فنان مخضرم من جيل الرواد كاد يطويه النسيان ينتمي الفنان حميد شكري غنائيا إلى جيل النصف الثاني من الستينات، ولمع اسمه أكثر خلال السبعينات والثمانينات، مطربا وملحنا يتحدر من الزمن الغنائي المغربي الجميل، الذي اختار هذا الفنان أن يظل موصولا بكل ما في هذا الزمن من عناصر جمالية، دون أن يفقد الصلة بما يعتمل في محيطه الحالي. في هذا الخاص نستعيد جوانب من مسار فنان كاد يطويه النسيان رغم أنه ما زال حيا بين ظهرانينا، وأغنى الخزانة الغنائية بعشرات الأغاني التي حققت شهرة كبيرة في وقتها مثل "على حلاوة وجمال" و"على شطك يا بحر" و"حكاية قلب" وغيرها. إعداد: عزيز المجدوب إيقاع حياته الهادئ يكشف نزوعا رومانسيا متأصلا في نفس هذا الفنان الذي اختار الانزواء إلى الظل مراقبا مهازل الوضع الفني ببلادنا، ومحافظا على علاقته الذاتية بالفن. بوداعة فنان رومانسي قبِلَ حميد شكري أن تقتحم "الصباح" عالمه الخاص ففتح بيته وقلبه لها، وهو الزاهد في كل تهافت على وسائل الإعلام التي أشاحت بوجهها عنه، وتنكرت لكل عطاءاته للفن المغربي حتى كاد اسمه يقتصر على نخبة معينة ما زالت ترى فيه ممثلا لمرحلة مميزة من تاريخ الأغنية المغربية. في إحدى المقاهي الشهيرة بإقامة "نادية" بالدار البيضاء كان اللقاء مبدئيا، في الوقت المحدد بالتمام، أطل حميد شكري بقامته الفارهة وسمرته المحببة التي جعلت ملامحه أقرب إلى شخصية خارجة من عمق الحواري المصرية، ولعل هذا ما جعل أصدقاءه يشبهونه بالمطرب المصري علي الحجار، والحق أن الأخير هو الذي يشبه شكري في الملامح وليس العكس. بعد أن احتسى قهوته، طلب شكري، بأدب جم، أن ننتقل إلى شقته حتى "نأخذ راحتنا" في الحديث. وقبل أن يغادر نظر بتأثر بالغ إلى ركن في المقهى وهو يقول "هنا كان المرحوم حسن المفتي يختار مكانه الأثير، لم أعد أستطيع أن أتردد على هذه المقهى كثيرا لأنها تذكرني بصديق عزيز سرقته منا المنون". كانت الشقة على بعد أمتار قليلة من المقهى، أناقتها وأسلوب تأثيثها يشيان بأنها فعلا شقة فنان، ولمسة "مولات الدار" وزوجة المبدع حاضرة في كل أرجاء المكان، إضافة إلى لمسة أخرى لابنة شكري من خلال لوحة تشكيلية بديعة معلقة في الصالة قال إنها من توقيعها، ألم أقل لكم إنها "شقة فنان" والمثل يقول "ابن البط عوام" ولو سبح في مياه أخرى غير التي سبح فيها الأب، المهم أن الموسيقى والرسم ثبت حضورهما في هذا المكان، ولعل مجالات إبداعية أخرى حاضرة أيضا، من يدري؟ لعلها أسرة شكري وحدها تعلم. طفولة بوشنتوف في سياق الحديث في العموميات الذي يستهل به عادة كل حديث، ونحن نقلب ألبوم الصور، وذلك كان متعمدا حتى تنتعش ذاكرة حميد شكري المتقدة على الدوام، قفزت إلى ذهنه أغنية نادرة لعبد الحليم حافظ بعنوان "خليك معايا"، لم يتردد في إحضار آلة العود، وشرع في تأديتها بصوته الدافئ والهامس الذي لم يفقد شيئا من نضارته، وأسلوب عزفه المميز في مغازلة أوتار العود. بعد أن انتهى من الأغنية ازدادت ملامح حميد شكري انشراحا وهو يتذكر حقبة من عمره، ويرسل تنهيدة عميقة ولسان حاله يقول "آه ما أجمل تلك الأيام"، كانت هذه اللحظة فرصة سانحة لأمارس "لعبة التذكر" مع شكري، الذي عاد بذاكرته إلى سنوات الطفولة بحي درب السلطان البيضاوي العريق. رأى حميد شكري النور سنة 1947، تحديدا بدرب بوشنتوف، إنها الحارة ذاتها التي ترعرع فيها محمد الحياني وثريا جبران ومحمد الخلفي وعصفور، أما إذا شئنا التوسع أكثر في ما أنجبه درب السلطان عموما فلن ننتهي. لم يكن هناك شيء مميز في سنوات الطفولة الأولى بالنسبة إلى حميد شكري، إذ كان طفلا خجولا وانطوائيا، لم يكن أحد يعتقد أن داخل هذا الطفل فنان قابع يتحين الفرصة ليعلن عن نفسه أمام الملأ، حتى الأنشطة المدرسية التي كان يغني فيها التلاميذ في المناسبات الوطنية وغيرها، لم يكن حميد فيها سوى متتبع ومستمع كما يؤكد بذلك. كان لدخول "آلة التسجيل" بيت الأسرة عن طريق الشقيق الأكبر، وقع خاص في نفسية الطفل حميد شكري، فقد وجد ضالته في هذه الآلة التي مكنته من الاستماع بروائع الطرب السائد آنذاك، وكانت له ذاكرة موسيقية مكنته من تخزين عشرات الأغاني، في سن مبكرة، والتي كان يرددها بين نفسه، في أماكن خالية يختارها للغناء خلسة. وجد شكري نفسه منجرفا وراء عشقه الطارئ للموسيقى الذي ملك عليه كيانه، فدخل إلى معهد الموسيقى منتصف الستينات، وكان من زملائه في المعهد محمد الأشهب والحاج يونس وفؤاد بنيس. وتتلمذ حميد على يد الفنان المخضرم سليمان شوقي. كانت نوعية الأغاني التي تستهوي حميد شكري آنذاك لنجوم الطرب الشرقي الصاعدين خلال عقد الستينات، أمثال ماهر العطار وكمال حسني ومحرم فؤاد، دون الحديث عن الرواد أمثال عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم. وكان أول ظهور لحميد شكري على شاشة التلفزيون المغربي، منتصف الستينات، وهو يغني رائعة "لا تكذبي" لمحمد عبد الوهاب، بمرافقة عود زميله محمد الأشهب، وكان المذيع الراحل محمد بناني اقتنع بأدائهما فقرر تقديمهما لجمهور التلفزيون. أخذت شهرة حميد شكري تنتشر تدريجيا باعتباره واحدا من أبرز مقلدي نجوم الطرب الشرقي، إلا أن هذا الوضع لم يكن يروقه كثيرا فشرع في تأليف وتلحين أولى أغنياته وكانت بعنوان "لمن ذيك النظرة". السقاط وألحان البدايات أما البداية الفعلية لحميد شكري فكانت مع المبدع الراحل عبد الرحيم السقاط الذي ثبت قدمي المطرب الصاعد، آنذاك، بمجموعة من الألحان التي فرضت اسمه لامعا إلى جانب رموز الجيل الثاني للأغنية المغربية منهم عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط والحبيب الإدريسي والطاهر جيمي وغيرهم. وكانت أولى القصائد التي لحنها السقاط لشكري هي أغنية "حكاية قلب" وهي من كلمات محمد العراقي وتوالت قطع أخرى منها "يا حبيبي" و"حرمان" و"ندم" و"عيونك" ورائعة "على حلاوة وعلى جمال" التي أعلنت ميلاده نجما غنائيا. وواصل حميد شكري مساره بالاعتماد على ألحانه الخاصة فأثبت نفسه ملحنا مقتدرا من خلال العديد من الأغاني التي تعامل فيها مع كل من الراحل حسن المفتي الذي قدم له أغنية "وقتاش نلقاك"، كما شكل شكري رفقة الشاعر الغنائي ميلود عنبر ثنائيا متميزا أثمر العديد من القطع الناجحة أشهرها "على شطك يا بحر"، ولم يمنعه هذا من التعامل مع ملحنين آخرين منهم الحبيب الإدريسي وعبدو العماري وإبراهيم العلمي. كما قضى حميد شكري فترة قصيرة بالولايات المتحدة الأمريكية مكنته من الانفتاح على آفاق إنسانية وحضارية أخرى، أغنت تجربته الفنية والإنسانية، لكن انعطاف المشهد الغنائي المغربي نحو الوضع الذي آل إليه حاليا، والذي بدأت مؤشراته تلوح منذ نهاية الثمانينات نحو تكريس أنماط موسيقية بعينها أغرقت الساحة رداءة، فرض على حميد شكري وجيله من المبدعين، الانزواء إلى خلف حتى لا يساهموا في جريمة قتل الأغنية المغربية العصرية التي باتت في النزع الأخير من عمرها. لحميد شكري رصيد غنائي يناهز ستين أغنية، كما لحن للعديد من الأصوات منها سعاد محمد ونادية أيوب وبشرى غزال، وما زالت في نفس حميد شكري أشياء من حتى، ومازالت في الوتر بقية. الأشراقي: شكري مظلوم إعلاميا كتب الفنان وعازف العود محمد الأشراقي شهادة خص بها "الصباح" عن الفنان حميد شكري، قال فيها إنه "صوت غنائي طروب عانق الأثير بداية السبعينات فشدنا إليه بعذوبته ونقائه ونحن ما زلنا ندرس بالإعدادي ..فأعجبنا بأغنيته" تلاقاني الزين" التي كنا نرددها باستمرار ثم جاءت قصيدته" تعالى إلي" ذات اللازمة الرائعة التي تقول:" وحين تعانق كفك كفي/ أحس بقلبك بين يدي وطرفك رغم التمنع دوما/ يبوح بشيء ويكتم شيء". ونتذكر كيف كان يعزف جوق الدار البيضاء هذه الجمل الموسيقية ويرافق المطرب حميد شكري بكل انصهار وانسجام وقوة في الأداء، فكانت تمر على شاشة التلفزيون، الذي كان حينها بالأبيض والأسود باستمرار مكننا من حفظ اللازمة الشعرية الرائعة، وبحكم توفره على صوت دافئ استمع إليه الفنان المبدع المرحوم عبد الرحيم السقاط فأطربه واقتنع به وأسند له أغنيتين جميلتين هما "عيونك ليلي ونهاري" ثم أغنية "على حلاوة وعلى جمال". في مرحلة السبعينات دائما أذكر أنه عند مطلع كل فصل صيف حيث كنا نرتاد شاطئ طنجة فكان صوت حميد شكري يصدح عبر الأثير من المذياع الصغير الذي كان المصطافون يحملونه معهم بقطعته" على شطك يابحر" كانت تذاع طيلة فصل الصيف وبشكل شبه يومي لان كاتبها الزجال عنبر ميلود أجاد كتابتها وأبدع حميد في تلحينها وأدائها...حيث كانت تصور بدقة أجواء الاصطياف والبحر. ثم جاءت قطع أخرى مثل " وقتاش نلقاك " التي صورت بطريقة الفيديو كليب، وهي من كلمات الشاعر الغنائي الكبير المرحوم حسن المفتي. تتبعت مسيرة هذا الفنان المبدع باهتمام خصوصا أن دار الإذاعة والتلفزيون كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي تدعم مثل هذه الأسماء المتميزة بشكل أتاح لنا فرصة التعرف على تجربة كل الأصوات ومنها طبعا حميد شكري، والذي حرمنا الإعلام خلال السنوات الأخيرة، من الاستمتاع بصوته الطروب وغنائه الذي يمتاز بفصاحة نادرة على مستوى مخارج الحروف ومستوى أداء الأنغام بدقة".