افتتاح المهرجان اختصر رحلات "ليون الإفريقي" واستحضر الطائفة التيجانية في لوحة فنية لكشف سحر إفريقيا تقف فاس أمام المرآة طيلة 9 أيام، لترى وجهها فيها، لا لوضع مساحيق تجميلها أو تقييم درجة نموها وطريقة تدبير شؤونها وما ابتليت به من ظواهر، بل لاستحضار صورتها الإفريقية الناصعة، ونشر إشعاعها الروحي على قارة سمراء تغتني بالعلاقات الكثيرة التي تربطها بها باعتبارها أرض جذور على امتداد التاريخ، مراهنة على آفاق مستقبلية طيبة لامتدادها الإفريقي الطويل الأمد. إعداد: حميد الأبيض (فاس) - تصوير: (أحمد العلوي المراني) لم يكن جمهور مهرجان فاس للموسيقى الروحية الذي حج بالآلاف إلى فضاء باب المكينة في افتتاح دورته 21 ليلة الجمعة الماضي، في حاجة إلى إعادة قراءة كتاب "وصف إفريقيا"، لاكتشاف سحر أدغال هذه القارة السمراء قبل نحو 5 قرون خلت، وعلاقتها الروحية بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، كما نقلها الرحالة المغربي حسن الوزان المعروف ب"ليون الإفريقي" أو "يوحنا الأسد". وناب عرض "فاس تبحث عن إفريقيا" الذي أبدعه المخرج ألان فيبير واعتبر "علامة مميزة" للمهرجان الذي يتواصل طيلة 9 أيام إلى 30 ماي الجاري، (ناب) عن الكتاب وكاتبه، في اختصار جميع المسافات والحقب التاريخية الغابرة، على جمهور تفاعل بشكل كبير مع مشاهده، في سفر روحي ومعماري من إفريقيا التقليدية إلى فاس العتيقة المعبر الرمزي بين أجواء الأندلس وأدغال إفريقيا.وذاب الممثل العالمي سعيد التغماوي في جلباب حسن الوزان، منصهرا كليا في تفاصيل شخصيته التي تقمصها باحترافية كبيرة في هذه الملحمة الفنية المحكمة الإبداع بمشاركة فنانين من المغرب ومالي وبوركينافاسو وموريتانيا والسنغال، ذابت ألوانهم وانتماءاتهم المتوحدة لرسم لوحات موسيقية وكوريغرافية، تجانس فيها الذكر والمديح والإنشاد الصوفي بالرقص وشعر السحرة وغناء الأمازيغ. انصهار الثقافاتبدا التغماوي مغربيا قحا بلباسه التقليدي وقد التحف بالسلهام والجلباب، وهو يروي للجمهور تفاصيل رحلات حسن الوزان سفير مملكة فاس الذي كلفه السلطان بالسفر إلى عدة بلدان إفريقية انطلاقا من تومبوكتو إلى فاس العريقة ببوثقتها الروحية، والنقطة المركزية في العرض الذي برع مختصون في الفنون المشهدية والصور الضوئية، في تقنيات العرض الضوئي (المابينغ). من ضفاف نهر النيجر إلى جبال الأطلس وصحراء موريتانيا، ومن إمبراطورية سونغهاي إلى مادنديغ، نقل هذا الممثل اللابس جلباب "ليون الإفريقي"، صورا امتزجت فيها الأحجار والأسوار، لتحول باب المكينة، إلى بوابة من بوابات الممالك الإفريقية القديمة، على إيقاع لوحات إفريقية رائعة استحضرت روح إفريقيا بإرثها الغني الممتد من أحجار الصحراء إلى الأحجار الكريمة بالقصور.بحكبة كبيرة حكى التغماوي تفاصيل رحلات حسن الوزان على إيقاع التلاوين الموسيقية التي تلونت بألوان الهوية المغربية بتنوعها بين الأمازيغية والأندلسية والحسانية والعربية في علاقتها ببعدها الإفريقي الممتد إلى سنوات طويلة، وفق تصميم سينوغرافي متميز حول الساحة إلى باب مدرسة تقليدية في تومبوكتو وقلعة "هوسا" وزاوية تيجانية وجامع القرويين، أو مخيم للأعراب. وتلونت جدران الفضاء بخطوط كاليغرافية عربية وأخرى مكتوبة بلغة "بامبارا"، بل وشمت بصور الماء والجبل والرمل والصحاري ناقلة مناظر طبيعية إفريقية خلابة، لم تكن بحاجة إلى ريشة فنان لرسمها فوق جدران تآلفت وانسجمت مع عروض موسيقية اختتمت بتكريم الطائفة التيجانية وشيخها سيدي أحمد التيجاني دفين المدينة العتيقة بفاس، الذي يحج إليه ملايين الأفارقة سنويا.وانصهرت خمسة أبعاد من أبعاد الهوية الثقافية المغربية، في تلك اللوحة الفنية التي شخص دور الحاج الإفريقي فيها ورسمان ودراوغو، إذ ذابت الألحان الأمازيغية السوسية والأطلسية منها وتلك الحسانية والأندلسية والملحونية والإفريقية من دول مختلفة شاركت بفرق شعبية، في بعضها البعض، ملخصة المقولة الإفريقية القائلة ب"إن جسد الإنسان أصغر بكثير من الفكر الذي يلازمه". الحفل افتتح بكلمات أمازيغية من الجنوب وتراث سوس، انبعثت دافئة من حنجرة عازف العود إدريس المعلومي، قبل فسح المجال للمغنية الشريفة رفيقة درب المرحوم محمد رويشة قبل استقلالها بفرقتها، فيما أبدعت فنانة الملحون الصاعدة نهيلة القلعي، في تقديم وصلات اختصرت لونا آخر من الألوان المؤثثة لهذا الحفل المتلون بأنماط موسيقية من السنغال ومالي وموريتانيا وبوركينافاسو.وذكر عبد الرفيع زويتن، رئيس المهرجان ومؤسسة رسالة فاس، أن فاس تستمد إشعاعها على إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء، من تاريخها الطويل الذي يربطها بالصحراء وبلاد السودان القديمة، و"ورثت وضعها منفذا أساسيا للتنقل عبر الصحراء الرابطة، منذ العصر الوسيط، بين منعطف النيجر والمغرب عبر توات وتافيلالت وممر تالغيمت وطريق السلطان التاريخي". الرباعي: "عندي مفتاح فاس نفتح كل بيت" صالح الفنان التونسي صابر الرباعي، بطريقة "فنية" جمهور باب المكينة المحتج على تأخر انطلاق سهرته المبرمجة بساعتين ليل السبت الماضي، لأسباب تقنية يتحمل مسؤولو المهرجان مسؤوليتها وتبعاتها. وبكلماته الرقيقة، استطاع امتصاص غضبه بعد رفعه شعار "وا شوهة" و"أوووه" على إيقاع التصفيق شكلا احتجاجيا على طول انتظاره في ليلة باردة "لم يضرب لها حساب". "مساء الخير والحب والأمطار والطقس الجميل"، "أحييكم على حضوركم وصبركم"، "ما عندي ما نقول في حبكم للفن ووفائكم لهذا المهرجان"، "صبرتم وأعتذر عن التأخير".. بهذه الكلمات التي قابلها الجمهور بالتصفيق الحار، اختار هذا الفنان العربي مصالحة الحضور المقدر بأكثر من 6 آلاف شخص، بعد أدائه "مبروك علي" أولى أغانيه الجديدة التي آثر إهداءها للجمهور الحاضر. وقال إن الموقف نفسه وقع له في آخر مشاركة له في مهرجان مغربي، بسبب الأمطار الغزيرة التي تهاطلت وأربكت الحفل، مؤكدا أن "الطقس يخدع"، مؤكدا أن الجمهور المغربي "جمهور رائع وذواق ويحب الفن"، و"المغرب كلو يحب صابر وأبادله نفس التقدير والاحترام، والشعب التونسي يحب نظيره المغربي بزاف"، قائلا "هذا الكلام نابع من القلب، وأكيد يصل إلى القلب". وبدا صابر الرباعي أكثر ثقة من حب الجمهور الفاسي والمغربي له، بقوله بدارجة مخضرمة "عندي مفتاح فاس نفتح كل بيت فيها، وندق على كل باب وناسها يضيفوني"، في إشارة منه إلى تسلمه مفتاح فاس هدية من حميد شباط رئيس مجلسها المحلي والوالي السابق محمد الغرابي، في دورة سابقة للمهرجان الذي يحضره لثاني مرة بعد 2006، أثناء إحيائه حفل مجانيا بساحة أبي الجنود. ولم يخف الرباعي في الندوة الصحافية القبلية للسهرة، حبه لفاس وأهلها، مؤكدا أنها "مدينتي وبيتي"، مستحضرا الوضع في تونس، قائلا "نحب تونس ونموت من أجلها، والاحترام قائم بيننا شعبا متماسكا، والمستقبل سيكون أفضل"، مؤكدا أن الثورة وهبت الشعب التونسي حرية التعبير في كل المجالات، مستدركا "لكن هذه الحرية يجب أن تكون في حدود اللباقة والاحترام واللياقة". وأهدى بعض أغانيه الجديدة للجمهور الحاضر بباب المكينة الذي لم يخف غضبه من تأخر الإعداد التقني للسهرة دون مراعاة لمصالحه، من قبيل "إش بالك ما سويت يا حياتي" و"وشك لما طليت" و"أجمل نساء الدنيا كوا عينيك"، قبل أن يختار من ريبرتواره الغنائي أغاني خالدة بينها "عز الحبايب" و"بعدك عني حبيبي" و"اشتقت ليك، عم يتمزق قلبي لغيابك" و"يا عسل في الكل". سفير العراق يرقص على إيقاع الموسيقى الكردية لم يتمالك حازم اليوسفي سفير العراق في الرباط، نفسه عصر السبت الماضي، في حفل فني بمتحف البطحاء أحيته فرقة بابيز للموسيقى التقليدية الكردية، بعدما حركه الانتماء بشكل أنساه مهمته الديبلوماسية. ودون قيود أو بروتوكول، توسط أعضاءها مشاركا إياهم الرقص بشكل حرك الجمهور الحاضر الذي استقبل الإشارة وحول الفضاء إلى مرقص زاد من حرارة الحفل.الحادث وقع في نهاية الحفل، لما صعد السفير إلى المنصة لتحية أفراد الفرقة على حسن أدائهم للعرض، لكن انتماءه حرك فيه شعور الانصهار في رقصة جميلة أداها رفقتهم، منسلخا من مهمته الديبلوماسية وما تصحبها من بروتوكولات، للتعبير عن إعجابه بأداء موسيقي تقليدي، أثنى عليه في تصريحات صحفية أعقبت رقصته، مستحضرا الواقع الأليم في العراق الذي لم يمنعهم من الإبداع.وذاك ما عبر عنه أحد أعضاء الفرقة قبيل انطلاق الحفل الأول من نوعه الذي يحتضنه المتحف، قائلا "جئنا إلى مدينة فاس من منطقة تعيش وضعا صعبا" في إشارة منه إلى كردستان، في ظل عدم الاستقرار الذي تعيشه العراق وتمدد نفوذ تنظيم داعش الإرهابي، وإحراق وتدميره معالم الجمال في هذا البلد، متمنيا أن تعود الأجواء لسابق صفائها، لينعم الشعب العراقي بالهدوء اللازم.وليس السفير العراقي الوحيد الذي حضر فقرات المهرجان، بل سبقه وفد ديبلوماسي أجنبي في افتتاح الدورة بينهم رؤساء وعمداء المدن والعواصم العالمية المتوأمة مع فاس الذين أنهوا في اليوم نفسه أشغال الدورة الثالثة للملتقى الخاص الذي تنظمه بلدية فاس، ووفد صيني هام يقوم بزيارة إلى فاس للاطلاع على سير الخدمات في مطار فاس سايس، تكون من 11 مسؤولا صينيا. وتميز حفل الافتتاح بحضور الأميرة للاسلمى، وعدة شخصيات بينهم وزراء الداخلية والثقافة والتعليم العالي، وضيوف أجانب للمهرجان من مختلف البلدان، فيما تحظى مختلف فقرات المهرجان المبرمجة طيلة أيامه التسعة، بحضور وازن لشخصيات بارزة استقطبها للإشعاع الذي أصبح له دوليا، رغم الفتور الملحوظ في انطلاقة هذه الدورة، خاصة على مستوى التنظيم.