استعادة لملامح أسطورة ناس الغيوان الذي أرسى دعائمها في ذكرى رحيله حلت أمس (الخميس) الذكرى التاسعة والأربعون لرحيل الفنان بوجمعة أحكور الشهير ب"بوجميع"، أحد أعمدة تجربة "ناس الغيوان" وواحد من مؤسسيها. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" ملامح من شخصية هذا الفنان الأسطوري الذي اختطفه الموت في ربيع شبابه، على لسان رفاقه في مجموعة ناس الغيوان التي ساهم في إرساء هويتها الغنائية. إعداد: عزيز المجدوب ينساب صوته حادا معتقا في مواويله التي كانت تتخلل أغاني البدايات لمجموعة "ناس الغيوان". رغم أن هذه التجربة الغنائية ارتكزت على الطابع الجماعي إبداعيا، إلا أن صوت بوجميع ظل عصيا على الانتظام ضمن أداء المجموعة، إذ سرعان ما تميزه الأذن وهو يروم الانفلات من طوق الجماعة، معلنا عن حضور فردي متميز، وكأنه كان يريد أن يوثق مروره الخاطف والمؤثر في الحياة والفن. لم يكن عمر بوجميع يتجاوز الثلاثين، لحظة فارق الحياة، وكان مقامه في الدنيا قصيرا، لكن أثره قارب نصف قرن بعد رحيله، إذ ما زالت شخصيته تحيطها هالة أسطورية، مفتوحة على كل التأويلات، كما هو شأن إشراقاته الإبداعية نصا ومعنى، وأيضا فاجعة رحيله مبكرا. ارتبط اسم بوجميع باللحظات المؤسسة لتجربة ناس الغيوان، والمجموعات الغنائية بشكل عام، وشكلت إسهاماته في هذا المتن، حجر الأساس الذي سارت على دربه مجموعة قلبت كيان النغم في المغرب، واختطت لنفسها ولمن لحقها، طريقا تصالحت فيه الأذن مع إيقاعات ونبض المغرب العميق والمتحول. "الحلاقي" المدرسة الأولى ولد بوجميع سنة 1944، بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء، وتابع دراسته الابتدائية بمدرسة الاتحاد، التي شيدها أهالي المحمدي في ذلك الإبان، بعد ذلك انتقل إلى ثانوية الأزهر وهي الثانوية الوحيدة التي كانت معربة في تلك الفترة وكان يدرس بها أساتذة مشرقيون. يتحدر بوجميع من أسرة فقيرة كانت تقطن بالقرب من مكان يسمى آنذاك "الشانطي ديال الشابو"، وهو مكان أشبه بساحة جامع الفنا، ففيه تلتقي مجموعة من الفرق الموسيقية كل يوم أحد. ومن هذه الفرق : فرقة أحواش، الكدرة، هوارة، عيساوة، أقلال … فيخرج الناس لمشاهدتها وكان بوجميع دائم الحضور إلى هذا المكان الذي يضم أيضا أصحاب "الحلاقي". يقول عنه رفيق دربه الفنان عمر السيد إن بوجميع، كان في طفولته ماهرا في لعبة كرة القدم، إذ كان يلعب إلى جانب الغزواني، اللاعب الدولي السابق، بفريق عتيد آنذاك يسمى "فريق الثبات"، كما كان بوجميع زئبقيا في طريقة لعبه، إذ كانت مهاراته تجذب المتفرجين الذي يشاهدون مباريات الأحياء بالحي المحمدي. وكشف قيدوم وعراب مجموعة ناس الغيوان أن الراحل العربي الزاولي مدرب فريق الاتحاد البيضاوي عرض على بوجميع الانضمام إلى الفريق، لكن شغفه بالفن كان أقوى من انشغاله بكرة القدم. أما عند بداياته الفنية فقد كانت سنة 1963، إذ أسس بمعية مجموعة من رفاقه من أبناء الحي المحمدي فرقة مسرحية تسمى "رواد الخشبة"، وكان من بين أعضائها الفنان عمر السيد، وقد ألف بوجميع لهذه الفرقة مجموعة من النصوص المسرحية التي أدتها مثل "المسمار"، و"فلسطين"، و"الحاجة كنزة" وغيرها. التحق بوجميع بفرقة المسرح البلدي التي كان يشرف عليها الفنان الطيب الصديقي، وقد شارك بوجميع في أشهر مسرحياتها، مثل "سيدي ياسين في الطريق" و"عبد الرحمن المجذوب"، وأيضا "الحراز" وغيرها. شكلت التجربة المسرحية لبوجميع ورفاقه مع الطيب الصديقي، مشتلا تشبع به أفرادها بفكرة إعادة تأصيل الأشكال التراثية والفرجوية مسرحيا، وهي الوصفة التي طبقها أعضاء مجموعة ناس الغيوان في مجموعتهم، التي ستتشكل على مراحل وبأسماء مختلفة منها "الدراويش الجدد"، قبل أن تستقر على اسم "ناس الغيوان" وتظهر أمام الناس في مطلع السبعينات. باكو: طاقة إيقاعات في مذكراته التي كتبها الزميلان العربي رياض وحسن حبيبي بيومية "الاتحاد الاشتراكي" (صيف 2001) كشف الفنان الراحل عبد الرحمن باكو عن جوانب من علاقته بالراحل بوجميع قائلا "كنا أثناء جلساتنا الخاصة بشقة المجموعة، نستمتع كثيرا بما يقدمه لنا بوجميع من نكت واقتراحات فنية وغيرها، كان هذا الرجل غريب الأطوار، ذا قلب كبير وجلساته كلها مرح وعمق فني نادرا ما تجده الآن". وأضاف "كنت أنظر إليه بإعجاب وتقدير كبيرين، إذ كيف لهذا الرجل صاحب هذه البنية القصيرة، أن يفضل النقر على آلة "الهراز" وهي آلة ثقيلة، ولا يمكنها إلا أن تزعج أداءه، لكن مع ذلك، كان يعطيك إحساسا بأنها تشكل مكونا أساسيا منه، ولا تشكل له أدنى عائق، بل كنت تراه منتشيا أثناء عزفه عليها وكله حبور وفرح. أتذكر أنه في آخر حفل له معنا بمدينة القصر الكبير، وبينما كان المرحوم ينقر بحيويته المعهودة على الهراز، إذ بجلد هذا الأخير، يُمزَّق، وكأنه يودعه الوداع الأخير بدوره. بعد عودتنا بيومين أو ثلاثة أيام سيغادرنا بوجميع إلى دار البقاء". وتابع "كنت كلما رأيته ينقر على الهراز، أتساءل مع نفسي: عجبا، كم كنت أبحث عن الإيقاع الحمدوشي والعيساوي، وهذا الرجل، رغم أنه ولد وعاش بالحي المحمدي، يعرف كل هذه الإيقاعات، فمن أين يا ترى تعلمها وأين سمعها؟ لقد كان، بحق، تحفة نادرة لم يجد بها الزمن. كانت له طاقة غريبة على الاستماع والإنصات لإبداعات الآخرين. وبوجميع، إذا أردت أن تعرفه بحق، يجب أن تجالسه ليلا، فهو كائن ليلي يعشق السهر. لم يسبق له أن طلب مني خلال هذه الجلسات أن أعزف أو أغني شيئا معينا، بل كان يترك لي كامل الحرية في أن أفعل ما أشاء. هذا ما أثارني في هذا الرجل الغريب الذي مر من حياتي كالحلم الجميل". علال: خزان للأهازيج والفنون الشعبية يقول علال "لم يكن بوجميع فنانا عاديا، جمعتني به الظروف منذ الطفولة ودرسنا معا بالفصل نفسه، بل بالطاولة نفسها خلال المرحلة الابتدائية، رغم أنني كنت أكبر منه بثلاث سنوات. كان مزيجا من الطيبة والعفوية والانفعال، ويمتاز بذاكرته القوية التي كانت تحفظ الكثير من الأهازيح والفنون الشعبية والإيقاعات والميازن والقصائد، فضلا عن صوته الأخاذ الذي شكل به مع العربي باطما ثنائيا فنيا لا مثيل له. ويضيف "كان حضور بوجميع قويا داخل المجموعة وكان قلمه ثوريا. شعرنا لحظة فجعنا برحيله بتصدع داخل المجموعة اعتقدنا معها أننا انتهينا، لولا أن تماسكنا واستجمعنا قوانا لنستمر بعده بصعوبة". ويحكي علال عن تفاصيل لقائه الأخير مع بوجميع قائلا "كانت آخر سهرة شارك فيها معنا المرحوم بمدينة القصر الكبير، وأذكر ليلتها أنني كنت جالسا معه في الكواليس، في فترة الاستراحة، فإذا به يتقيأ دما، وهو الأمر الذي أفزعه كثيرا لكنني هونت عليه وقلت بأن لا يكثرت، لعلها مشاكل المعدة التي كان يعاني قرحتها منذ سنوات، لكنه لم يكن يمتثل لنصائح الأطباء، لكن لا شيء يستدعي القلق، وهكذا تحامل على نفسه وأكمل السهرة معنا كأن شيئا لم يكن". ويتابع "ليلتها لم نبت بالقصر الكبير، عدنا مباشرة إلى البيضاء فقصد كل فرد منها منزله، بينما توجه بوجميع إلى الشقة التي كنا نتدرب فيها بحي روش نوار، إلى أن استفقت على صوت العربي باطما وهو يوقظني من النوم وهو في حالة انهيار "وا نوض را صاحبك مات". لم أصدق الأمر بدا كأن الأمر كابوس تمنيت أن أفيق منه، لكن هيهات لم أفق إلا على الحقيقة المفجعة وهي أن بوجميع باغته الموت واختطفه منا يوم 26 أكتوبر 1974". ويردف علال "كثرت الأقاويل حول أسباب وفاة بوجميع ما إذا كانت طبيعية أم بفعل فاعل، لكن المرحوم عانى في سنواته قرحة معدية حادة، "وما كانش كايتكايس على راسو" وهو ما عجل بوفاته مبكرا ليخسر المغرب واحدا من مبدعيه الاستثنائيين. لا يمكن اتهام أي جهة سيما أن والدة بوجميع رفضت تشريح جثمانه راضية بقدر الله وقدره، وهو الأمر الذي امتثلنا له جميعا". بدا المستقبل غامضا أمام أفراد "ناس الغيوان"، سيما أن بوجميع كان إحدى ركائز المجموعة، بل إن اليأس دب في نفوس رفاق علال، لولا أنهم قرروا أن يستثمروا حزنهم ولوعتهم على رفيقهم في أغنية رثائية تعد من أقوى ما غنت المجموعة وهي رائعة "والنادي أنا"، التي غنتها المجموعة في أربعينية بوجميع التي أحيتها بسينما السعادة بالحي المحمدي، بمشاركة بقية المجموعات منها "لمشاهب"، التي رثته بأغنية "هاذ الشي مكتوب والأجل وفاه".