المرتفقون يكابدون مع الفصل بين الأقسام ومشاكل في التواصل تزيد حدة التوتر بينهم والأطر "شناهوا؟ بغيتي كروصة؟ والله ما دورتي مع واحد فيهم بـ50 درهم، لا خديتيها"، يقول رجل ستيني ملتح، حاسما، متوجها بكلامه إلى زوج جالس بجانبه في قاعة انتظار بقسم التشخيص، بالمستشفى الجامعي ابن رشد، وهو يستفسر عن إمكانية حصوله على عربة مدفوعة، ينقل بها زوجته، التي خارت قواها، نحو قسم الفحص بالصدى (الراديو)، الموجود في بناية أبعد. إنجاز: امحمد خيي بمستشفى ابن رشد، أكبر مرفق صحي بالعاصمة الاقتصادية، لا يواجه المرضى ومرافقوهم، مشكلة بعد أقسام الفحص التخصصية عن بعضها البعض، فقط، في غياب فرق تمريضية تتكفل بنقلهم، إنما يواجهون أيضا، عدم ضبط المستشفى، بالدقة المطلوبة، للمواعد التي سلمت لهم، كما يصطدمون بتعامل من قبل العاملين وحراس الأمن، يظهرون أمامه وكأنهم متسولون يستغيثون عطفا، وليسوا مواطنين جاؤوا سعيا وراء حقهم في الصحة. "عليكم بالاستغفار"الأربعاء 4 فبراير 2015. الطقس في هذا اليوم مضطرب ولا يستقر على حال، والوصول إلى مكتب تسجيل المرضى، الموجود في الجانب الأيمن من البوابة الرئيسية لـ"موريزكو"، ويفصله عن الشارع سياج حديدي أزرق مرتفع، يتتطلب إقناع حارس أمن خاص، بوثيقة أو باستعطاف أو كذبة تنطلي عليه، فيسمح لك بالانضمام إلى صفوف "الزحام" الطويلة، التي شكلها رجال ونساء يريدون القيام بالاجراءات الإدارية والمالية التي يتطلبها الاستشفاء.المكتب له باب آخر، يطل على حديقة المستشفى، وهو قاعة انتظار فيها شبابيك زجاجية يجلس وراءها موظفون وموظفات، بعضهم مكلف بتسجيل المرضى المؤمنين من الصناديق الاجتماعية، والبعض الآخر بالمرضى الحاصلين على بطاقة نظام المساعدة الطبية "راميد"، وآخرون غير مؤمنين نهائيا ويدفعون سعر الخدمات من جيوبهم.والمثير في المكتب، سواء من الداخل أو من الخارج، هو لافتات علقتها الإدارة في كل الأرجاء، وتظهر أن طول مدة "الانتظار" هنا بفعل الازدحام والإقبال، أمر لا مفر منه، وأبزها تلك التي كتب فيها "دقائق الانتظار إملأها بالاستغفار"، ولمن لا يعرف كيف يستغفر ربه، تتضمن الورقة فقرة أخرى، تقترح على المرتفق ترديد العبارة التالية، "استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه".ولا يعرف من صاحب الفكرة في إدارة المستشفى، وقد يكون تعليق اللافتة قد تم بمبادرة وبحسن نية من موظف في المكتب، ومع ذلك، فهو يخدم السياق، والكثير من المرتفقين على وعي بأن لجوءهم إلى مثل هذا المستشفى، فيه "ظلم لأنفسهم"، قياسا على استغفار نبي الله موسى ربه عندما قال "ربي إنِي ظلمت نَفسي فاغفر لي".صعوبة تمرين التسجيل من أجل الحق في الاستشفاء بابن رشد، لا تتوقف عند الانتظار الذي يتطلب الاستغفار، بل تمتد لتكون مساطر الحصول على قروض الاستهلاك أو التقدم بطلب تأشيرة من أجل الهجرة، أهون منها، وهذا ما يظهر من حجم الوثائق التي يطالب المريض أو مرافقوه الإدلاء بها في المكتب، كما تشير إلى ذلك لافتات معلقة على الحواجز الزجاجية للشبابيك. "المخينزة" في المستعجلاتباب مكتب رئيس قسم المستعجلات في "موريزكو"، هو نفسه باب مكتب وزير الصحة، الحسين الوردي. هذا ما تؤكده اللافتة الموجودة على باب صغير جدا، داخل المصلحة، وكتب فيها "مكتب رئيس مصلحة المستعجلات، البروفيسور الحسين الوردي".وفي قاعة الانتظار بمكتب الفحص بالصدى وتصوير الأوعية الرقمي، كانت رائحة "المرض" والمعاناة طاغية جدا على ما دونها. وفي زاوية يوجد زوج شاب، توحي ملامحه أنه من بسطاء الوطن، ولا يعرف بالضبط متى سيحين دور زوجته التي نالت منها العلة، لا تستطيع الحراك، للقيام بالفحص، وكيف سينتهي بها المطاف هذا اليوم، سيما وأن الحكايات التي تصل إلى سمعه من النساء والرجال الجالسين في القاعة، لا تطمئن أحدا.وفي هذه القاعة حيث يوجد الزوج، "ندوة" للمنتظرين، يتبادلون فيها أحاديث عن استفحال الرشوة في صفوف بعض العاملين بالمستشفى، التجارب والمعارف عن فوائد "المخينزة" في معالجة الأعراض التي تكبدت، من أجل علاجها، امرأة مستلقية على الأرض، عناء الحضور إلى هنا.وفيما تتواصل أشغال "ندوة" تبادل التجارب والمعارف، تتوالى حالات الاستسلام للمرض في صفوف البعض دون أن يحين دورهم، ودون أن يظهر من يشد أزرهم من الأعوان والممرضين، وهو الاستسلام الذي يتبدى في التقلب وتغيير الوضعية من الجلوس إلى الاستلقاء وتزايد الأنين. أزمة تواصلفضاءات مستشفى ابن رشد، تعج بمشاهد متناقضة، تؤشر على أن حجم الهوة بين المشتغلين في تقديم الخدمات الصحية وبين المستفيدين منها، واسع جدا. فمظاهر بؤس المرتفقين، لا تظهر سوى في قاعات الانتظار الموحشة، وأمام أبواب المصالح، في حين توجد بالخارج، فضاءات خضراء شاسعة، ركنت بجانبها أعداد كبيرة من السيارات "الأنيقة"، الخاصة بالأطباء والممرضين والطلبة الممتمرنين. إن المرضى من عالم والمعالجين من آخر.وهذه الهوة، يؤكدها أيضا، حجم التوتر وأزمة التواصل وغياب الثقة بين الطرفين، وهذا ما يظهره قرار اتخذ على مستوى قسم جراحة الأعصاب والدماغ، ويقضي بالفصل بين العاملين والزوار، ومنع أي لقاء مباشر بينهما. إذ أعلن في ورقة معلقة على الباب "بسبب تزايد الاعتداءات على موظفي القسم، فإن رؤية المرضى تتم عبر النوافذ".وفي قسم الجراحة الباطنية، حيث فضل بروفيسور "الاستيلاء" على الباب الرئيسي واتخاذه مركنا لسيارته السوداء، بعد أن زرعت أمامه لوحة، تؤكد ذلك، تسللت إلى بابه الثانوي، من حيث يلج المرضى ومرافقوهم، إعلانات تخص العاملين والمتدربين، ومنها واحد لجمعية الأطباء الداخليين، يخبر هؤلاء أن الدورة التكوينية المقبلة ستكون حول "التواصل الشفهي". المعاناة نكتة في النهايةقريبا من السياج الفاصل بين مستشفى الأطفال "الهاروشي" و"موريزكو"، وغير بعيد عن باب جناح جراحة العظام والمفاصل، يقف رجل ستيني ملتح، ليستجمع أنفاسه، بالقرب من نسوة ورجال آخرين، فدخل مع الجمع في أحاديث حولت كدرهم، بسبب ضياع نصف يوم في مرافق المستشفى دون قضاء الحاجة إلى ابتسامات وضحكات مجلجلة. وبالنسبة إلى هذا الشيخ، بلغ إلى علمه أن رجال الدين يفكرون في "إصدار فتوى تبيح إضافة جيوب إلى أكفان الأطباء والعاملين في المستشفيات، بسبب جشعهم، وتوضع فيها أموال قبل دفن جثامينهم".وإذا كانت الطرفة التي حكاها الرجل، تختزل صورة مقدمي الخدمات الصحية في أذهان البسطاء، فإن شكاواهم، وفي مشهد مغربي استثنائي، نادرا ما تتحول إلى احتجاج، بقدر ما يفضلون الدعاء، طلبا للعدالة والإنصاف الإلهي، بعبارات من قبيل "كولشي ديال ربي، والحساب عند الله"، التي نطقت بها امرأة وهي تودع الجمع، بعدما يئست في تجاوز بوابة أحد الأقسام. الصحة ... المريض رقم 1 ما تكشفه المشاهد التي عاينتها "الصباح" في جولة خاطفة بأكبر مستشفى بالبيضاء، أمر يعيشه آلاف المغاربة في المستشفيات العمومية يوميا، وليس سوى الجزء الظاهر من جبل جليدي، سبق للحسين الوردي، وزير الصحة أن كشف عن مؤشراته في وقت سابق. ومنها أن الطاقة الاستيعابية للمرافق الصحية بالمغرب، ضعيفة جدا، من قبيل أن نصيب كل 42 ألف مواطن مركز صحي واحد، وأقل من سرير لكل ألف مغربي، وطبيب لكل 1630 نسمة. وفيما أظهرت الإحصائيات الحكومية ذاتها، أن الطاقة الاستيعابية الإجمالية لـ141 مستشفى توجد بالمغرب، لا تتجاوز 27 ألفا و326 سريرا، أبرزت لا عدالة في توزيع المرافق الصحية على المستوى الجغرافي، إذ أن 52 في المائة من المرافق تتمركز بالمدن الكبرى، و45 في المائة من الأطر الطبية تتركز في جهتي الرباط والدار البيضاء فقط، وما يزيد عن ربع سكان القرى يبتعدون على الأقل بعشرة كيلومترات عن أقرب مركز صحي.