الناموسي.. دينامو الهلاليين

رحيل مقاوم ساهم في تشكيل الخلايا السرية بالدار البيضاء غيب الموت، أخيرا، المقاوم المهدي الناموسي عن سن ناهز الثانية والتسعين. ويعد الرجل واحدا من الأسماء التي ارتبط اسمها بسجل المقاومة، وكذلك بأحداث مثيرة ما بعد الاستقلال. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جانبا من سيرة الرجل المتعلق بالمقاومة بالاعتماد على حديث مطول سبق أن أجريناه معه في صيف 2010، إضافة إلى مصادر أخرى. إنجاز: عزيز المجدوب حكاية المهدي الناموسي مع المقاومة، متعددة الأوجه، ابتدأت فصولها منذ بدايات حياته بإحدى القرى التابعة لقبائل بني وارين بناحية تاهلة بإقليم تازة حيث ولد سنة 1932، وهناك شرع في "مقاومة الجهل" بولوجه إلى المسيد وتمكنه من حفظ القرآن بكامله ولم يبلغ بعد سنه الحادية عشرة. بعدها التحق الطفل المهدي بمدرسة عصرية بهدف استكمال تعليمه، ولم يمض بها سوى سنتين حتى غادرها، وفر من "مسقط رأسه" نحو وجهة لم يحددها هو نفسه. ويحكي المهدي الناموسي عن سبب "زوغانه" من الدراسة قائلا "نشأت في وسط أغلب أفراده من الذكور كانوا ملتحقين بسلك الجندية، أي "مكاجيين ف العسكر"، إذ كان يعتبر الالتحاق بالجندية في قريتنا، أو في عائلتنا على الأقل، علامة من علامات الرجولة والشهامة، الشيء الذي دفعني إلى التفكير في سن مبكرة في وسيلة تمكنني من إثبات "رجولتي" أنا أيضا، خاصة أن العديد من أفراد أسرتي سبقوني إلى ذلك» غادر المهدي قريته وسنه لم يتجاوز بالكاد الرابعة عشرة، وكانت وجهته الأولى نحو مدينة تازة التي قصدها راجلا، وكان يأمل في أن يتم قبوله في سلك الجندية، إلا أن طلبه هذا قوبل بالرفض لصغر سنه، فاضطر المهدي مجددا إلى التوجه نحو منطقة "عين قادوس"، بالقرب من مدينة فاس، عله يصل إلى مبتغاه، لكن دون جدوى. لم تنل تلك المثبطات من عزيمة الفتى المهدي الذي قصد سلا، هذه المرة للبحث عن وسيلة عيش أخرى كيفما كان نوعها، بعد أن قادته الظروف إليها، وتعرف هناك على "أجودان" ملقب "أمغار" كان يتحدر هو الآخر من منطقة تاهلة التي قدم منها الناموسي. وساعد "أمغار" المهدي كثيرا، فكان وراء حصوله على عمل بمحل تجاري، كما عرفه على العديد من أصدقائه التجار، ولم يمض على مقام الناموسي بسلا سوى بضعة أشهر حتى عقد العزم على التوجه إلى مدينة الدار البيضاء، بعد أن تبين له أن مشغليه في حاجة إلى شخص يعمل في محلاتهم بالعاصمة الاقتصادية فوقع الاختيار على المهدي الذي رحب بالفكرة، خاصة أنه تمنى أن يحقق ذاته في هذه المدينة الكبيرة التي كانت أصداؤها تصل إلى مسامعه. وهكذا انتقل المهدي الناموسي إلى الدار البيضاء، وعمل مساعد تاجر في أحد المحلات بطريق مديونة (قرب بياضة)، وتدرج في مهن أخرى منها حارس أو حمال في محطة القطار، قبل أن يجد نفسه منخرطا في لجة العمل الوطني والمقاومة المسلحة التي كانت الدار البيضاء مسرحا للعديد من عملياتها. "ضربة ساليغان" ودرب السلطان استقر في البداية بدرب "السبليون" في عمق درب السلطان، هذا الحي الذي كان منبت حركات المقاومة التي ألفى المهدي نفسه منخرطا فيها بفضل صداقاته المبكرة للعديد من رموزها منهم لحسن الكلاوي الذي كان وراء إذكاء روح الحماس الوطني الذي بدأ يتفتق في نفسية المهدي الناموسي. لم تكن الأحداث التي عاشتها مدينة الدار البيضاء، خاصة ما يتعلق منها بحدث "ضربة ساليغان" وهي المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها المئات من أبناء حي درب الكبير، وغيرها من الأحداث التي تلتها، لتمر دون أن تترك الأثر العميق في نفسية المهدي الناموسي الذي كان حينها فتى يافعا تصله أصداء ما كان يتعرض له المغاربة من قمع شديد، أو يعاين بنفسه فصول الذل والهوان. أتيحت للمهدي الناموسي فرصة التعرف على شخصين الأول يدعى عبد الرحمان بنموسى والثاني خليل بلحسن، اللذان مكناه من التعرف على لحسن الكلاوي الذي كان حينها أحد مسؤولي حزب الاستقلال بالدار البيضاء. وعن طريق الكلاوي تشرب الناموسي مبادئ الوطنية، وكان كثيرا ما يصحبه، إلى بعض الاجتماعات التي تقيمها خلايا الحزب بالبيضاء، خاصة بمنطقة درب السلطان، إلى أن وجد المهدي نفسه في خضم النقاشات التي كانت تثار داخل تلك الاجتماعات. ويواصل الناموسي حديثه معتبرا أن أبرز حدث جعل انخراطه في حركة المقاومة ينتقل إلى مرحلة أخرى أكثر تطورا، هي الأحداث المرتبطة بحركة التضامن الواسعة مع تونس بعد اغتيال زعيمها النقابي فرحات حشاد، وكان نداء التضامن قد صدر عن مجموعة من النقابيين المغاربة يوم 8 نونبر سنة 1952، إلا أن سلطات الحماية حذرت من مغبة خوض أي إضراب، وكان ذلك عبر إطلاق مجموعة "براحة" شرعوا يجوبون "كاريان سانطرال" باعتباره يضم أكبر تجمع عمالي. بمجرد ما نفذ المغاربة تضامنهم مع فرحات حشاد، شرعت سلطات الحماية في عمليات تقتيل جماعي في حق سكان كاريان سانطرال، إضافة إلى اعتقال مئات المتظاهرين، فضلا عن مجازر أخرى بطريق مديونة في حق مشيعي قتلى الأحداث نفسها. تعرض الناموسي للاعتقال على خلفية أحداث التضامن وأودع سجن "اغبيلة" لمدة 3 أشهر ذاق فيها، أصنافا شتى من التعذيب على يد البوليس الفرنسي وأعوانه من المغاربة. ولدى مغادرته السجن، حضر الناموسي اجتماعا حزبيا مصغرا ضم كلا من عبد الرحمان بن موسى ولحسن الكلاوي وآخرين، وكانت الخلاصة التي خرج بها الجميع من ذلك الاجتماع، هو تغيير استراتيجية العمل في ظل الشلل الذي دب في أوصال الحزب، بعد اعتقال ونفي عدد كبير من قادته، وتلك كانت الإرهاصات الأولى لميلاد منظمة "الهلال الأسود". العملية الأولى حضر المهدي الناموسي اجتماعا للنواة الأولى لمنظمة "اليد السوداء" بقبو تابع لبيت لحسن الكلاوي بدرب السلطان، بحضور مجموعة من الأسماء منهم أحمد الرباطي وعبد القادر بوخريص وشخص يدعى "بلحسين"، "وفي هذا اليوم قدم له لحسن مسدسا وأراه إياه قائلا "هذا سيكون لك" يقول الناموسي. وأكد أن منظمة "اليد السوداء" أسست في الأصل بالمدينة القديمة، إلا أن التنظيم بهذه الناحية لم يعمر طويلا حتى افتضح أمره، وتم تفكيكه قبل أن ينفذ عمليته الأولى، وتلك حكاية أخرى سنأتي على ذكرها. وكان لتنظيم "اليد السوداء" فرعان الأول بالمدينة القديمة، والثاني بدرب السلطان تحت الإشراف المباشر للحسن الكلاوي ومعه أسماء أخرى منهم المهدي الناموسي ومحمد الدكالي والعربي الخضار وأحمد مصدق وصالح عنكوش، قبل أن يلتحق آخرون بالتنظيم أبرزهم الشقيقان محمد وعبد الله الحداوي. وقال الناموسي "بدأت تظهر مناشير "المنظمة السرية" وكان لحسن الكلاوي يحثنا على نشرها في نقط وأماكن معينة، بمساعدة شخص يدعى "خليل بلحسين"، الذي كان يسلمنا المناشير، ويطلب منا توزيعها في درب غلف ودرب الكبير، وتعرفت خلال تلك الفترة على كل من بوشعيب الجزار وامبارك التدلاوي والزياني ومحماد المعروف بلقب "كرانفال". "وفي أحد الأيام نادى علي لحسن الكلاوي وقال لي إن هناك شخصا من عملاء الاستعمار في درب السبليون كان يجتمع عنده القياد والمعمرون ورؤساء الكوم، ويهيئ لهم جلسات السمر، فطلب مني تصفيته، وكانت تلك أول عملية أتكلف بتنفيذها". من "اليد السوداء" إلى "الهلال الأسود" شهدت تلك الفترة تناسل العديد من تنظيمات المقاومة المسلحة خاصة في الأوساط الحضرية، منها "أسد التحرير" و"جيش الأطلس" و"اليد الحسنية" ومنظمة "الكفاح الحق" و"أبطال الأطلس" و"شبان الفداء" ثم "المنظمة السرية" التي كان يرأسها الشهيد محمد الزرقطوني. إلا أن عمر المنظمة "اليد السوداء" بهذا الاسم لم يدم طويلا بعد أن تم تفكيك التنظيم بالمدينة القديمة عقب إلقاء القبض على أحد المقاومين من قبل البوليس الفرنسي، وهو يهم بتنفيذ إحدى العمليات قرب سينما "أوبرا" وسط المدينة، فأدى اعتقال ذلك المقاوم وخضوعه للتعذيب إلى افتضاح أمر بقية رفاقه بتلك الناحية، ما أدى إلى اعتقال ما يقارب 50 شخصا، وهو ما شكل ضربة موجعة إلى المنظمة بالمدينة القديمة، ما حذا ببقية أعضائها بدرب السلطان إلى اتخاذ الحيطة والحذر حتى لا يقعوا في الأخطاء نفسها. شكل التحاق الشقيقين محمد وعبد الله الحداوي بمنظمة "اليد السوداء" دفعة جديدة للمنظمة ودماء فتية ضخت فيها، خاصة أنهما أبديا حماسا شديدا للانخراط في عمليات المقاومة، رغم صغر سنهما، إذ كان يتراوح، حينها، بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة. وخلال وقت وجيز تمكن الشقيق الأصغر عبد الله من فرض اسمه واحدا من مؤسسي التنظيم الجديد الذي تحدر من المنظمة الأم وصار يحمل اسم "الهلال الأسود"، إذ كان وراء اقتراح الاسم الجديد، بغية تمييز التنظيم الجديد عن بقية منظمات المقاومة التي انتشرت في ذلك الوقت بمختلف أحياء الدار البيضاء، وكان التنسيق بينها جاريا بشكل أو بآخر. وصار الثلاثي لحسن الكلاوي والمهدي الناموسي وعبد الله الحداوي لا يفترقون في جل الأوقات، تجمعهم لقاءات عديدة كانوا يخططون فيها للعمليات الموجهة ضد المعمرين الفرنسيين أو المتعاونين معهم من المغاربة، فضلا عن الاتصال بباقي أعضاء منظمة "الهلال الأسود" والتنسيق معهم في هذه العمليات. نوعت منظمة "الهلال الأسود" أسلوب اشتغالها بين الاعتماد على وضع القنابل في أماكن محددة، أو اللجوء إلى أسلوب الاغتيالات المباشرة بواسطة الأسلحة البيضاء أو المسدسات. وتوسعت قاعدة منظمة "الهلال الأسود" وتضاعف عدد أفرادها بشكل صعب مأمورية حصر عددهم، في ما بعد، كما تصاعد معها عدد العمليات التي أبان فيها أعضاء المنظمة عن حس تنظيمي عال، ودقة متناهية في تنفيذ العمليات. ألقي القبض على المهدي الناموسي ولحسن الكلاوي نتيجة خطأ "إستراتيجي" في تنفيذ عملية استهدفت مهندسا يدعى "ماري" ونجا منها الأخير، اقتيدا إلى كوميسارية المعاريف، حيث بدأت معهما الشرطة الفرنسية فصولا من التحقيق والاستنطاق المصحوب بشتى أنواع التعذيب، وما جدّ في أساليب انتزاع الاعترافات. ولم تفلح الأساليب التي استخدمتها الشرطة الفرنسية طيلة شهر مع الناموسي والكلاوي في انتزاع اعترافات ذات أهمية كبرى، إذ لم يعترفا إلا بثلاثة أسماء، هم عبد الله الحداوي وبوشعيب الجزار والزياني. وأحيلا بعد ذلك على المحكمة العسكرية، وتم إيداعهما سجن "اغبيلة"، حيث سيلتقيان في ما بعد بأعضاء من المنظمة السرية منهم حسن العرايشي ومنصور والفقيه البصري. الفرار من السجن والابتعاد التدريجي ولم يقض الناموسي والكلاوي بالسجن سوى بضعة أشهر، إذا تمكنا من الفرار متنكرين في أزياء نسائية، بالتنسيق مع أحد حراس السجن، يدعى عبد القادر لكحل، وكان ذلك خلال نونبر 1955. لكن تلك الأشهر التي غابا فيها عن منظمة "الهلال الأسود" كانت كافية، ليكتشفا بعد ذلك أن هناك تغييرات كثيرة طرأت على المنظمة، بعد أن انفرد الشاب عبد الله الحداوي بإدارة شؤونها، إذ انضم إليها أعضاء آخرون وجماعات أخرى من مختلف مناطق المغرب مجهزة بمختلف الأسلحة، كما بدا لهما أن المنظمة صارت أكبر منهما. في تلك الفترة حافظ المهدي الناموسي على مسافة اضطرارية بينه وبين المنظمة حتى لا يصطدم بمجموعة من رفاقه فيها، كما بدا له أن هناك أمورا غير عادية، حسب قوله، إلا أنه مع ذلك ظل عضوا قياديا فيها تحت إلحاح بقية الأعضاء. وبدأت تظهر في تلك الآونة مواقف صريحة لمنظمة "الهلال الأسود"، بشأن المفاوضات التي كان يجريها قادة الحركة الوطنية مع الفرنسيين بشأن عودة محمد الخامس. وبمجرد ما حصل المغرب على الاستقلال وبدأت حرب "ترتيب المواقع"، وجدت منظمة "الهلال الأسود" نفسها ضحية حملة شعواء، بهدف حلها أو تصفية جل أعضائها القياديين، وهو ما تم فعلا إذ تمت تصفية كل من عبد الله الحداوي ولحسن الكلاوي وآخرين، في ظروف شابها الكثير من اللبس، وكانت تعبيرا عن مرحلة غامضة من تاريخ المغرب بُعيد الاستقلال.

الناموسي.. دينامو الهلاليين

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إيقاف أكبر تاجر مخدرات بالداخلة

التمثيل بالجثث... جرائم بشعة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات