مستثمرون يقامرون بمدخراتهم لتحقيق ربح سريع ويعانون ندرة المعلومة وتلاعبات بنوك الأعمال "وال ستريت" و"المال لا ينام أبدا"، ثنائية سينمائية أرخ من خلالها المخرج الأمريكي الشهير "أولفر ستون"، مشحونا بتوجه يساري واضح، لصور متوحشة عن الرأسمالية في معبدها التاريخي بورصة نيويورك، حين فضح الجشع والنهم الكبيرين لتحقيق الربح السريع، والمضاربة بمدخرات ومقدرات البسطاء في سوق افتراضية لا ترأف بزوارها. "الجشع جيد". مبدأ تبناه المستثمر "غوردون غيكو" بطل الفيلمين، في الصعود إلى القمة والاندحار إلى الحضيض. مضارب عصامي لم يتورع عن فعل أي شيء لبلوغ الربح. هذه الشخصية سلبت عقول الشباب عبر العالم نهاية الثمانينات، بمن فيهم المغاربة الذين تعرفوا على البورصة وتذوقوا حلاوة أرباحها واكتووا بنيران خسائرها. إنجاز: بدر الدين عتيقي لطالما وجد مفهوم الربح السريع في الأذهان ما يعززه من صور البورصة. أسهم وجداول وبيانات ورموز غامضة، لا يفك طلاسمها إلا أصحاب الياقات البيضاء، ومن تمرسوا على التعامل في هذه السوق خارج المغرب وداخله. مجال استعصى اقتحامه على البسطاء بسبب قلة المعلومات حوله، وافتراض شروط تعجيزية في المتعاملين فيه، قبل أن تحمل التكنولوجيا الجديدة المعرفة بالملاعق إلى أفواه هذه الفئة من الناس، المتعطشين للربح والذين استعصى عليهم دخول البناية الزرقاء، التي تنقل مقرها في العاصمة الاقتصادية أكثر من مرة، قبل أن يستقر في شارع الجيش الملكي. مرارة الخسارةالساعة تشير إلى التاسعة صباحا. حالة من التوتر تنتاب إبراهيم، الموظف بإحدى الوكالات البنكية، وهو يحاول اختلاس النظر إلى شاشة حاسوبه اللوحي، ليطالع حركة الأسهم في بورصة الدار البيضاء، أو بالأحرى ليطمئن على حال مدخراته التي وظفها في أسهم شركة منجمية. يتأمل باهتمام الأرقام وحركتها، دون أن يثير الاهتمام إليه، ذلك أن أغلب البنوك عمدت إلى حذف استغلال الأنترنت لأغراض التصفح خارج نطاق العمل البنكي، إذ يتيح حاسوب المكتب الولوج مباشرة إلى برامج خدمات الزبناء والتواصل مع الإدارة المركزية فقط. يقول الشاب الثلاثيني بنبرة مضطربة، "اضطررت مؤخرا لاقتناء حاسوب يسهل حمله، يوفر لي ولوجا موازيا لشبكة الأنترنت، من أجل مراقبة وتتبع الأسهم التي استثمرت فيها بالبورصة".إبراهيم المهووس بالتداول في البورصة، دخل هذا المجال طالبا في أواسط التسعينات، إذ وظف مبلغا اقترضه من أمه وشقيقه الأكبر، في مشروع اقتناء أسهم إحدى الشركات المدرجة وبيعها مع تحقيق هامش ربح، ليتذوق أولى ثمار سعيه الحثيث لتحقيق أرباح متواضعة، شجعته على التمادي في التداول، ما جعله يحصد خسائر مالية تجاوزت نسبة 75 % من مدخراته. هذه النتيجة دفعت بالطالب "المغامر" إلى بحث أسباب فشله، خصوصا وأنه غير ملم بقواعد البورصة والاستثمار في القيم، ما حفزه في النهاية على خوض تكوين في هذا التخصص لمدة سنتين، أهله للتعامل الجيد مع السوق المالية وإدراك مخاطرها.أحلامي تتبخرإذ كان إبراهيم قد تمكن من قواعد التعامل في البورصة نظريا وعمليا، فإنه يظل دائما غير محمي من الخسارة عند التعامل في هذه السوق، التي شبهها أحد المهووسين بها بـ"الكازينو" الذي يظل رابحا على الدوام. والحال تظهر عند سهام، الموظفة في إحدى مراكز النداء، والتي استثمرت مدخرات كانت خصصتها لدفع تسبيق مالي لاقتناء شقة، إذ راهنت على تطور قيمة سهم إحدى الشركات العقارية، إلا أن الأسهم التي اشترتها سرعان ما تقهقرت وكبدتها خسائر مالية مهمة. وتعلق الشابة بمرارة عن تجربتها بالقول "كنت أرى أحلامي تتبخر أمام عيني يوميا، كلما طالعت شاشة الحاسوب وعاينت تراجع السهم الذي استثمرت فيه كل مدخراتي، قبل أن أتمكن في النهاية من تدارك جزء من خسائري بالاستثمار في أسهم شركة أخرى حققت انتعاشة، بناء على نصيحة من صديق".حكاية عبد اللطيف لم تبلغ نهاية سعيدة كما هو الحال مع سهام، فالموثق الذي يدرك تماما مخاطر العقود والعمليات المالية، استبد به هوس البورصة ودفعه إلى المغامرة بتوظيف مدخراته الشخصية ومدخرات ابنتيه في أسهم إحدى الشركات العقارية الرائدة، إلا أن ركود القطاع العقاري عاكس توقعات المستثمر ذي التكوين القانوني، الذي يعلق على حالته بنبرة تتخللها الحسرة قائلا، "كلما فتحت حاسوبي صباحا أشاهد خسارة ملايين السنتيمات دون أن أحرك ساكنا، فلا أنا قادر على بيع هذه الأسهم حاليا، ولا الاستثمار في أخرى لتعويض خسائري". "أغورا" البورصة إذ كانت ساحة "أغورا" فضاء نقاش فلسفي تاريخي عند اليونان، يتبادلون فيه الأفكار والمعرفة، فإن الأنترنت تحول إلى "أغورا" البورصة. وساعد هذا العالم الافتراضي "سهام" وغيرها، في فهم ميكانيزمات التداول في البورصة وقواعد هذه التجارة، التي تمتح من الطب النفسي أكثر من النظريات والمبادئ الاقتصادية. في منتدى بورصة الدار البيضاء يلتقي طوال ساعات اليوم المهووسون بالتعامل في البورصة، يتبادلون الأخبار والنصائح، علهم يحققون ربحا صغيرا أو يتداركون خسارة أكبر. يقول أحد المسيرين لهذا المنتدى، إن "فكرة إنشاء هذا الموقع، أملتها الحاجة إلى المعلومة والمعرفة عن البورصة التي ظلت طيلة سنوات حكرا على فئة معينة من الناس، إذ يستهدف الموقع دمقرطة الولوج إلى البورصة، وهو الأمر الذي جعلنا اليوم نستقطب أربعة آلاف عضو، ينشطون بآرائهم ومشاركتهم طيلة اليوم".لا يختلف اثنان على أهمية المعلومة ودورها الحاسم في تحقيق الربح في التعاملات بالبورصة، أو حتى تفادي الخسارة، إذ يلهث المستثمر منذ ساعات الصباح الأولى خلف المعلومات الصحيحة، بخصوص الوضعية المالية لهذه الشركة أو تلك، وآفاق تطور السهم ومدى ربحيته. هذا المسعى يدفع ببعض زوار الموقع إلى الترويج عن حسن أو سوء نية لمعلومات مغلوطة، تتحكم في قرار الشراء لدى المتعاملين، خصوصا الجدد منهم، ممن لم يتمرسوا بعد على خدع وتقنيات التداول في السوق المالية. وبخصوص هذا الأمر، يؤكد أحد مسيري منتدى بورصة الدار البيضاء، أنه يتم حذف أي تعليق يشتبه في حمله لإشاعة أو معلومة مغلوطة، إذ ترتكز سياسة الموقع على تبادل المعلومات مع الإفصاح عن مصدرها. "أطلس" الحاسمة يوميات التعامل في البورصة يهيمن عليها الروتين، بالنظر إلى حجم رسملة السوق التي لم تشهد تغيرا مهما طيلة ثلاث سنوات الماضية، وتكتنفها المفاجآت أحيانا، إذ يعمد المتعامل المحترف في هذه السوق، إلى مطالعة حركة الأسهم خلال الفترة بين التاسعة والعاشرة صباحا، قبل العودة إلى التعامل خلال الثانية زوالا، أي قبل ساعة من إغلاق جلسة التداولات اليومية في البورصة، لتظل خمس دقائق متاحة بعد الثالثة عصرا أمام المتعاملين، بمثابة فترة حاسمة من أجل تمرير أوامر الشراء أو البيع، تسمى "At least" أو "أطلس" بلغة المتعاملين في السوق باختلاف مستوياتهم التعليمية، فالولوج إلى البورصة شهد تطورا سريعا، ذلك أن الأمر بشراء الأسهم الذي كان يمرر عبر الهاتف قبل سنوات، انتقل إلى الأنترنت بواسطة نقرة واحدة في حساب بنكي، أو حساب في أحد شركات الوساطة في البورصة، يكلف مستخدمه اشتراكا تتراوح قيمته بين 600 وألف درهم سنويا.شركات الوساطة في البورصة أو ما يصطلح على تسميتها أيضا بنوك الأعمال، يبلغ عددها في السوق حاليا 17 شركة، تستفيد من عمولات عن المعاملات المالية في البورصة، التي تتوزع بين أوامر البيع والشراء والاستشارات وخدمات الادخار، إذ تتحدد هذه العمولة في نسبة 1 % على النوع الأول من المعاملات، ذلك أن أقل عملية أمر بالشراء تتطلب عمولة بقيمة عشرة دراهم، وإن كان أدنى سعر سهم مدرج في البورصة لا يتجاوز 20 درهما، وهو الأمر الذي يستهدف عدم العبث في السوق، من خلال تعاملات غير معقلنة.وبهذا الخصوص، يؤكد خالد المحمدي، محلل مالي، أن أحسن وسيلة للتعامل في السوق بالنسبة إلى المستثمرين الصغار، هي بنوك الأعمال المتخصصة في الاستشارة وتوجيه المستثمرين في تعاملاتهم، عوض اللجوء إلى البنوك التي لا تتوفر على الخبرة الكافية، وتحيل المستثمر في النهاية على شركات وساطة تابعة لها، ما يعني بالضرورة تحميل الزبون كلفة أداء عمولتين لقاء العمليات التي يجريها، في الوقت الذي يرى مستثمرون في البورصة أن بنوك الأعمال لا تحفل بمصالح المستثمرين وتستهدف الربح بدرجة أولى، إذ توجههم بنصائح واستشارات تخدم مصالحها فقط. الاستثمار لا يجب أن يتجاوز 20 % من قيمة المدخرات لطالما شكلت الأموال "طابوها" في المغرب، فلا يستقيم الحديث عن الأمور المالية علنا بين الناس، إذ يحرص كل فرد على حماية معطياته المالية قدر المستطاع، لذا فالحديث عن الاستثمار في البورصة سر يحتفظ به المهووسون بالتعامل في هذه السوق. أطباء ومهندسون وتجار، بل وحتى جزارون ونجارون وممتهنو مهن بسيطة، يعيشون حياة موازية يتذوقون فيها يوميا حلاوة الربح ويتجرعون مرارة الخسارة. مدفوعين بروح المغامرة يتخطى المستثمرون في البورصة حدود المنطق والعقل، ويتجاهلون النشرات والتحذيرية الواردة في موقعي بورصة الدار البيضاء ومجلس القيم المنقولة، التي تؤكد أن التعامل في السوق المالية محفوف بالمخاطر، فيما ينبه الخبراء الماليون دائما إلى عدم تجاوز قيمة استثمارات المتعامل سقف 20 % من مدخراته، والتوقف عن التعاملات المالية في السوق عند تجاوز الخسارة نسبة 2 % من حجم الاستثمار.