حكم بالإفراغ يرمي ثماني أسر نحو المجهول

استأجرت الأرض منذ سنوات الستينات من القرن الماضي وكدت في تحويلها إلى أرض فلاحية والطرد كان مصيرها المكان، عين الجمعة بإقليم النواصر، الزمان 26 دجنبر الماضي، الحدث، تنفيذ حكم إفراغ في حق ثماني أسر من عائلة واحدة تحمل اسم "التيراوي" من منازلها بضيعة صغيرة. حكم أشرف على تنفيذه أزيد من 130 عنصرا من الدرك الملكي والقوات المساعدة. في تلك اللحظة التي خيم عليها نواح النساء وعويل الأطفال، وتوسلات الرجال، وقف صاحب شركة بالمنطقة يتابع الموقف، سأل دركيا عن الأمر فأجابه في الحين أن صاحبة الضيعة طردت العائلة بعد سنوات عديدة في خدمة أرضها، هنا صرح غاضبا "هادشي عمرو ما كان في المغرب ، أو هاد السيدة كيف غادا تلقى الله " ليغادر المكان متأسفا. اضطرت الأسر الثماني إلى الاستقرار في أرض تابعة لوزارة الفلاحة، مقابلة لمساكنها القديمة التي هدمت، يفصل بينها وبين الأرض وادي صغير. ما زال الحنين يراود الأسر إلى سكنها القديم، الذي ولد فيه جل الأبناء والحفدة. تشعر بغبن حيال هذا الموقف، فبعد أن كانت معززة في منازلها، اضطرت إلى بناء "براكات" وأصبحت تعيش وضعا مذلا بالقرب من المقبرة، التي يرقد فيها الأب منذ أكثر من سنتين. ربما أدرك وقتها أن عائلته ينتظرها هذا المصير، بعد أن تحالفت السلطة مع المال، فاستعجل الرحيل حتى لا يمس في كبريائه وهو يعاين عائلته "تتشرد". بداية القصة يعود استقرار عائلة التيراوي إلى سنوات الستينات من القرن الماضي، عندما اشتغل الأب عند مالكة الضيعة، والتي لا تتجاوز مساحتها أربعة هكتارات. كانت الأرض مليئة بالحجارة وتحتاج إلى مجهود لتحويلها إلى أرض فلاحية، وهو الأمر الذي كانت تعيه مالكة الضيعة، فاقترحت على التيراوي الأب استئجارها له مقابل سومة شهرية بلغت 400 درهم.قبل الأب الفكرة، وشرع في استغلال الأرض وزراعتها، بعد أن أزال كل ما يعيقها رفقة زوجته. وفيها بنى بيتا لأسرته الصغيرة التي أصحبت تتكاثر بعد إنجابه 10 أبناء. استمر هذا الوضع سنوات، لتقرر مالكة الأرض خصم ثلاثة هكتارات منه وكراءها لجهة أخرى، مع ذلك ظل الأب يستغل المساحة التي في حوزته مقابل سومة كرائية بـ 100 درهم شهريا، إلى أن توفيت المالكة عام 1985.ظلت الأرض بدون مالك، واستمر الوضع شهورا، قبل أن تظهر امرأة ادعت أنها ابنة الراحلة ووريثتها الوحيدة. تعاملت معهم في البداية بود، وطالبت من الأب مساعدتها على تحفيظ العقار. لم يتأخر التيراوي في الاستجابة لطلبها، وساهم مع أبنائه في ترسيم الأرض، سيما أنها وعدتهم باستمرارهم في استغلال المساحة الذي استأجروها من والدتها الراحلة. تعاطف القضاة والدركيين شهد هذا الملف تعاطف بعض المسؤولين القضائيين مع هذه العائلة، حاولوا بكل السبل تأخير حكم الإفراغ إلى حين التوصل إلى حل، إلا أن مسؤولا قضائيا أعلى كان له رأي واحد وهو تنفيذ الحكم. استنجد به الابن الأكبر عبد الرحمان وكشف له الوضع المزري للعائلة وأنه يقبل الإفراغ شرط تعويضهم. ورغم التوسلات صدر القرار، بل أمر بحجز ممتلكات ومواشي العائلة.خلال تنفيذ الحكم، انزوى دركي بعيدا، واعترف لأحد زملائه بعد أن كاد يذرف الدمع أنه شعر بأسى على ما يقع، خصوصا الطريقة المهينة التي طردت بها الأسر من منازلها. ظل صدى بكاء الأطفال الصغار يطرق أذنه بقوة، فقال متحسرا " كيفاش غادي نمشي عند ولادي الدار مرتاح أو أنا كنشرد أولادهم". من منازل إلى أكواخ قصديرية اضطرت العائلات بعد تنفيذ حكم الإفراغ إلى الانتقال إلى الضفة الثانية، أرض في ملكية وزارة الفلاحة. تطوع العديد من سكان المنطقة لتقديم العون لها. ساعدوها على بناء أكواخ قصديرية، غلفوها بقطع من البلاستيك.كما تضامن مستشار جماعي بالمنطقة معهم، فخصص للأسر خيمة كبيرة في ملكية الجماعة، حولتها إلى مطبخ. لكن رغم هذه التضحيات وأجواء التضامن، إلا أن وضع الأسر كارثي، ساهمت في تأزيمه موجة البرد القارس، والأمطار التي شهدها المغرب أخيرا. هدر مدرسي كانت أول الآثار السلبية التي عانتها عائلة التيراوي انقطاع أبنائها عن الدراسة. أطفال في عمر الزهور وجدوا أنفسهم مضطرين إلى مغادرة فصولهم في مدرسة قريبة من المنطقة والبقاء في "الأكواخ الجديدة".استنفر الأمر مسؤولي المدرسة، فتطوع معلم ومعلمة للقاء العائلة، طالبين منها إعادة إرسال أبنائها ووعداها بتوفير كل حاجيات من كتب وملابس ووجبات غذائية، قبل أن يحظرا أغطية تعبيرا عن تضامنهما مع العائلة.الأمر نفسه عانته ابنة تدرس في المستوى الثانوي. فضلت مساعدة والدتها لتجاوز هذه المحنة على إتمام دراستها، رغم أنه لم يعد يفصلها عن الباكلوريا إلا سنة، كأنها تركت طموحها وأحلامها في منزلها القديم، الذي ما زالت تعاين خرابه في كل دقيقة. الملك القدوة جلست الأم هنية البالغة من العمر 80 سنة، بالقرب من مائدة شاي أعدها عبد الرحمان، وهي تلتحف غطاء بسبب البرد القارس، بدأت تتحسر على مصير أبنائها، تتذكر وعيناها تغرورق بالدموع ذاك الزمن الغابر، عندما جدت مع زوجها وساندته من أجل جعل الأرض صالحة للزراعة. واصلت حديثها كيف كدت في إزالة الأحجار من الأرض إلى أن أصبحت لها قيمة مالية كبيرة، وفجأة توقفت والدموع تنهمر من عينيها وهي تقول "أو دابا أ ولدي، لاحوني أنا ولادي". رغم البرد القارس، أبت أن تعود إلى "البراكة" حتى "تفاجي قلبها". استشهدت بالملك محمد السادس قائلة "سيدنا كي تهلا في الفقراء، اللي ما عندو دار كي عطييها ليه، كي زور ناس في السبيطارات، كي عاون محتاجين، أنا ولدي بغيتهم إديرو فحال الملك، أو شوفو من حال المسكين، الناس يشفعون أراضي كبيرة أو كي حولوها مقبرة، حنا بغينا غير حقنا أو عيشة كريمة صافي".فجأة دخلت في نوبة من البكاء قريب من النواح، وهي تتذكر زوجها الراحل، وكيف غاب عنها في لحظة حرجة، يرفض المرء أن يرى بأم عينه فلذة كبده يتشرد. وبعد أن استعادت هدوءها، قالت متوسلة "أنا بغيت نموت مرتاحة، فداري وسط لحيوط، ما شي أولدي وسط القزدير أو حدا العين، ما عنديش باش نكري ولا نشري، واش غادي نموت هنا؟" لتنتابها موجه جديدة من البكاء دفعت ابنها إلى مساعدتها بالعودة.كانت مي هنية على موعد مع عملية جراحية، إلا أن حكم الإفراغ الأول أجبرها على تأجيلها، فحدد تاريخ آخر أخلفته للمرة ثانية، بسبب حكم الإفراغ الثاني، قبل أن يرفض إداريو مستشفى ابن رشد إجراء عملية جراحية للمرة الثالثة، بعد أن اتهموها بالتهاون والتلاعب.غادرت الأم هنية إلى "براكتها" بعد أن اشتد البرد القارس، الذي أصبح العدو الأول للعائلات المنكوبة. الجميع يعاني ألما في الصدر بسبب البرد. لم يتعودوا بعد على هذا الوضع الجديد، خصوصا الأطفال، الذين أصيبوا بسعال وزكام حاد، بعد أن أصبحوا مجبرين على قضاء حاجاتهم في الخلاء معرضين للبرد. وما زاد في تأزيم الوضع قصر ذات اليد، التي عجزت عن توفير الأدوية لهم، في انتظار أن يجود المحسنون عليهم. تشرد أسر صدرت قرارات عديدة لتنفيذ حكم الإفراغ، إلا أنها كانت تلقى مقاومة، أولها في تاريخ 25 شتنبر الماضي، أشرف عليه 100 دركي، إلا أنهم عجزوا عن ذلك، بعد أن تضامن سكان المنطقة مع الأسر المتضررة، قبل أن ينظموا وقفة احتجاجية أمام منازلهم، ما جعل الدرك يتخوف من أي تطورات ومواجهات معهم، ليقرر تأجيل الهدم إلى تاريخ لاحق، حدد في 5 أكتوبر الماضي، إلا أن الزيارة الملكية للبيضاء دفعت المسؤولين إلى تأجيله مرة ثانية، ليحدد تاريخ ثالث وهو 16 نونبر الماضي، وقتها حضر 130 دركيا وعنصرا من القوات المساعدة تحت إشراف قائد منطقة أولاد عزوز وقائد الدرك الملكي لعين الذئاب.في هذا التاريخ كان الحسم، ونجحت هذه القوة في إخراج الأسر الثمان من منازلها. فرغم التوسلات ودموع النساء والأطفال، إلا أن القرار كان جاهزا. طردوا دون تمكينهم من أثاثهم وملابسهم ومواشيهم التي حجزت لمدة أربعة أيام.قام كاتب محامي المشتكية بعد حصوله على وكالة منها بتعيين ستة أشخاص، أوهم المسؤولين أنهم حراس أمن خاص مكلفين بحراسة ممتلكات الأسر المطرودة من منازلها ، غير أنه تبين في ما بعد أنهم مجموعة من اللصوص ومدمني الخمر، ما جعل عائلة التيراوي تعاني الويلات معهم، إذ تعرضت ممتلكاتها للسرقة، كما كان أفرادها عرضة للتهديد والسب والتحرش بهم، قبل أن يختفوا بعد هدم المنازل. جزاء سنمار يؤكد عبد الرحمان التيراوي نجل الراحل، أن ابنة مالكة الضعية، استنجدت بهم خلال تحفيظها الأرض، ووعدتهم بعدم المس بحقوقهم، وأمام هذا الوعد، سيقف التيراوي الأب شخصيا على إجراءات التحفيظ إلى أن تمكنت منه، لينقلب السحر على الساحر.كانت أول فصول الصراع مع الوريثة، عندما توصلوا بإنذار قضائي سنة 1986 تطالبهم فيه بتسديد سومة كرائية حددتها في 400 درهم، رغم أنهم يستغلون فقط هكتارا، بعدها سيبدأ مسلسل المتابعة القضائية الذي سيستمر سنوات، افتتحه حضور أعوان قضائيين، ومن قبيل الصدف، كانوا أول فوج تخرج في المغرب. ادعى أحدهم أن العائلة رفضت تسليم طي التبليغ، من أجل فتح الباب أمام الوريثة لمتابعتهم قضائيا.غير أن عبد الرحمان، يسجل مسألة في غاية الأهمية، وهي أن كل المتابعات القضائية التي تقدمت بها مالكة الضيعة الجديدة ضدهم حملت اسم علي التروي، ابن عمهم، ولا تحمل اسم الأب، والمثير أكثر أن العديد من الأحكام صدرت في حق هذا الاسم.ظل النزاع في القضاء منذ 1986 إلى حدود 1999، في هذه السنة سيصدر حكم بالإفراغ في حق العائلة، وبعد تشبثه بعدم مغادرة منزله، وجهت للأب تهمة العصيان.رغم صدور حكم الإفراغ سنة 1999، ظلت عائلة التيراوي تستغل المساحة المستأجرة. حاولت مالكة الضيعة الجديدة إخراجهم بكل السبل، لكن دون جدوى، بسبب تضامن سكان المنطقة معهم، وحزم وشجاعة الأب، لدرجة أن الملكة استنجدت بعامل إقليم النواصر وقائد المنطقة، فكان جوابهما واضحا، " إفراغهم من منازلهم يهدد النظام العام ويهدد الأمن". ظل الوضع مستمرا إلى حدود سنة 2012، لما قدمت المالكة اقتراحا على المسؤولين المحليين بالمنطقة، هو تقديم مبلغ مالي حدد في 50 مليون أو شقق سكنية تعويضا لهم. وافق المسؤولون على هذه المبادرة، واعتبروا ما اقترحته حلا وديا ومعقولا، لكنها أثناء تنفيذ الحكم أخلت بوعدها واختفت عن الأنظار، بعدما منحت كاتب محاميها وكالة للإشراف على تنفيذ الحكم.يحكي عبد الرحمان أن مسؤولا ترابيا، طالبهم بعدم مغادرة مساكنهم، ومقاومتها في حال رغبت في هدم منازلهم، لأنها أخلت بوعدها للسلطة والعائلة ثانيا، هذا الموقف شجعهم على البقاء إلى حين التوصل إلى حل، إلا أنه كان قاسيا، وهو تشريدهم. مصطفى لطفي - تصوير: عبد الحق خليفة

حكم بالإفراغ يرمي ثماني أسر نحو المجهول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"الباباوان" جديد أعمال الركاكنة

الـ "تابليت"... ثورة تكنولوجية بتكلفة أقل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات