مسار فنان استثنائي أبدع كلمات ولحنا وغناء فقدت الساحة الفنية، نهاية الأسبوع الماضي، الفنان فتح الله المغاري الذي ودعنا عن سن ناهزت الثانية والثمانين، بعد مسار فني جاوز ستة عقود أثرى فيها المشهد الغنائي بعشرات الروائع التي أبدعها كلمات وألحانا وغناء. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الاستثنائي. إنجاز: عزيز المجدوب نشأ المغاري بدرب "البلاغمة" بفاس الجديد، قبل أن تنتقل أسرته سنوات قليلة بعد ذلك، إلى المدينة العتيقة لفاس، وكان الاستعمار الفرنسي حينها أثار نوعا من التفرقة والتمييز بين هاتين المنطقتين إلى درجة أن التنقل بينهما لم يكن بالأمر اليسير. اختطّ والد فتح الله المغاري، الذي كان يعمل في قطاع النسيج "تادرازت " قبل أن ينتقل إلى التجارة، لابنه مسارا دراسيا تقليديا، فأدخله المسيد مثل جل أبناء تلك المرحلة، وهناك حفظ فتح الله القرآن و"خرّج جوج سلكات"، والتحق بعدها بالمدارس الحكومية بعد أن تدخل بعض أصدقاء والده ليقنعوه بضرورة إلحاق ابنه بالتعليم العصري. كما كان للأغاني السائدة في تلك الفترة تأثير خاص على فتح الله المغاري، الذي وجد نفسه مشدودا إلى أغاني فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، إلى درجة أنه كان يرددها في العديد من المناسبات الخاصة، بعد أن ذاع وسط أترابه أنه يتقن أداءها، وتطور هذا الشغف بالغناء إلى التردد على ناد فني بفاس، كان يضم أعضاء جوق النهضة الموسيقي، وهم العازفون الذين سيشكلون في ما بعد العمود الفقري للجوق الوطني، منهم سلاّم الحجوي وميسور وبركام والجيلالي بلمهدي وآخرون. في ذلك النادي الموسيقي احتك المغاري عن قرب بالعديد من الموسيقيين، كما التقى الفنان الراحل محمد فويتح الذي كانت شهرته تطبق الآفاق في تلك الفترة، خاصة بعد نجاح مجموعة من أغنياته الخفيفة، والتي كان المغاري نفسه يرددها في الحفلات الخاصة، إلى درجة أنه في حفل كان من المفروض أن يحييه فويتح بجنان السبيل بفاس، قبل أن يتغيب في آخر لحظة لأسباب خاصة، اقترحت مجموعة من الموسيقيين على منظم الحفل، الذي لم يكن سوى الراحل حسن الرامي المدير السابق لإذاعة طنجة، اسم فتح الله المغاري الذي كان حاضرا في الحفل، ليعوض فويتح سيما أنه يجيد أداء أغانيه، فكانت أول فرصة يقف فيها المغاري أمام الجمهور مباشرة. وردة البداية خلال مرحلة دراسته بثانوية مولاي إدريس، تفتقت مواهب فتح الله المغاري في مجال الكتابة الغنائية، فكتب أغنية "علاش قطعوك ياوردة" سنة 1959، لكنها مكثت بين أوراقه الخاصة، حوالي سنتين، قبل أن ترى النور بصوت الفنان محمد المزكلدي. كم كانت فرحة فتح الله المغاري غامرة، وهو يسمع اسمه يتردد عبر أثير الإذاعة باعتباره مؤلف الأغنية وسنه لم تبلغ العشرين بعد، ولاقت قطعة "علاش قطعوك يا وردة" نجاحا كبيرا حتى إنها عُدّت من أفضل أغنيات المزكلدي، فأتبعها المغاري بقطع أخرى من توقيعه منها واحدة بعنوان "الكمرة" أداها المطرب عبد الحي الصقلي ولحنها الفنان الجزائري الراحل وراد بومدين صاحب قطعة "يا بن سيدي وخويا" الشهيرة. كما واصل المزكلدي تعامله مع المغاري فلحن قطعة أخرى من كلماته بعنوان "البلبل" ثم أغنية "الطير اللي غاب" التي ظهرت في البداية بلحن العابد زويتن، قبل أن يعيد عبد الرحيم السقاط تلحينها وتظهر بصوت المطرب عبد الهادي بلخياط. أثار نجاح الأغاني الأولى التي كتبها فتح الله المغاري انتباه الملحن عبد الرحيم السقاط الذي كان صديقا حميما للمزكلدي، فطلب من فتح الله المغاري مده بنصوص قابلة للتلحين فكان التعامل بنصين هما "كأس البلار" و"خسارة فيك غرامي" اللذان بدأ السقاط في الاشتغال عليهما ليغنيهما عبد الوهاب الدكالي، إلا أن الأقدار شاءت شيئا آخر. من الشعر إلى الغناء خلال منتصف الستينات انتقل فتح الله المغاري من مرحلة الكتابة الشعرية والزجلية إلى مرحلة الغناء بفضل الملحن الراحل عبد الرحيم السقاط، الذي كان أول من انتبه إلى موهبته الصوتية، وقدرته على الأداء الغنائي، بل وإضفاء توجه جديد وسط الأصوات المغربية، التي بدأت تظهر في تلك المرحلة. كانت البداية بأغنية "كاس البلار" التي كتبها المغاري نفسه، وأسبغ عليها عبد الرحيم السقاط لحنا مغربيا بديعا (على مقام الراست)، مقدما أغنية عصرية قارع بها ما كان سائدا من أنماط غنائية مشرقية، ومعلنا عن اسم فتح الله المغاري المطرب. واستمر تعاون المغاري والسقاط خلال تلك المرحلة في أغنيتين عاطفيتين هما "اللي بنيتو داه الريح" و"خسارة فيك غرامي" ورغم نجاحهما، إلا أن المغاري يقول إن أسلوبه الخاص في الغناء، المعتمد على استلهام النمط "العروبي" والأطلسي والجبلي، لم يتبلور فيهما، لكنهما منحاه جواز المرور إلى قلوب وأسماع المغاربة. وخلال تلك المرحلة نفسها، أي أواسط الستينات، عاشت الأغنية المغربية أوج ازدهارها وانتعاشتها، كما كان للقطيعة السياسية والفنية مع الشرق، خاصة مصر، إثر تداعيات موقفها المساند للجزائر في "حرب الرمال" ضد المغرب سنة 1963، أثرها الإيجابي، وهو ما أتاح للفنانين المغاربة فرصة التخلص من عبء منافسة ثقيلة للأغنية المصرية لأزيد من سنتين، وبالتالي الاجتهاد وملء الفراغ الذي تركته في وسائل الإعلام المغربية خاصة الإذاعة والتلفزيون. صوت «البلار» بعد مرحلة منتصف الستينات، تكرس اسم فتح الله المغاري، باعتباره مطربا، بعد أن اقتصرت شهرته قبل ذلك بسنوات قليلة، على الكتابة الغنائية، وساهمت أغان من قبيل "كاس البلار" و"خسارة فيك غرامي" و"ضاعت لي نوارة" في إبراز القدرات الصوتية التي كان يختزنها وبرزت بفضل ملحنين وقفوا على أبعادها، من قبيل عبد الرحيم السقاط والعربي الكوكبي وآخرين. في تلك الفترة لم يتخل المغاري عن إمداد بقية الأصوات المغربية التي بدأت تشتهر في تلك الفترة بما يلزمها من النصوص الغنائية، مثل عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط، بل وفي كثير من الأحيان كان يوثرها على نفسه. في موسم 1966 أطل المغاري عبر أغنية ستظل راسخة في أذهان المغاربة، وهي أغنية "الله يكمل رجاك" التي صاغ لحنها الملحن المبدع عبد الله عصامي. خلال الفترة نفسها خاض فتح الله المغاري تجربة إذاعية، بالإذاعة الوطنية بالرباط، من خلال إشرافه وإعداده برنامجا بعنوان "مع الناشئين" رفقة الممثل والشاعر الغنائي حمادي التونسي. «الظروف» الممنوعة خلال منتصف الستينات عاش المغرب أزمة سياسية واجتماعية، ترتبت الكثير من القلاقل والانتفاضات، أبرزها انتفاضة 23 مارس 1965، التي أعقبتها مجموعة من القرارات التي اتخذت إثرها، أبرزها حل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء من قبل الملك الراحل الحسن الثاني. وسط هذه الأجواء المأزومة ظهرت أغنية "الظروف" التي كتبها فتح الله المغاري ولحنها محمد بنعبد السلام وأداها عبد الهادي بلخياط. ورغم أن مضمون الأغنية كان عاطفيا، ولم تكن له أي خلفية سياسية أو ثورية، إلا أن الجو المشحون، آنذاك، جعل الكثيرين يحمّلونها ما لا طاقة لها به، إلى درجة منع مرورها على أمواج الإذاعة أو التلفزيون. السبعينات مرحلة الاستواء ظهرت أغنية "والله ما انت معانا" في موسم 1972، وبعدها بحوالي سنتين، ظهرت أغنيته الشهيرة "رجال الله" التي استلهم فيها المغاري الروح الشعبية والصوفية المغربية، خاصة أنه كاتب كلماتها وملحنها. واستثمر المغاري في أغنية "رجال الله" شغفه الخاص بموسيقى الحضرة والزوايا، التي كان يغشاها في طفولته بفاس والمدن المجاورة، كما ظهر فيها ميله إلى الأسلوب العيساوي الذي أسبغه على كلمات الأغنية التي اختار لها تركيبا بسيطا، يظهر فيه أسلوب الاستغاثة والنداء في مطلعها القائل "رجال الله فاش جات النوبة/ من عندو الساروت يحل الباب/ حنا زوار طالبين التوبة/ طلبوا الله لينا يجمع لحباب". بعد "رجال الله" جاءت أغنية "الله على راحة"، خلال الموسم نفسه تقريبا، ومن خلالها عبر المغاري عن "ارتياحه" في النمط الغنائي الجديد الذي اختطه لنفسه، وجعله يفرض اسمه مطربا له بصمته وأسلوبه الخاصين اللذين ميزاه عن بقية الأصوات والاتجاهات الغنائية، التي توزعت المشهد الغنائي بالمغرب. نداء الحسن... نداء النغم ستشهد 1975 حدثا مهما سيبصم تاريخ المغرب، وهو إعلان الملك الراحل الحسن الثاني، عن تنظيم مسيرة سلمية لتحرير جزء كبير من الأقاليم الصحراوية التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني. وللمناسبة ذاتها ولدت الأغنية التي اشتهرت عند المغاربة بمطلعها " صوت الحسن ينادي " كتبت ليلة 16 أكتوبر 1975 كما يحكي مؤلفها فتح الله المغاري ، فالرجل استمع كغيره من المغاربة لخطاب الملك الحسن الثاني بمراكش الذي أعلن من خلاله عن تنظيم المسيرة الخضراء ، لم يستغرق النظم حسب مؤلفه أكثر من عشرين دقيقة حتى يكتمل ، التقط الزجال معجم الخطاب الملكي وكلماته الدلالية الرئيسة ذات الصلة بالمسيرة المرتقبة ، فصاغها في قصيدته الزجلية الخالدة. أغنية "نداء الحسن" جعلت اسم المغاري يترسخ في الأذهان ويتربع على عرش الأغنية الوطنية، رغم أنه لم يسبق أن أدى أغنية وطنية بصوته، بل كان دائما يسندها إلى الأصوات الأخرى، منذ أول أول أغنية كتبها في هذا المجال وهي أغنية "يجعل لك في كل خطوة سلامة" سنة 1962 في بداية حكم الراحل الحسن الثاني. غنى المغاري خلال النصف الثاني من السبعينات مجموعة من الأغاني من قبيل "دابا ترجع ليامك" و"فارقني يا سيدي فارقني"، قبل أن يتجه إلى تأليف نصوص ستترجم مرحلة أخرى في كتاباته الغنائية، خاصة خلال تعامله مع الفنانة نعيمة سميح من خلال أغنية "هذا حالي". أصوات في ضفاف المغاري واصل المغاري تألقه مع موجة الأصوات المغربية التي ظهرت خلال الثمانينات، وأشهرها سميرة بنسعيد في أغنية "يمكن فايت لي شفتك" والمطربة لطيفة رأفت التي وجدت في كلمات المغاري وألحان الراشدي بوابتها إلى الشهرة، خاصة من خلال مجموعة من الأغاني من قبيل "أنا فعارك يا يما" (لحنها المغاري نفسه) و"عشرة لحباب" و"كأنو ما كان" و"لحبيب راه خلاني" ثم رائعة "مغيارة". كما غنى الراحل محمد الحياني من كلمات المغاري أغنية "ياللي بيك القلب ارتاح" التي صاغ لحنها الفنان عبد العاطي أمنا، لتدخل بذلك الأغنية المغربية، خلال نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، منعطفا خاصا، سيما بعد رحيل مجموعة من رواد الأغنية أو تقاعد بعضهم، وهو ما أثر سلبا على مستوى الأعمال المقدمة خلال هذه الفترة والتي جعلت العطاء يتراجع بنسبة كبيرة لأسباب ذاتية وموضوعية تتعلق بالمناخ الفني العام.