“انتحاريو” القروض … ضحايا أم مذنبون؟
يستغلون في تأسيس شركات وهمية ويكبدون المستهدفين خسائر بالملايير
طفت على السطح عمليات احتيال كبيرة على بنوك وشركات، الأولى وقعت ضحية مصادقتها على قروض مالية كبيرة بوثائق مزورة وتواطؤ مع مسؤوليين بنكيين، والثانية وجدت نفسها أمام شيكات بدون رصيد، تحمل أغلفة مالية نظير بيعها معدات أو سيارات أو ناقلات كبيرة الحجم، أو مواد بناء وغير ذلك من السلع، ونهج المحتالون معها سياسة ماكرة،
إذ بعد اقتناءات صحيحة تكتسب الشركة الضحية الثقة في الزبون، ليسقطها في الشرك.
إنجاز: المصطفى صفر
يوجد قاسم مشترك في مجمل العمليات الإجرامية، إذ أن زعماء الشبكات يبقون بعيدين عن الأنظار، ويستخدمون أشخاصا بسطاء، تكون مهمتهم استعمال بياناتهم لتأسيس شركات وهمية بغرض النصب، ويكون المسخر لهذه التجربة شخصا يتم انتقاؤه للمهمة، ويبدي استعدادا لركوب المخاطر، كما يبدي استعداده لتقمص دور الانتحاري والدخول إلى السجن بعد القيام بالمهمة والإطاحة بالضحايا المستهدفين، مع وعود بالتكلف بمصاريفه في المعتقل ومصاريف أسرته وتخصيص مبلغ مالي له عند الخروج من السجن، نظير استغلاله…
وضمن القضايا التي ينظر فيها القضاء، ملف ” البابور الصغير”، الذي جر معه مسؤولا بنكيا كبيرا إلى الاعتقال، وكشف عن طرق الاحتيال التي كبدت شركات ومؤسسات خسائر بالملايير، أدت ببعضها على الإفلاس.
برلماني… الأخطبوط
طفا اسم برلماني سطات المعتقل أخيرا، في البداية في قضية “سامير”، أثناء الإعلان عن تصفيتها، قبل أن يختفي ليظهر من جديد متنكرا في أسماء شركات عهد بها إلى مقربين للقيام بدور «الانتحاري”، مع الاستعداد لولوج السجن بدله وقضاء مدة العقوبة، مقابل حصة من الأموال المنهوبة.
والبرلماني المتهم معروف بمراكمته ثروة كبيرة عن طريق عمليات احتيال تجارية كبرى، وكان دائما يبقى بعيدا عن المساءلة، لأن الشركات لا يسجلها باسمه. كما تمكن من الاحتيال على مديري وكالات بنكية، إذ بعد تأسيس شركات وهمية يوهمهم بإمكانية مشاركتهم في العمليات التجارية المربحة، التي يقوم بها، فيسقطون في الفخ، سيما أن مراقبتهم لحركية حساب الشركة التي يفتح حسابها لديهم تغريهم بسبب ضخ أموال كبيرة بها في الأيام الأولى، قبل أن يسحبها ويتركهم يمسكون شيكات بدون مؤونة باسم شخص آخر، لا علم له بامتلاكه الشركة، أو من الذين يختارهم لتنفيذ المخططات الاحتيالية، والذين يكونون مستعدين لقضاء عقوبة حبسية بعد جمع أموال كثيرة، خصوصا أن المتهم المعتقل كان يوهمهم بأنهم سيستفيدون من عقوبة مخففة بالنظر إلى علاقاته.
إفلاس”سامير”
ضمن القضايا التي ذكر فيها اسمه، تلك التي نجمت عن شكاية سبق للمسؤول القانوني لشركة مساهمة، متخصصة في توزيع المحروقات والمواد البترولية، وهي أحد فروع شركة “سامير”، أن وضع شكاية أمام الوكيل العام لدى استئنافية البيضاء، تحمل اتهامات بتكوين عصابة إجرامية والنصب والاحتيال، ضد موثق ومدير سابق للشركة الضحية، لشركتين متخصصتين في توزيع المحروقات، بعد اكتشاف مديونية هائلة تقدر بأزيد من 24 مليارا، في ذمة شركتين، لفائدة الشركة الفرع، وظهر تواطؤ بين أحد المديرين والمتهم الرئيسي، إذ قبل مجموعة من الضمانات الأخرى، غير المتناسبة مع قيمة السلع التي زودت بها المشتكية الشركتين، سيما أن المديونية الناجمة عن السلع والمواد التي تسلمتها بلغت أزيد من 24 مليارا، في حين أن الضمانات التي تسلمها من الشركتين، كانت زهيدة جدا، ضمنها رهن على رسمي عقار مساحته هكتاران قيمته مليون درهم، لضمان دين بقيمة 20 مليون درهم. ناهيك عن كمبيالة عادت بدون أداء بقيمة 6 ملايين درهم، وثلاثة شيكات بقيمة 10 ملايين درهم، رجعت كلها بدون رصيد، وهي موضوع شكايات من أجل النصب وإصدار شيك بدون مؤونة، وضعت أمام النيابة العامة. كما تبين أن المتهم الرئيسي، قدم شيكات بقيمة مليار للوفاء بديون الشركتين، وهي الشيكات التي لم تستخلص بسبب انعدام الرصيد، وتم قبولها رغم أن المتهم نفسه لا يمثل الشركتين بأي صفة من الناحية القانونية.
بنكيون متورطون
اكتملت أركان القضية بعد التصريحات التي أدلى بها البرلماني أمام القضاء، والتي جر فيها آخرين إلى المساءلة القضائية، ضمنهم إطار بنكي كبير، إذ لم تكن العمليات لتنجح لولا التواطؤ وغض الطرف والمشاركة. وانتهت الأبحاث بإيداع المسؤول الرفيع للمؤسسة البنكية رهن الاعتقال الاحتياطي، وشمل قرار الاعتقال كذلك موثقا بسطات ومسؤولا سابقا عن مصلحة الزبائن والكمبيالات، ومسؤولا تجاريا في وكالة بنكية، فيما توبعت زوجة المسؤول التجاري في حالة سراح، مقابل كفالة مالية بقيمة 300 مليون.
وكشفت الأبحاث التي أجرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بعد التصريحات التي سبق أن أدلى بها برلماني سطات، شبهة تورط المتهمين في تلك التلاعبات والاختلاسات والرشاوي التي شهدها الملف، من خلال تمكين البرلماني المشبوه، من قروض بنكية بقيمة مالية باهظة، دون التوفر على ضمانات كافية.
وذكر البرلماني خلال البحث معه بشأن سندات الصندوق المزورة، التي تم وضعها ضمانة لتلك القروض، أن المسؤول عن الزبائن بمركز الأعمال الذي تم طرده من البنك، هو من جلب سندات الصندوق مسحوبة من بنك ثان ثبتت زوريتها، للتغطية على الاختلاسات التي قام بها في شأن المبالغ المالية، التي أودعها البرلماني بالحساب الخاص بشركتين في ملكيته بواسطة الكمبيالات والشيكات، مفيدا أنه بعد أن اكتشف الأمر، سجل شكاية ضده وابتزه في مبالغ مالية مهمة وهدايا، وحرر له اعترافا بدين قيمته 11 مليارا.
وفضح البرلماني المتهم، الإطار البنكي الكبير، الذي كان يعد الآمر الناهي في المؤسسة المالية، مؤكدا أنه قدم له فيلا بشاطئ دافيد بالمحمدية، وشقة بشارع يعقوب المنصور بالبيضاء، وشقة بالصخيرات، وسلمه أرضا فلاحية بمراكش بمنطقة سيدي الزوين، مساحتها 14 هكتارا، وجرارا، كما جهز له قاعة للرياضة بأزرو، وسلمه العديد من رؤوس الماشية وكان يسلمه كل أسبوع 20 مليونا، مقابل تسهيل الحصول على قروض.
وزاد البرلماني في اعترافاته أنه سلم رشاوي إلى المتعاملين معه من المتورطين البنكيين، تمثلت في سيارات من النوع الرفيع وبقع أرضية ومبالغ مالية مهمة.
ضحايا في كل المدن
شبكة البرلماني المحتال، امتدت في مختلف المدن وأسقطت ضحايا من مختلف المهن، وظل اسمه يتردد منذ 2015 حين تصفية سامير، قبل أن يختفي ويظهر مرشحا برلمانيا في سطات في الاستحقاقات الأخيرة، التي شهدت حملة استعملت فيها شاحنات كثيرة كلها في ملك المتهم. لكن دخوله القبة كان إيذانا بنهايته، إذ تحركت الملفات وأوقف رغم محاولة اختفائه، قبل أن يصدر حكم في واحد فقط من ملفاته، أدين فيه بالحبس النافذ لخمس سنوات، مباشرة بعد أن أقرت المحكمة الزجرية بالبيضاء عدم الاختصاص، في شأن النصب والتزوير في محررات بنكية واستعمالها، وتبديد أشياء محجوزة عمدا، والتوصل بغير حق بشهادة تصدرها الإدارات العامة عن طريق الإدلاء ببيانات ومعلومات غير صحيحة واستعمالها، والمشاركة في تزوير شهادة تصدرها الإدارات العامة واستعمالها، الذي يهم شكاية بنك إفريقيا، بعد أن التمست النيابة العامة إضافة تهمة الارتشاء إلى صك المتابعة، وهو ما استجابت له المحكمة، وأحالت الملف على الجنايات، بالنظر إلى أن مبلغ الارتشاء يفوق 100 ألف درهم، وهو الملف الذي كان سببا في اعتقال البرلماني.
التواطؤ مفترض
< أولا لا بد من الإشارة إلى أن عمليات النصب عليها لا تتصور، خارج إطار التواطؤ الذي قد يحصل بين المستخدم البنكي، مسؤولا كان أو مدير وكالة، وقد أظهرت السوابق القضائية التي توبع فيها مسؤولون ومستخدمون بنكيون، حجم التواطؤات التي تتم سواء عبر الاستفادة من قروض خارج الضوابط، أو التعامل مع مشبوهين في فتح حسابات بنكية للاحتيال على الشركات والخواص. أما عن أسباب السقوط في مثل هذه المواقف، فإنها تعزى إلى المراقبة الداخلية للبنوك، فكلما كانت هذه المراقبة ضعيفة أو غير مستقرة، تمكن ضعاف النفوس من اختراقها والدخول في عمليات غير محسوبة العواقب، سيما أمام الإغراءات التي تقدم لهم، أو لثقتهم الزائدة وغير المبررة في الزبون المحتال الذي يعمد بدوره إلى استغلال مهاراته في الإيقاع بالضحايا، سواء من البنك أو من خارجه.
< التواطؤ في مثل هذه الملفات مفترض، إذ يعلم الجميع التشدد الذي تتعامل به البنوك في مجال القروض، لكن ما رأيناه في الملف الأخير المعروض على القضاء، والذي نصر فيه على قرينة البراءة، هو أن هناك طرقا كثيرة يتدخل فيها آخرون من غير المنتمين إلى البنوك، لصنع وثائق تكون ضمانا، رغم أنها وثائق مزورة لا تغطي الحقيقة، من قبيل وضع رسوم عقارية مقرونة بخبرات حول قيمتها، أو وضع ضمان توثيقي وهمي، أو نماذج السجلات التجارية وغيرها، والمعروف أن البنوك لها لجنان متخصصة لتمحيص هذه الضمانات قبل الإذن بالقرض، لكن نتيجة الضغوط أو التواطؤ يتم تمرير القرض، ما يستتبعه من مشاكل عدم أداء الأقساط وغير ذلك، مما يكشف الأخطاء المرتكبة أثناء الإذن بالقرض.
< إن ظاهرة التزوير أصبحت تهدد استقرار المعاملات، سواء منها العقارية أو غيرها، وبالفعل أثيرت قضايا مماثلة تخص اقتناء سيارات تبين أنها مرهونة ورفضت مصالح تسجيل السيارات تجديد ورقتها الرمادية، بسبب تقديم وثيقة لرفع اليد مزورة، أو غير ذلك، ولهذه الأسباب ينبغي على المرء أن يتعامل مع مؤسسات تتوفر على مقر، حتى يمكنه المطالبة بحقوقه، أو التعامل مباشرة مع مالك الناقلة المقيدة باسمه في السجلات، سيما أن بعض بيوعات السيارات أصبحت تعتمد على ما يسمى الوكالة العرفية، وهي وثيقة مصادق عليها، يستغلها السماسرة للربح والتصرف في الناقلة، لكن حين وقوع المشكل يجد الضحية نفسه أمام أشخاص متعددين.
* محام بهيأة البيضاء
الشجرة التي تخفي الغابة
لم تكن لعمليات النصب على البنوك التي تفجرت في الآونة الأخيرة تحت يافطة “القروض” بتواطؤ مع بنكيين، أن تمر مرور الكرام في مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، خاصة بعد تفجر الفضيحة المدوية لما يعرف ب”برلماني سطات» أو «النصب الكبير للبابور الصغير”، الذي صار ملفه قضية رأي عام يختبر استقلالية القضاء ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
أمام توالي قضايا النصب على المؤسسات البنكية بتواطؤ مع بنكيين مرتشين للسطو على أموال القروض، سواء التي تعلقت ب”انطلاقة” أو تمويلات المشاريع الكبرى وكذا المقاولين الذاتيين في إطار تشجيع الاستثمار ومحاربة البطالة والفقر، ارتفعت أصوات نشطاء موقع التواصل الاجتماعي لدق ناقوس الخطر في ما يخص هذا النوع الجديد من عمليات النصب.
ومن بين التعليقات التي حفل بها “فيسبوك”، ما صرح به أحد الشباب “عشنا حتى شفنا تشفارت بلا جنوية بلا عنف، سرقة المال العام والخاص بالقانون والتحراميات».
وعلى المنوال نفسه قالت إحدى الطالبات، “دابا أنا مقاولة ذاتية وشحال من مرة دفعت بلا فايدة، هي اللي بغى اربح فلوس صحيحة خاص إشوف مع اللي مكلف بالقرض اتهلى فيه، كيبان ليا دهن السير اسير ولا سرطان وغادي وكتمدد”.
وبسخرية لاذعة قال أحد الآباء “فرق كبير بين السرقة بحمل ساطور والنصب على الأبناء بوثائق مزورة وتواطؤ لبنكيين طماعين”.
«في الوقت الذي يتم فيه الضغط على العاجزين عن أداء القروض الاستهلاكية، التي لا تتجاوز 6 ملايين أو المرتبطة بقرض سكني إلى درجة مقاضاة ضحية فقدان عمل أو ظروف صحية، فإنه صار من السهل على النصابة الكبار النصب والاستيلاء على 60 مليارا في رمشة عين”.
وفي سؤال استنكاري قال أحد الشباب “واش غير أجي ونصب على البنوك؟ الشخص يجب أن يكون أسدا وذا نفوذ يتمتع بشبكة علاقات كبيرة لتسهيل عملية النصب، وقضية ما يعرف ب”البرلماني البابور الصغير إلا الشجرة التي تخفي الغابة، بعدما ورط معه موظفين كبارا يُقام لهم ويقعد”.