نص من القرن 19 لأبي القاسم الزياني مؤرخ الدولة العلوية صدرت حديثا للباحث والمؤرخ المغربي خالد فؤاد طحطح، دراسة وتخريج لكتاب"عِقْدُ الجُمَانِ في شمائل السلطان مولانا عبد الرحمن" للوزير ومؤرخ الدولة العلوية أبي القاسم الزياني (1734 ـ 1833) وأنجز بشأنه دراسة تناول فيها سياقه التاريخي وجانبا من سيرة مؤلفه، في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى أهم مضامين هذا الكتاب الصادر عن منشورات "سليكي أخوين". إعداد: عزيز المجدوب يضم كتاب "عقد الجمان في شمائل السلطان عبد الرحمن" ، حسب دارسه ومخرّجه خالد فؤاد طحطح، معلومات تاريخية مهمة عن تاريخ الدولة العلوية من نشأتها وإلى غاية فترة حكم السلطان عبد الرحمن بن هشام، وهو يعد من أهم المصادر التاريخية عن هذه الفترة، خاصة تلك التي عايشها، فقد خدم أربعة سلاطين: المولى محمد بن عبد الله، والمولى اليزيد، والمولى سليمان، والمولى عبد الرحمن بن هشام. ولكل مرحلة من هذه المراحل مميزاتها. وحرص المؤرخ أبو القاسم الزياني على إعطاء مساحة للتاريخ الآخر إذ لم يهمل الحديث عن الضّعفاء من عامة الطّبقات، ولم يضرب الطّوق عن أخبارهم، بل سجل نماذج من معاناتهم. فقد أسمعنا المُؤلِّف أصواتَ المحكومينَ ومعاناة المظلومين منهم. كما سجل مظاهر مُؤلمة وَصُوَرا مُجتمعية قاتمة ما كان لنا أن نتعرَّف عليها لو لم يُدونها هذا الإخباري المتميز. وتميَّز خطاب الزّياني في كتابه عقد الجمان بالوضوح والجرأة في الطرح. فهو لم يدار "أصحاب الجاه والنفوذ، ولم يتوان عن فضح المفسدين، ولم يكترث لعصر صغرت فيه الهِمم، وطفا فوق سطح الماء السّفيه والخامل والجاهل، وقل الخير وكثر الشر". إن غضب أو رضي مخاطبوه، ولم يسلك درب التملق والتصنع في مؤلفاته. ويتبَن ذلك إذا ما قورنت كتاباته بما دوَّنه بعض الإخباريين من مُعاصريه أو الذين جاؤوا من بعده. فتح الطابوهات واعتبر الباحث خالد طحطح أن أبا القاسم الزياني نحا في كتابه عقد الجمان منحى مختلفا عما عهدناه في الكتابة التاريخية، فهو ينتقد بحدة الظلم الذي عاشته مدينة فاس وبعض المناطق الأخرى على يد ولاتها وعمالها وقيادها ومحتسبيها، ويُصرح بأسمائهم وصفاتهم، ويذكر أنواع المخالفات التي ارتكبوها، ويورد أسماء الضحايا ممن تعرضوا للإيذاء والابتزاز والقهر. ويتسم الكتاب بنبرته المغايرة التي تخالف ما تعودنا عليه في نصوص التاريخ القديمة والتي يحضر فيها مدح الكتاب والإخباريين للولاة والحكام والقياد والوُزراء وتمجيدهم، وإصباغ الصفات الحميدة عليهم، وهي الصفات التي قلما تتوفر في بعضهم، لكن على عكس ذلك، كسر الزياني القاعدة وفتح بعض الطابوهات المتعلقة بالفساد المالي والجنسي والإداري، وتناول ظواهر من قبيل الرشوة والابتزاز والغصب والاغتصاب والتحايل، وفصل فيها، ونبه لمخاطرها، واستطاع إثباتها من خلال حالات عديدة نقلها في كتابه، مع توثيق أسماء الجلادين والضحايا، كاشفا بذلك عن حقيقة المرتزقة ممن كانوا يستغلون نفوذهم ومناصبهم بغية تحقيق مآربهم الخاصة. صراحة جالبة للعداوة وجلبت صراحة الزياني له عداوات من أصحاب النفوذ، فخصومه الذين ناصبوه العداء كادوا له عند السلطان، وانتهزوا جميع الفرص من أجل الإيقاع به، وسعوا جاهدين للانتقام منه، موظفين طرقا شتى، سواء عبر نشر الوشايات الكاذبة، أم عن طريق السعاية بالدسائس والمؤامرات، أم عبر تشويه السمعة بالمكر والحيلة. أم عبر التحريض والتحريش، وقد تعرض الزياني بسبب هذه الضغائن لمحن كثيرة أتى على ذكرها في كتابه "الترجمانة الكبرى"، لكنها لم تثنه عن طريقته في الكتابة، ولم تخرس كلماته التي ظل يجهر بها إلى وفاته. وتجد صراحة الزياني، حسب المحقق خالد طحطح، تفسيرها في استغنائه عما في أيدي الآخرين، إذ كان ميسور الحال، ولم يكن مفتقرا للمساعدات والمشاهرات، ولا متشوفا للأعطيات والهبات، فقد توفرت له إمكانيات مادية ورثها عن والده، مما جعله أكثر استقلالية وحرية مقارنة بأقرانه من الكتاب والمؤلفين ممن كانوا يعانون من قلة ذات اليد أمثال محمد أكنسوس وعلي السوسي والعربي المشرفي. فعبّر عن آرائه بجرأة وصراحة شديدتين، وهذا ما كان يقهر خصومه من ضعاف النفوس، ممن ألفوا اللف والدوران والتزلف والتملق لأسيادهم، فقلبوا له ظهر المجن، وسعوا للكيد لهُ، ومحاربته، وتشويه سمعته بشتى الوسائل الممكنة. كما تميز الزياني عن علماء عصره بسعة الثقافة وبالصراحة، لا يتكلف التصنع في أحكامه ولا يربأ بنفسه، في بعض الأحيان، عن استعمال الحوشي من الألفاظ في أقواله. كان نزيها وواضحا في كتابه "عقد الجمان" لا يهمه إن غضب أو رضي مخاطبه، ولم يسلك درب التملق والتصنع في كتاباته، ويتبين ذلك إذا قورنت كتاباته بما دونه بعض الإخباريين من معاصريه أو الذين جاؤوا من بعده، كما اتسمت تعابيره بالدقة حين قدم وصفا لأولئك الذين يتهافتون على المناصب. فهو قد اختبر كثيرا منهم فوجد أكثرهم سقطا، وقد عبر أبو القاسم في "الترجمانة" عن وضعية هؤلاء بقوله: "فالحر الذي يسعى لخدمة الملوك قد يصير مملوكا والغني قد يصير صعلوكا، سيما في هذا الوقت الذي كسدت فيه سوق السيف والقلم، وصغرت فيه الهمم وطفا فوق سطح الماء السفيه والخامل والجاهل، وقَلَّ الخير وكثر الشر". خبرة بدسائس السياسة خبر الزياني دسائس الحياة السياسية كما خبر ذلك غيره، فقد تقلب في المنازل ما بين قمة الهرم وقاعدته، لكنه ظل دائما يحتقر كل من يتهافت للسطو على ما في أيدي الغير بدافع النهم والأنانية وتحقيق المصلحة الشخصية. ففضح بقوة كل مظاهر الإذلال والقهر وخنق الأنفاس التي تعرض لها الأفراد على يد حكامهم، وهذه الممارسات لا تزال متجذرة ومستمرة إلى اليوم بأشكال مختلفة. سجل الزياني كثيرا من الأعمال الإجرامية في كتابه "عقد الجمان" ووضحها في رسالته "حديقة الحكام الجفاة ومن انضاف إليهم من البغاة" التي أضافها الباحث خالد طحطح للكتاب الذي تم تخريجه، وفيها فضح أصحاب الرذائل وكل من حاول التستر على أفعالهم، مما يؤكد انحيازه للحق على حساب الظلم. فقلما نجد كاتبا مخزنيا تناول خلال العصر العلوي السلوكات المقيتة التي يرتكبها الحكام في حق السكان الأبرياء. يعد "عقد الجمان" من أهم كتابات الزياني عن فترة السلطان محمد بن عبد الرحمن، ففيه أتمَّ تلخيص تاريخ ملوك الدّولة العلوية إلى غاية سنة 1828 وكان قد توقف في "الرّوضة السُّليمانية" عند حوادث سنة 1818. سيرة بين المناصب والمحن خصص الباحث خالد طحطح في الكتاب جانبا تتبع فيه سيرة المؤرخ والمؤلف أبي القاسم الزياني، إذ قال إنه ينتسب إلى قبيلة أمازيغية تقع في قلب الأطلس المتوسط، فجده النسابة سيدي علي بن إبراهيم كان مقيما بمدشر "أراق" من بلاد ادخسان"، وعنه أخذ الشيخ اليوسي الرِّوايات السبع، وقد استدعاه السلطان إسماعيل للإقامة بالعاصمة مكناس، وكلفه بمهمة إمامته في الصلوات، وبعد وفاته انتقل ابنه إلى مدينة فاس، وهناك ولد أبو القاسم الزياني. التحق أبو القاسم الزياني بخدمة الحضرة السلطانية في عهد محمد بن عبد الله، واستمر في خدمة المولى سليمان، ولذلك لقب بكاتب الدولتين، ومؤرخ الحضرتين. نال تقديرهما الخاص وحاز في عهدهما مكانة معتبرة. إذ تقلد بأمرهما مناصب سياسية مهمة، وتولى في عهد أولهما مهمات سفارية للأستانة تحدث عنها بتفصيل في الترجمانة الكبرى. تقلب الزياني بداية في منصب الكتابة مدة عشرة أعوام، وذلك في عهد المولى محمد بن عبد الله، ثم حصلت له النكبة عام 1769، لكن سرعان ما عفا عنه السلطان وأعاده لديوان كتبته، وبلغ في هذه المرحلة أعلى المراتب، وتقلب في المناصب العليا فقد عين عاملا على تازة سنة 1777، ثم ولاه السلطان على منطقة تافيلالت سنة 1788م، وخلال الزياني بتافيلالت توطدت علاقته بالمولى سليمان، إذ لازمه بمجلس الحكم، واستمر فيه إلى وفاة السلطان محمد بن عبد الله، وبعدها تعرض الزياني للاعتقال على يد المولى اليزيد بعد بيعته سلطانا، حيث سجنه لفترة قبل أن يطلق سراحه يوكل إليه مناصب ومهمات. لكنه ما لبث أن انقلب عليه مجددا بعد ذلك، وكان آنذاك بالعرائش. فضرب ضربا مبرحا إلى أن كسرت يده وشجت جمجمته، وقد ظل في السجن يعاني الويلات إلى أن توفي اليزيد. بعد وفاة المولى اليزيد عاد الزياني لسابق مكانته، فقد عينه السلطان سليمان عاملا على تادلا، وأمره أن يقبض على ولده الراضي. فقبضه ودخل عليه قصبة تادلا، ثم إن أهلها تعصبوا عليه وأطلقوه من يد بلقاسم الزياني بالسيف وكرها منه. ثم أسند له السلطان بعدها تسيير عمالة وجدة ونواحيها لفترة قصيرة، غير أنه سئم الخدمة في سلك المخزن بعد تعرض قافلته للسرقة والنهب وهو في طريقه لتولي منصبه الجديد بالجهة الشرقية، فآثر الذّهاب إلى تلمسان حيث اعتكف لمدة سنة ونصف، اشتغل خلالها بالمطالعة وتقييد مسودات بعض كتبه. ومن هناك رحل قاصدا الأستانة، وبعدها اتّجه للدِّيار المُقَدّسة بغرض أداء مناسك الحج، ليعود ثانية لتلمسان التي اختارها مُستقرا، وأثناء مقامه هناك أرسل له السلطان سليمان يأمره بالعودة، ووعده بإعفائه من أي مهمة رسمية فامتثل لرغبته. ولما وصل لفاس عرض عليه السلطان ولاية العرائش فرفض، لكنه ألح عليه بعد ذلك للقيام بمهمة مراقبة مراسي المغرب وعُمّالها. فلم يجد بُدا من القبول، وقلَّده السُّلطان سُليمان لاحقا منصب الكِتابَة، ثم الوزارة والحجابة. فبلغ بذلك أوج مجده، وبقي سنوات بمنصبه هذا إلى أن أبعد من الخدمة بعد نجاح حساده في تأليب السلطان عليه، فنزل إلى "رتبة النكبة". تعرض الزياني لنكبات كثيرة، لكنها لم تزده إلا إصرارا وعزما، وآثر في النهاية اعتزال السياسة بسبب دسائسها، ولزم بيته بصورة نهائية ابتداء من سنة 1224هـ، لكنه ظل متابعا لأحداث عصره، وهو ما يظهر جليا في كتابه "عقد الجمان" الذي ألفه في عهد السلطان عبد الرحمن بن هشام. وكان الزياني يجد في فترات اعتكافه فرصا لا تعوض للتدوين والتأليف، فقد كان مولعا بكتابة التاريخ في عصره، وجل تآليفه أنجزها خلال فترة انعزاله، بين سنوات (1809-1833)، بالزاوية العيساوية بفاس. طحطح... مسار بين التاريخ والتحقيق جدير بالإشارة إلى أن الباحث خالد فؤاد طحطح، حاصل على دكتوراه في تخصص التاريخ المعاصر من كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس في الرباط سنة 2014، في موضوع "علي بن محمد السوسي السملالي: بيوغرافيا ثقافية" وكان قد حصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة سنة 2007 من جامعة عبد الملك السعدي بتطوان. ولخالد طحطح مجموعة من المؤلفات منها: "نظريات في فلسفة التاريخ" (2006)، و"الكتابة التاريخية" (2012)،، و"عودة الحدث التاريخي"، و"البيوغرافيا والتاريخ"، و"الاسطوغرافيا"، و"التاريخ من أسفل" (باشتراك)، و"ضريبة الترتيب بين المكس والمعونة"، و"العلماء وضريبة الترتيب"، و"مؤرخون مغاربة في الفترة المعاصرة" (باشتراك)، وغيرها من الكتابات في المناهج التاريخية وفي قضايا الإصلاحات بالمغرب خلال القرن التاسع عشر، كما نشر أبحاثا ودراسات في مجلات محكمة، وشارك في عدة ندوات وطنية ودولية. يكتب في مواضيع مختلفة منها نظريات فلسفة التاريخ.