عندما أقر المشرع المغربي سلطة الملاءمة، لم يكن يعني حصرها فقط في المتابعة في حالة سراح أو اعتقال أو حفظ المتابعة، بل كان يروم من ورائها التحقيق الفعلي لأحد عناصر المحاكمة العادلة، التي لا تتوقف فقط عند التطبيق الحرفي لنص القانون، بل تعمد إلى تفعيل مبدأ الاجتهاد وفق النص القانوني. وخلال التفكيك الأخير، الذي جرى نهاية الأسبوع الماضي، لشبكة السمسرة التي أطاحت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، والتي أحيل فيها 25 مشتبها فيهم على الوكيل العام للملك لدى استئنافية البيضاء، الجمعة الماضي، استعملت النيابة العامة التطبيق السليم لسلطة الملاءمة من خلال فرز المتهمين في الملف، بشأن المنسوب إليهم، وتجزيئه عوض الاحتفاظ بهم جملة، إذ قررت في شأن بعض المشتبه فيهم المتهمين بجنح، إحالتهم على النيابات العامة بالمحاكم الابتدائية بالدوائر القضائية التي ينتمون إليها، بينما تم الاحتفاظ فقط بالمتهمين بجنايات تتعلق بجرائم الأموال، وهي إستراتيجية من شأنها أن تمنح قاضي التحقيق الوقت الكافي للبحث في الملف، على اعتبار أنه، في ملفات سابقة، كان القاضي يجد نفسه مضطرا لإنهاء التحقيق، خاصة إذا كان الملف يتضمن متهمين بجنح في حالة اعتقال، قبل أن تنتهي المدة المقررة في النص القانوني، والتي لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وهي مدة لا تكون كافية للإحاطة بالملف من كل جوانبه والاستجابة إلى ملتمسات الدفاع بخصوص استدعاء شهود أو مصرحين أو غيرها من الملتمسات. النيابة العامة باستئنافية البيضاء، عندما اتخذت هذا القرار أقرت بالدور المحوري لها في التدبير المحكم للملفات، خاصة تلك التي تحمل نوعا من الحساسية، فملف السمسرة في المحاكم الذي تفجر، أخيرا، لن يقف عند الدفعة الأولى من المتهمين المحالين، الجمعة الماضي، بل إن الأبحاث مستمرة فيه للكشف عن باقي خيوط الشبكة والمتعاملين معها من الوسط القضائي ومن مساعدي القضاء، ما يعني أن متهمين آخرين في طريقهم إلى المحاكمة، وبالتالي ارتفاع عدد المتابعين، خاصة الذين لهم علاقة بالارتشاء. النيابة العامة التي هي سلطة اتهام سبق للملك محمد السادس أن أكد أهميتها، من خلال ظهير التعيين لرئيس النيابة العامة بعد خروجها من جبة وزارة العدل، إذ طالب الملك قضاة النيابة العامة بـ "الالتزام بحسن تطبيق القانون، في إطار من التلازم بين حقوق المواطنين وواجباتهم"، و تحقيق هذا التوزان تحقيق للتوازن بين طرفي الخصومة الجنائية، الذي تحرص عليه النيابة العامة المواطنة، التي خول لها المشرع سلطة ملاءمة، تستحضر نبض المجتمع، وهي بصدد تدبير الملفات الجنائية المعروضة عليها، في إطار الالتزام بالقانون، وهي بذلك تفكك فكرة كانت راسخة لعقود من الزمن في الأذهان وهي فكرة "الغراق". للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma