانيا وعالي المهنية، يتضمن الكثير من برامج الثقافة والحوار والوثائقيات والفن الرفيع أيضا، وليس الهابط فقط والشعبي، متلائما مع الانتظارات المستقبلية للمغاربة، ومنسجما مع بناء مشروع المجتمع الحداثي الديموقراطي، الذي أعلن عنه صاحب الجلالة منذ انطلاق عهده. < قد أفاجئ البعض إن قلت إن أغلب المثقفين لا صلة لهم، وهم لا يعرفون التعاطي مع العالم الافتراضي وتقنياته، فهم محافظون لا يقبلون على تجديد تعلماتهم في مجال المعلوميات وتقنيات عالم التواصل الجماهيري، بل يتخفون فيه وراء هويات مزورة وبشكل خاطئ، معتقدين أنهم أكبر من تلك التفاهات بينما هم ببساطة يساهمون بالتهرب والهروب في انتشار الرداءة. الأدهى أحيانا أن حتى بعض من يكتبون تحليلات وانتقادات ولو أكاديمية أو صحفية عن هذا العالم، لا دراية لهم بعالم يصعب تقبل التنظير فيه، في غياب أي ممارسة حد أدنى وسأقول لكم لماذا: فالعالم الافتراضي لا يخضع لمنطق ولآليات صناعة المعنى والجماليات والتواصل والتأثير والتبليغ، الذي هو مألوف مع اللغة الكلاسيكية الأبجدية. تعتمد اللغة الكلاسيكية الإدراك والتخيل والتعميم والتجريد والترميز، وكلها عمليات عقلية عليا تحرك الدماغ والملكات وتمكن من التمرس بالمعاني وبالإبداع إلى غير ذلك، أما اللغة السمعية البصرية فمنطقها مختلف، فهي تعتمد الجاهز دون عناء صوتا وصورة، ولا حاجة للمتلقي باستعمال عملياته العليا لاكتساب المهارات والكفاءات، كما تم الشرح أعلاه. إن اللغة الجديدة للسمعي البصري وللعالم الافتراضي تعلم الكسل والإغراء واللعب ومخاطبة الانفعال والمكبوت واللاشعوري، أكثر من مخاطبتها الوعي والعقل والمنطق. هنا يكمن المكر وهنا يكمن الخطر على الصغار وعلى الكبار والمتعلمين بأعلى الشهادات أيضا طبعا. < إن اعتماد السلطات الوزارية والحكومية عموما على هذا النوع من الخطابات، وتكريم وتشريف ودعم أصحابها، وتمكينهم من أداء مهام التوعية بإجراءات وتبليغها لعامة الشعب بالإشهارات الرديئة، وبالوصلات «البليدة» غير الجميلة ولا الذكية، تحت ذريعة ركوب أهداف ملامسة الأغلبية. وبتوظيف وجوه ورموز التفاهة بذريعة الوصول والتواصل مع الشباب وعامة الشعب بلغة اليوم وبلغتهم (من قال إنها لغتهم؟! إنها لغة التكنولوجيات ولغة التجارة المعولمة والسيطرة الإيديولوجية النيوليبرالية الجديدة!!)، بالنسبة إلي خطأ جسيم لأنه عمل سياسي حكومي، ينضاف إليه استقبال وأخذ صور مع بعض صناع الرداءة هؤلاء بمن فيهم المنتجة لأعمال هجينة يدعون أنها تروج ل»تامغربيت» أو تراثنا الأصيل عالميا. وهذا لا يفعل غير تكريس الرداءة وقيم الاستسهال والقدوات الضعيفة، خاصة أن العلماء والمفكرين والمثقفين والفنانين الرصينين مهملون ولا متنفس إعلامي وتواصلي لهم بشكل شبه مطلق. في سطور: - أستاذ الفلسفة والجماليات البصرية ووسائل الإعلام. - كاتب وناقد ومصور فوتوغرافي ومدير فني. - رئيس تحرير مجلة «مسرح». - عضو هيأة التحرير في مجلة «باحثون» المُحكَّمة. - رئيس «الجمعية المغربية للصورة. AMI « - مدير المهرجان الدولي لفن الفوتوغرافيا الرباط مدينة الأنوار. - عضو «الكرسي الجامعي فاطمة المرنيسي».

مخاطبـة الانفعـال واللاشعـوري

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اعتقال طبيب متورط في ملف "لامبورغيني"

المنفلتـون مـن العقـاب

مقالات ذات صلة