تسيء إلى صورة المغرب والحكومات المتعاقبة غير قادرة على التصدي لها على غرار باقي بلدان العالم، يعاني المغرب هو الآخر عدة ظواهر اجتماعية سلبية، تسيئ إلى صورته وتقض مضاجع المسؤولين، دون أن تكون الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، قادرة على التصدي لها والحد من انتشارها. ولعل ظاهرة "أطفال الشوارع" واحدة من بين أبرز الظواهر المقلقة والمؤرقة، التي لم تنفع في احتوائها كل جهود السلطات، التي ما انفكت تبذلها منذ عدة سنوات. والأطفال هم فئة أساسية داخل المجتمع، باعتبارهم أجيال المستقبل الذين بفضلهم تستمر الحياة. وكما أفرد الباحثون للطفولة دراسات وأبحاثا، على أساس أن الطفل إنسان فاقد للأهلية الجسمانية والعقلية والنفسية، للاندماج في المجتمع والالتزام بأي واجبات، فإن المشرع المغربي خصه أيضا بعناية واسعة، إذ تنص المادة 54 من مدونة الأسرة، على أن للأطفال مجموعة من الحقوق على أبويهم، يتمثل بعضها في حماية حياتهم وصحتهم من الحمل إلى بلوغ سن الرشد، وتمتيعهم بالنسب والحضانة والنفقة، والسهر على نموهم الطبيعي والحفاظ على سلامتهم الجسدية والنفسية، وضمان التعليم والتكوين الذي يؤهلهم للحياة، والعناية بصحتهم وقاية وعلاجا، والتربية على السلوك القويم واجتناب ممارسة العنف... كما ألزم الدولة باتخاذ كافة التدابير الكفيلة بحماية الأطفال وضمان حقوقهم ورعايتها طبقا للقانون. وفي هذا الإطار، أقرت اتفاقية حقوق الطفل، التي يوجد المغرب ضمن موقعيها، مفهوما للفظة الطفل، من خلال مادتها الأولى التي تنص على: "لأغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه". والأطفال حسب ذات المادة صنفان: أفراد تحت سن الثامنة عشرة، وهو معيار متبع عالميا لتحديد فئة الأطفال، وأفراد بلغوا سن الرشد قبل سن الثامنة عشرة، يتم الأخذ بمعيار القوانين الداخلية للدولة الموجود بها الطفل. فمن هم إذن أطفال الشوارع؟ هم أولئك الأطفال الضائعون في عرض المدن، وقد عرفت الأمم المتحدة طفل الشارع بأنه كل ولد أو بنت يتخذ من الشارع بمختلف معانيه، بما في ذلك الأماكن المهجورة، مأوى له أو مصدرا لكسب رزقه، دون أن يكون تحت حماية أو إشراف أو توجيه أي أحد، حتى من طرف أبويه. ويسود تضارب في الأرقام حول أعدادهم الحقيقية، ليس فقط بين المؤسسات الرسمية وجمعيات المجتمع المدني ببلادنا، بل كذلك في جميع أنحاء العالم، إذ يتراوح عددهم حسب بعض الإحصائيات المتوفرة، ما بين 150 و200 مليون طفل، يكسبون قوتهم بواسطة عدة وسائل مذلة، مثل التسول أو غسل السيارات وحراستها أو مسح الأحذية أو السرقة وغيرها، بعد فقدانهم السند والتوازن النفسي والعاطفي. يعانون أزمة هوية وضعفا في المبادئ والقيم، وتسيطر عليهم مشاعر الظلم والقهر والغبن والخوف. أطفال قطعوا صلتهم بأسرهم وأقاربهم، ويتوجسون من كل من هم حولهم، فضلا عن أنهم صاروا عرضة للأوساخ والأمراض، وتحولوا إلى صيد سهل أمام المجرمين والمنحرفين الذين يستغلونهم لأي شيء مهما كان مهينا، مما يعزز لديهم الشعوربالحقد والكراهية وحب الانتقام حتى من أنفسهم. وظاهرة "أطفال الشوارع" من الظواهر المجتمعية بالغة الخطورة، وتكمن خطورتها في تفاقمها المستمر واستنزاف الكثير من الجهد والميزانيات بلا طائل، سيما بعد تفشي جائحة "كورونا" وما فرضته من قيود وخلفته من تداعيات اجتماعية واقتصادية. ويجمع الكثيرون على أنها من أعقد الآفات التي تعود أسبابها إلى عدة عوامل اقتصادية وسياسية وأسرية وبيئية، تتفاعل في ما بينها لتهييء مناخ عام يساعد في تكاثرها وتطورها، من قبيل التزايد السكاني والهجرة القروية وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة والهدر المدرسي والعنف الأسري والتفكك الأسري وأشياء أخرى كثيرة ومتنوعة... ويؤلمنا كثيرا ما نصطدم به يوميا من مشاهد تحكي معاناة هذه الفئة المهمشة، التي تجعل من أرصفة المدن ومحطات القطار والحافلات ملاذا لها. ف"أطفال الشوارع"، أو ما بات يصطلح عليهم من قبل السلطات العمومية والجمعيات والمنظمات الحقوقية بـ"أطفال في وضعية الشارع"، للتخفيف من بشاعة الوصف، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير أو تغيير لواقعهم المر، يقضون أيامهم السوداء في ممارسات سيئة ومعارك متواصلة ضد الجوع وقساوة أحوال الطقس، يعيشون الضياع في أبشع تجلياته محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية التي يكفلها لهم الدستور وكافة الاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل، التي صادق عليها المغرب منذ عقود. والأفظع من ذلك أن الكثيرين منهم سقطوا صرعى الإدمان على مختلف أنواع المخدرات والمشروبات الكحولية، هروبا من مشاكلهم اليومية وأوجاع حياتهم التعسة، وبحثا لأنفسهم عن دفء حتى لو كان وهميا. فأين نحن من الفصل 32 من الدستور الذي ينص على: "تسعى الدولة إلى توفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية" والذي يؤكد أيضا أن: "التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة"؟ إن الحديث عن ظاهرة "أطفال الشوارع" حديث شائك ومتداخل ومتشعب، لما يزخر به من أحداث ومآس، لا يمكن أن يتم علاجها فقط بوضع نصوص قانونية أو تنظيم حملات إسعاف موسمية، وإنما بتضافر جهود الجميع والعمل الجاد والمتواصل على إعادة تأهيلهم نفسيا وصحيا من خلال تأمين مساكن مناسبة لهم، وضمان حصولهم على الرعاية والاهتمام اللازمين من حيث الحق في التعليم والمأكل والملبس وتغذية الجانب الأخلاقي المشوه لديهم بتكريس القيم الإنسانية الصحيحة، حتى يمكن إعادة إدماجهم في المجتمع بكل يسر. اسماعيل الحلوتي