ضعف معايير السلامة والشبابيك الحديدية وتصميم البناية سرعت احتراق الطوابق الخمسة لشركة الأفرشة حلق شبح "روزامور"، زوال الأحد الماضي، فوق سماء الحي الصناعي "التيسير" بمنطقة ليساسفة بمقاطعة الحي الحسني بالدار البيضاء، حين غطت أعمدة النيران الملتهبة الطوابق الخمسة لوحدة إنتاجية متخصصة في صناعة الأثاث المنزلي تحمل علامة إحدى الماركات الفرنسية. ولم يتنفس الجميع الصعداء، إلا بعد التأكد من خلو "العمارة" الصناعية من "سكانها" الذين يقدر عددهم، وقت المداومة العادية خلال أيام العمل الرسمية، بحوالي عشرين عاملا وعاملة، دون احتساب الأطر الإدارية وأعوان الحراسة. إنجاز: يوسف الساكت - تصوير: (عبد اللطيف مفيق) فوق عشب مائل إلى الاصفرار ينبت متفرقا قرب بناية مهجورة، افترشت عاملات بوزرات بيضاء قطع "كارتون"، وجلسن يتأملن، بقسمات شاحبة، أعمدة الدخان التي مازالت تتصاعد من وحدة صناعية، كانت إلى حدود السبت الماضي تعج حركة ونشاطا وتوفر لقمة عيش لزميلات لهن، سيفتقدن جلساتهن خلال فترات الاستراحة والغذاء إلى الحين.-" الحمد لله أخويا ملي جات غير في السلعة والحيوط، كون جات في دوك الدريات مساكن كون كانت مصيبة"، تقول عاملة تضع أمامها آنية بلاستيكية بها قطع بطاطس بائتة.- "عندك الصح أصحبتي، جاب الله العافية شعلات نهار الحد، كون كان الطيح كثر من الواقف، فين غادي تبان المصيبة ديال روزامور"، تعلق صديقتها، قبل أن تضيف:- "والله حتى الغدا ما بغا يدوز لينا هاد النهار، ملي سمعنا الوزين ديال الطابيسري تحرق وحنا مشي حتى لهيه، شي مرة حتى حنا نتحرقو ولا توقع لينا شي كارثة الله يحفظ". الله سترأغلب عاملات وعمال الحي الصناعي بليساسفة، الذين عادوا للعمل، صباح أول أمس (الاثنين)، بعد انتهاء العطلة الأسبوعية انتابتهم حالات هلع، بعد أن تناهى إليهم خبر احتراق وحدة صناعية لإنتاج الأثاث المنزلي وتضم مخزنا لأنواع المواد الأولية القابلة للاشتعال زوال الأحد الذي قبله، وكان أهم سؤال يتردد على ألسن الجميع: "واش مات شي واحد؟"، ليأتي الجواب مطمئنا وحذرا في الوقت نفسه: لم يمت أحد لكن الخسائر المادية والمخاطر كانت أكبر من أن تحصى.الساعة الثانية بعد زوال أول أمس (الاثنين)، مازال رجال الإطفاء، الذي علا التعب والجهد ملامحهم، يصارعون من أجل إطفاء الفتائل المشتعلة التي مازالت تختبئ مثل شياطين صغيرة تحت الأنقاض وأكوام السلع والمنتوجات التي استحالت إلى سواد.-"وصلنا الآن، بعد ليلة بيضاء من العمل، إلى المرحلة الأصعب، وهي تعقب الجمرات الصغيرة الموجودة تحت ركام الحرائق وأعمدة الدخان، ومحاولة إطفائها والقضاء عليها واحدة واحدة"، يقول رجل إطفاء علت حمم سوداء وجهه الذي وضع عليه ما يشبه القناع الأبيض، وهو مصنوع من ثوب خاص يقي الوجه من لفحات الحرائق.وأكد رجل الإطفاء الذي كان يسرع إلى الداخل، "خاصنا نطاكيو هاد الفتيلات، باش متشعلش من جديد، ونوليو شي ما درناه ونعاودو الخدمة من أول وجديد". شبابيك ورواياتفي هذه الساعة من الزوال، كانت العمارة الصناعية من خمسة طوابق وطابقين تحت أرضيين احترقت بالكامل، وتحولت إلى أطلال سوداء، فيما ظلت صامدة السياجات الحديدية التي يضعها صاحب الشركة على واجهات جميع النوافذ والمداخل، ما عرقل كثيرا عمل رجال الإطفاء والوقاية المدنية الذين وجدوا صعوبة في ولوج الشركة، واكتفوا بتقطيع شباك حديدي واحد من أصل العشرات.- أنظر إلى هذه الكارثة، يشير رجل أمن إلى الشبابيك الحديدية المتناثرة على واجهة "العمارة" الصناعية، مستطردا: "صحيح أن الحي الصناعي يعج باللصوص، وأحيانا يوجد اللصوص في أوساط العمال والعاملات الذين يعمدون، في بعض الأحيان، إلى سرقة بعض ممتلكات الشركات، لكن هذا لا يمنع من إيجاد معادلة بين حماية هذه الوحدات من السرقة، وبين الحفاظ على معايير السلامة في حالة وقوع حريق، أو كارثة طبيعية لا قدر الله.في زاوية قرب مدخل كبير لولوج البضائع تابع للشركة المجاورة، كان يقف حارس العمارة المحترقة، هو الوحيد الذي كان شاهدا على بداية الحريق عصر الأحد، لذلك ظل عرضة، منذ أكثر من 22 ساعة، متتالية لوابل من الأسئلة والاستفسارات والتحقيقات، تارة من رجال الأمن وأجهزة الاستعلامات والمقدمين والشيوخ، وتارة من رجال الإطفاء والوقاية وإدارة الشركة وصحافيين وأشباه الصحافيين ومواطنين وعمال شركات، وحتى من قبل زملائه الحراس.ظل الحارس متماسكا، وهو يعيد الحكاية نفسها للمرة المائة:"كنت بمفردي في الشركة بحكم عملي حارسا مداوما في يوم عطلة أسبوعية، إذ يغلق المصنع أبوابه منذ زوال السبت. أذن المؤذن لصلاة العصر، فتوضأت وشرعت في الصلاة في الغرفة الصغيرة المخصصة لي أمام المدخل الرئيسي للشركة".ويردف "لكن ما كدت أنهي الركعة الأولى، حتى سمعت دويا بالطابق السفلي، كأن شيئا صغيرا انفجر، فقطعت الصلاة، وتوجهت إلى المكان، حيث بدأت ألسنة النار تلتهم بالفعل بعض قطع الثوب والإسفنج التي كانت موضوعة في زاوية في الطابق نفسه، وبقية الحكاية يعرفها الجميع".هذا الرواية لا تختلف كثيرا عن الرواية الرسمية التي تؤكد اندلاع حريق الأحد حوالي الساعة الرابعة عصرا، في مستودع للبضائع لوحدة صناعية مكونة من خمسة طوابق في المنطقة الصناعية "ليساسفة" بالدار البيضاء مخلفا خسائر مادية هامة دون وقوع ضحايا.حارس الشركة لم يخف شكوكه في وجود تماس كهربائي تسبب في الشرارة الأولى للحريق في الطابق السفلي الذي يستعمله صاحب الشركة مخزنا لعدد من المواد الأولية منها الثوب والإسفنج، وحجته في ذلك أن الزاوية التي انطلق منها الحريق في الجهة اليمنى من الطابق، توجد قرب محول صغير للكهرباء (ديجانكتور) "من المحتمل جدا أن يكون عطب ما تسبب في تماس كهربائي أطلق الشرارة الأولى في حدود الرابعة عصرا.الحجة الثانية التي يسوقها حارس الشركة أن انقطاعا طفيفا في التيار الكهربائي حدث قبل ساعة ونصف الساعة من وقوع الحادث.- "كنت في غرفتي، في حدود الثانية بعد الزوال، وفجأة انقطع التيار الكهربائي دون سابق إشعار. لم أعر للموضوع أهمية كبيرة، لتوالي مثل هذا الانقطاع بين الحين والآخر، غادرت غرفتي في انتظار أذان العصر، قبل أن يحدث ما حدث".الشرارة الأولى التي نشبت في جبل قطع الثوب والكماش وألواح الإسفنج، كانت كافية أن تتحول في دقائق محدودة إلى لهيب انطلق بسرعة في "هشيم". وساعدت مواد وتجهيزات قابلة للاشتعال، منها أرائك وأخشاب، على انتشار الحريق في جميع طوابق البناية، مما اضطر رجال الإطفاء إلى مكافحة النيران في عدة بؤر من الحريق. خارطة الصعوباتبعد نصف ساعة من اندلاع الحريق، وصلت القافلة الأولى من قيادة الوقاية المدنية بالدار البيضاء، تتقدمها شاحنة للدفع المائي الضخم بسعة 1000 لتر في الدقيقة، ثم ثلاث شاحنات من سعة 11 طنا مكعبا للواحدة خاصة بالتزويد، وسيارات إسعاف ومعدات أخرى مثل شاحنة السلالم الآلية التي استعملت في الوصول إلى الطوابق العليا، وعدد كبير من رجال الإطفاء قدروا بحوالي 95 رجلا اشتغلوا حوالي 36 ساعة تقريبا. في هذا الوقت أتت ألسنة الحرائق ، تقريبا، على الطابق السفلي بكامله الذي يحتوي على كميات كبيرة من الموارد الأولية، ولم تنفع معها 6 قارورات متوسطة للإطفاء نفدت تعبئتها في أقل من 5 دقائق، قبل أن تنطلق بسرعة البرق إلى الطابق الأول والطابق الثاني اللذين يستعملهما صاحب الشركة مخزنين إضافيين لتخزين المواد الأولية، فيما يستعمل الطابق الثالث مصنعا للتركيب وإنتاج الأثاث المنزلي وبعضه من النوع الفاخر.في هذا الطابق كانت المخاوف تزداد حدة، بسبب المواد قابلة للاشتعمال مثل اللصاق و"الدوليو" والصباغة و"الفيرني" وباقي المواد الأخرى المستعملة في تثبيت قطع الأثاث وصباغتها وتلميعها، ما حدث فعلا في أقل من ساعة، إذ ازدادت النيران لهيبا بمجرد وصولها إلى هذه المواد.تواصل العمل منذ الساعة الخامسة عصر الأحد إلى السادسة من مساء أول أمس (الاثنين)، دون انقطاع، إذ تناوب أكثر من 100 رجل إطفاء على إخماد ألسنة النيران التي كانت تزداد لهيبا كلما وجدت أمامها أكواما جديدة من ألواح الإسفنج ولفائف الثوب والخيط وقطع الجلد.كان رجال الإطفاء يتقدمون بحذر شديد، لاحتمال وجود قارورات غاز بوطان قد تنفجر في أي لحظة، أو مواد متفجرة أو غازات سامة، لذلك جرت الاستعانة منذ البداية بأقنعة خاصة وكميات من الهواء المضغوط للتحرك وسط النيران التي كانت تزداد ضراوة، وكانت تهدد في أي لحظة بانفجار البناية برمتها، لولا الثقوب الكبيرة التي أحدثها الإطفائيون في الجدران الخارجية للسماح بتسرب الغازات وإحداث فجوات لدخول وخروج الهواء.الدقائق تسابق ألسنة النيران في السرعة القصوى التي لم يحد من امتدادها سوى كميات الماء التي هطلت على البناية من الفوهات التي أحدثها رجال الإطفاء، وخصوصا بعد قطع أحد الشبابيك الحديدية التي يستعملها صاحب الشركة للوقاية من السرقات، وهي "التقنية" نفسها المستعملة، تقريبا، في جميع الوحدات الصناعية بحي ليساسفة.يزداد التحرك صعوبة وسط الظلام والسواد وأعمدة الدخان التي علت المكان، ويزداد الأمر تعقيدا في غياب خارطة للمكان، ترصد مداخله ومخارجه بدقة، كما كانت الأدراج الضيقة ووجود مصعد كهربائي وسط العمارة معرقلا إضافيا في عمليات الإطفاء. كوارث التساهل يبدو أن شبح محرقة "روزامور"، التي ذهب ضحيتها 55 عاملا وعاملا في أبريل 2008، سيظل يحلق إلى حين فوق منطقة ليساسفة وباقي الأحياء الصناعية بالدار البيضاء، حيث يؤدي التساهل في تسليم الرخص وعدم التدقيق في نوعية العمارات والبنايات وتصاميمها وتلبيتها لمعايير السلامة والوقاية إلى كوارث كبيرة، ليبقى السؤال الأهم: متى يعلنون وفاة روزامور؟ معايير السلامة... صفر كان من المستحيل التحكم في منسوب الحرائق الذي بدأ يأتي على الأخضر واليابس في دقائق محدودة، بسبب وجود أكبر المواد قابلة للاشتعال على الإطلاق في المكان نفسه (ثوب، جلد، اسفنج، لصاق، خيوط،..)، لكن لم يكن هذا السبب مركزيا في سلسلة الأحداث، إذ كان ممكنا التحكم في منسوب الحرائق داخل الوحدة الصناعية، لو كانت طوابقها تتوفر على الحد الأدنى من معايير السلامة والوقاية، مثل وجود كاشفات للدخان والحرارة تطلق إنذارات متتالية في حالة وجود مؤشرات أولى لحريق أو لهيب.ولا تتوفر البناية، التي تبدو من بعيد مثل عمارة سكنية، على أجهزة للإنذار الأوتوماتيكي تقوم بعملية إخماد أولي للحريق قبل وصول رجال الإطفاء، كما تفتقر إلى فرقة مدربة على التدخل السريع تقوم بالتدخلات والإسعافات الأولى في حالة وجود مصابين، قبل وصول فرق الإنقاذ والوقاية.وقال خبير استمعت إليه "الصباح" إن وجود عدد من قارورات إطفاء الحرائق لا يكفي في حال الحرائق الكبيرة التي تتطلب خبرة وتجهيزات وخطة علمية للتدخل الأولي لتفادي الكوارث، خصوصا بالنسبة إلى وحدات صناعية متخصصة في إنتاج واستعمال المواد الأولية قابلة للاشتعال، إذ يصبح الخطر مضاعفا، وتصبح مثل هذه الإجراءات ضرورية جدا وتحت عيون المراقبة الدائمة.