fbpx
ربورتاج

مرشيش … النصب باسم الجن

حيل وادعاءات كاذبة للحصول على هدايا وذبائح وعطايا

على بعد كيلومترات من مديونة، ضواحي البيضاء، يحج الباحثون عن “العطاء الروحي” الاستثنائي، يوميا من كل صوب وحدب، ناشدين ضالتهم بـ”مرشيش”، مملكة الجن المزعومة. في رحلة البحث عن خبايا وحقيقة هذا العالم الروحي، حلت «الصباح» بالمنطقة، قصد الوقوف على أسرار مغارات ملوك الجان، لتكتشف عالما آخر، لا يقبل أي دخيل، ويرفض الإفصاح عن أي معلومات، لولا التمثيلية التي مكنتنا من كشف أساليب النصب والاحتيال الغريبة، التي ابتكرها القائمون على «المملكة السحرية» لنهب أموال الزائرين، باسم «الجن».

إنجاز: يسرى عويفي

بعيدا عن صخب المدينة، تتربع قرية “مرشيش” الصغيرة على تلة معانقة للشمس ومغطاة بالمروج الخضراء. منظرها الخارجي يوحي بالسكينة كأي قرية في منتصف الربيع، ولا شيء يبعث على القلق. على بعد خطوات من مدخل القرية، تسمع الأصوات المتعالية لسائقي سيارات الأجرة الكبيرة “الدار بيضا.. الدار بيضا”، وترى النساء يتجهن لاهثات لأعلى التلة، حيت يقع مدخل القرية، فيدخلن مثنى وثلاث حاملات القفف، والديكة، وأطباق القش المترعة بشتى أنواع المكسرات، وقنينات ماء الورد، والشموع البيضاء، ثم يلقين التحية على أربعيني طويل القامة، ذي كرش متدلية، وعينين جاحظتين، يرتدي معطفا أسود كلاسيكيا حال لونه إلى الرمادي، بفعل الشمس، ويضع قبعة رياضية، يسترق النظر من تحتها بين الفينة والأخرى، للتمعن في وجوه الزائرين، وتفحص ما تحمله أيديهم.

رحلة بحث

خلال بحثنا عن الموضوع، استغربنا قلة التحقيقات وندرة المعلومات حول هذه “القرية الشهيرة”، وتبين لنا لاحقا أن القائمين على المنطقة متحفظون جدا فيما يتعلق بتقديم المعلومات والتفاصيل حول ما يقع في الداخل، كما أنهم ذوو نزعة عنيفة ولا يقبلون الدخلاء. كان لزوما علينا إذن، تقمص دور الفتاة الممسوسة، التي تنشد ضالتها ب”مرشيش” أملا في اكتشاف  نوع العفاريت الذي يتلبسها.
واتجهت الفتاة إلى الدكان الوحيد الخاص بأغراض الزيارة، الموجود عند مدخل “المملكة”، لتسأل عما يجب اقتناؤه للدخول إلى مغارات الجن، فأحضر لها صاحب الدكان طاقم شموع ملونة  وأخرى بيضاء، بما مجموعه حوالي 50 درهما، ثم لتر حليب، وعلبتين من السكر المقروط، وقنينتي ماء ورد، وضعها أمامها قائلا “أدخلي هذه الأغراض”، سألته أيا من المغارات تزور، فأجابها “زوريهم كاملين، وأدخلي لكل شمعته الخاصة..هناك تسع خلوات، لكل طقوسها وألوانها… أشعلي الشمعة الصفراء لميرا، الحمراء لحمو، السوداء لميمون، الخضراء لمليكة، والباقي شمع أبيض… بداي منين ما بغيتي”، ثم نظر إليها وقد انفرجت ملامحه عن ابتسامة شريرة مصطنعة، وأضاف “كلشي زين ابنتي..وكلشي على النية”.

خمر وحشيش

عند خروجنا من “الخاتم” وجدنا النساء يجلسن في شبه مقهى خارج المغارة، يلف بعضهن لفافات الحشيش علنا، والبعض الآخر يدخن السجائر متشاركات الحديث حول همومهن، ومنهمكات في تحضير أطباق الزيارة، بينما تصطف الزبونات الراقيات على أريكة بالية، يرتشفن القهوة في انتظار قدوم الجزار لذبح القرابين التي أتين بها، ويتجاذبن الحديث حول ليالي “الحضرات” التي ينظمنها بالقرية، تميزهن من مجوهراتهن الذهبية، ومفاتيح السيارات الفخمة التي يضعنها على الطاولة، كمظهر “للبرستيج”، كما يحظين بمعاملة خاصة من قبل القائمين على “مرشيش”.

انتقلنا بعد ذلك لزيارة باقي المغارات، مرورا بخلوة “عايشة” و”عايشة السودانية”، وأولاد خليفة، والمجمع، وميمون، الذي يتربع أسفل مغارته “شيخ” في عقده الخمسين، يرتدي جلبابا أسود، ويحيط نفسه بالنساء اللواتي يصلين على النبي ويزغردن، بينما ينشغل بتحضير “الشقوفة”، مراقبا أجسادهن بنظرات شهوانية، ثم خيمة “البوهالي”، المعروفة بهدايا “الكسكس”، أو ما يسمى بـ”قصرية البوهالي”، التي تعد بطريقة خاصة وتهدى لزائري الخيمة، وأخيرا خلوة “مليكة”، التي استوقفنا بها منظر النساء المتجمعات حول جلسة خمرية، بغرفة خضراء لا مغارة فيها، يرقصن ويدخن بكل طمأنينة، مرددات الأهازيج الغنائية الشعبية، بدعوى أن الجنية مليكة، تعشق “النشاط”، وتلزم اللواتي تتلبسهن على ممارسة تلك الطقوس.

وعن حقيقة الطقوس الغريبة التي تمارس بالمنطقة، يجزم حركات، قطعا، بعدم وجود أي تأثيرات غيبية أو عوامل خارقة، بل هي “حالات ذهانية، يعانيها هؤلاء الأفراد، تجعلهم مهيئين نفسيا لتقبل الترهات التي تتلى عليهم في تلك الأماكن»، والأصح «أنها حالة مرضية، تتسبب في خلل بمكونات عملية التفكير المنطقي والإدراك الحسي، وفي نوبات الهلوسة، والفصام، والتمسك بمعتقدات وهمية، من قبيل الجن والسحر والأرواح، ناهيك أن الأشخاص الذين يعانون الذهان قد يتمثلون حالات من تغيير الشخصية، فيشار إليهم في قاموس الشعوذة على أنهم ممسوسون، أو متلبسون من قبل الجن والقوى الخارقة، بينما هي حالة من فقدان الاتصال مع الواقع، تستغلها بعض الجهات، التي تتغذى على جهل المواطنين، ومعتقداتهم الخاطئة، كي توقعهم في شباك النصب والاحتيال».

القرابين للجن

«الفتوح» تذكرة الدخول لكل مغارة صخرية من المغارات التسع، أو ما يسمى بـ»الخلوات»، حيث يجلس «حراس الجن»، أولهم عجوز شمطاء «بخلوة ميرا». ما إن وطأت أقدامنا المغارة الصفراء لـ»ميرا»، حتى فاجأتنا العجوز بصوت أجش «الفتوح أختي»، ثم أشارت بنظرتها لطبق القش الموجود على طاولة بجانبها، والمليء بالأوراق النقدية الخضراء والبنفسجية، فدسسنا في يديها قطعة نقدية من فئة 10 دراهم، نظرت إليها باشمئزاز ثم وضعتها بالطبق وولت وجهها ناحية «زبونة» يبدو من مظهرها الأنيق أنها ميسورة، «مرحبا بيك لالة.. زارنا الخير والبركة»، وانتفضت من مكانها لتتسلم طبق الزيارة الذي أتت به السيدة هدية للجنية «ميرا». ولحبك الدور الذي اتخذناه لكشف عوالم «مرشيش»، اتخذت الفتاة الممسوسة مكانا بجانب النساء اللواتي اصطففن على الأرائك المؤثثة للفضاء المصبوغ بالأصفر، وانهمكن في خلط الأعشاب والبخور، فأشعلت شمعة صفراء وضعتها داخل المغارة، وأخذت تتمتم عبارات غير مفهومة، بخشوع تام، تقليدا لما فعلته شابة عشرينية كانت تجلس بجانبنا، ثم بدأت تسأل عما تفعله تلك النساء فتجاهلنها، ورمقتها «الحارسة» بنظرة تحذيرية، جعلتنا نبارح مكاننا ونتجه صوب المغارة الثانية، «خلوة حمو».

يذكر أن «حمو» أخو «ميرا»، وعند أسفل درج مجاور لمغارة «ميرا»، تقع غرفة الجني الذي يعشق «الدم»، كما أوضح لنا شاب من المنطقة، ينصب نفسه حارسا لـ «خلوة حمو»، المميزة بلونها الأحمر وفضائها المظلم، ولولا نزعة التحرش التي تدفع الشاب العشريني للتقرب من كل زائرة، على أمل الحصول على رقم هاتفها، لما أفصح لنا عن بضع معلومات خلاصتها أن لكل جني شعائره الخاصة،  «حمو يبغي الدم… ميرا تبغي النشاط والزهو.. مليكة زهوانية تبغي العكر والماكياج.. ميمون .. هو الصعيب، اللي كيدير العريض والمانع والنحس»، مشيرا إلى أنه نوع من الجن العاشق، الذي يمنع الزواج على النساء اللواتي يتلبسهن، فبادرته الفتاة بالسؤال عما إذا كان أحد الجن يتلبسها، باعتبار أنها «تسهو كثيرا، وتغيب عن الوعي متلفظة كلمات ليس لها معنى»، أجابها مناولا إحدى النساء سكينا كبيرا، مررته على جسدها متمتمة عبارات غير مفهومة، ومتوجهة صوب المغارة لتشعل شمعة حمراء بداخلها، «أنت حتما ممسوسة، قريبا سيقف عليك جني في المنام، وستعرفين من يتلبسك.. عليك بزيارة جميع الخلوات، بداية بالخيمة الزرقاء (الخاتم)، ثم ميرا وحمو، والمجمع، وأولاد خليفة، وعايشة، وميمون، والحاجة مليكة، والبوهالي، مع تأدية واجبات الزيارة، وتقديم القرابين لهم .. والكمال على الله».

“الطب ماقدرش إذن الجنون”

يفسر الدكتور جواد مبروكي، خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي، مظاهر المشي على الزجاج المهشم ورفسه بالأقدام الحافية، بمزار أولاد خليفة، لطرد «التابعة»، وحالات «الجدبة» التي ترقص فيها النساء بطريقة غير طبيعية، «بما يسمى «الترانس»، وهي حالة ذهنية من التنويم المغناطيسي، يصبح فيها الشخص متقبلا للتعليمات الموجهة إليه، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بعد تلاوة آيات أو عزف موسيقى معينة، وفق طقوس خاصة تنقل الشخص من حالة الإدراك والتركيز الواعي إلى حالة الإدراك والتركيز اللاواعي، الذي يغيب معه الإحساس بالآلام»، ويشير الدكتور مبروكي إلى أن «الترانس»، أو «حالة التنويم بالإيحاء، الذي قد يمارس على الشخص دون علمه أو اختياره، من قبل مشعوذين يستعملون تقنيات شبيهة من تلك التي تدخل في إطار الجلسات العلاجية، والتي يشرف عليها متخصصون، بموافقة المريض، ويلجؤون إليها لعلاج بعض المشاكل والاضطرابات النفسية»، يستغلها المشعوذون يستغلونها في مثل هذه الممارسات للنصب والاحتيال باسم الجن.

ويشدد مبروكي بدوره، على غياب تفسيرات علمية للظواهر المرتبطة بالجن أو القوى الخارقة، مستدركا «لا ننكر أن هذه  المعتقدات، ساهمت في علاج نسبة كبيرة من الناس، ممن يشكون مشاكل نفسية، يعزونها إلى المس بالجن، فيقتنعون نفسيا بذلك، ويتحررون عند نهاية مسلسل الصرع والممارسات التي يقومون بها، معتقدين أنهم تخلصوا من الجن المزعوم، فتتحسن حالتهم بالفعل، وهذا ما يهم في نهاية المطاف».

من جهة أخرى، فإن الطب العضوي، حسب ما أفاد مبروكي، في حديثه مع «الصباح»، لا ينجح في أحيان كثيرة في تحديد العلة النفسية ذات الأعراض الجسدية، وحينما يذهب شخص مصاب بالهستيريا المصحوبة بالمعاناة الجسدية مثلا، إلى المستعجلات، يكتفون بإجراء التحاليل الجسدية ليكتشفوا عدم وجود خلل جسدي، أو مرض عضوي، ويخبرون أهله الذين ييأسون من قدرة الطب على علاجه، ويفكرون بمنطق «الطب ماقدرش يداويه، إذن هادشي بفعل الجنون..أرا نشوفو الفقيه»، وهكذا دواليك.

سكيزوفرينيا

إن المفارقة العجيبة تكمن في تقديم الزائرين الهدايا والقرابين للجن، كي يبعدوا عنهم الأذى أو يعينونهم على تيسير أمورهم، بينما يذكرون اسم الله عند كل ذبيحة، ويدخلون رؤوسهم إلى المغارات الصخرية حيث يقبع ملوك الجان، حسب اعتقاداتهم، لطلب متمنياتهم مع رش العسل الحر والعطور والحليب بداخلها، ثم يسبقون دعواتهم بـ «يا رب»، وحينما سألت الفتاة أحد الرجال المنزوين بأركان «الخيمة الزرقاء»، أو المحكمة كما يسميها البعض، عما يأمله من زيارته لـ «مملكة الجن»، أجابها بيقين ظاهر «ولفت نذبح ونزور باش يعطيوني.. إلا ماذبحتش ليهم كيعكسو ليا جميع أموري»، فأردفت قائلة «أولا يعتبر ذلك شركا بالله، حين تستعين بالجن لقضاء حوائج الدنيا»، وقال «أبدا .. أنا أؤمن بالله، والجن مرسال يتوسطون لي عند الله، لطلب ما أريده.. فإذا أكرمتهم، يكرمونني ويحرصون على قضاء حوائجي، أما إذا أهملتهم فيغضبون، ويا ويلي من غضبهم»، ثم تجاهلها وذهب ناحية حارس المغارة، الذي يفترش الأرض ويعزف على آلة «الوتار»، مدردشا بين الفينة والأخرى بلهجة محلية مع شباب من المنطقة، يتناوبون على تدخين لفافة حشيش بجانبه، ويتفرجون على النساء اللواتي يجثين على ركبهن ويدخلن من إحدى فتحات الغار ثم يخرجن من الأخرى، في أربع دورات، واحدة تلو الأخرى، مصدرات أصواتا عجيبة، شبيهة بالتجشؤ، في منظر يعكس طقوس الزيارة لمغارة «الخيمة الزرقاء».

وعن طبيعة الأصوات العجيبة التي يصدرها الزائرون، يوضح الدكتور أبو بكر حركات، اختصاصي في علم النفس والجنس، في حديثه مع «الصباح»، أنها مجرد حالات هستيرية، يدخل فيها الفرد بعد مروره بأزمات نفسية قاسية، نتيجة مشاكل في العمل، أو في العلاقات العاطفية أو العائلية، فينتج عنها في بعض الأحيان، حصول تغيرات وأعراض جسدية مرتبطة بأمراض نفسية، وبحالات «استقلاب»، كحدوث خلل على مستوى الحبال الصوتية، أو ردة فعل عنيفة للجسد، كما قد ترتبط بحالة غير طبيعية للعقل(ذهان)، يستصعب فيها الشخص المصاب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، فيرى ويسمع أشياء لا يراها الآخرون ولا يسمعونها، ثم يتكلم كلاما غير مفهوم أو متسق، وتصدر عنه سلوكات لا تتناسب مع المواقف الاجتماعية المعتادة.

يسرى عويفي


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات

نود أن نشكركم على زيارتكم لموقعنا. لكننا نود أيضًا تقديم تجربة مميزة ومثيرة لكم. لكن يبدو أن مانع الإعلانات الذي تستخدمونه يعيقنا في تقديم أفضل ما لدينا.