ليـل النازحيـن… سفـر مؤقـت

وعاء زاخر بالقصص والحكايات وسعادة مرتجفة وكوابيس تطارد ناجين من الفاجعة أمزميز مدينة التسامح الديني والطبيعة والتاريخ، حوّل الزلزال أغلب منازلها، وبناياتها الحديثة إلى ركام، يشهد على زلزال مدمر، فكان أن هام سكانها في الأرض، واتخذوا من المخيمات مأوى لهم.. «الصباح» قضت ليلة الأربعاء/ الخميس، في مخيمات النازحين، وعاشت فصول ليلة طويلة تكاد لا تنتهي. خيم صغيرة لكنها مليئة بالتفاصيل، ولكل خيمة رواية، ولكل زاوية من تلك الخيم حكاية، تشبه قصص ألف ليلة وليلة. ليلة بين أهالي أمزميز في مساكنهم الجديدة، التي فرضتها طبيعة الظرفية، تجعلك تخترق سلسلة جبال الأطلس، وتأخذك في رحلة سريعة، تقلب فيها صفحات من تاريخ مدينة، وتستعيد وأنت تنصت بإمعان إلى رجال ونساء أخذ منهم الزمن مأخذه، حكايات جميلة عن منطقة كانت تخترقها الوديان، وتعانق الخضرة حقولها طيلة فصول السنة. وأنت تنصت لحكايات عن تاريخ المدينة ومآثرها، يحدث أن يقاطع أحد الآخر لاسترجاع شريط ذكرى لازالت تسيطر على الأهالي. ذكرى الفاجعة الأليمة، التي قلبت حياة أمزميز رأسا على عقب.. إنجاز: محمد العوال (موفد الصباح إلى إقليم الحوز) كان هاجس قضاء ليلة بين سكان المخيمات يطاردنا، لكن كثرة الحركية والزوار، أجلت قضاء ليلة ليست كباقي الليالي. كانت الساعة تشير إلى التاسعة من مساء الأربعاء الماضي، بعدما ربطنا الاتصال بالصديق حفيظ غشيق، وأخبرناه بقضاء الليلة هناك رفقة الأهالي بالمخيم، وانطلقت رحلتنا من مراكش.. لم يعد ذلك الاكتظاظ الذي كان يميز هذه الطريق، كما في الأيام الأولى التي تلت الزلزال، إذ مئات المركبات كانت تتوجه رأسا نحو أمزميز ومنه، نحو جماعات أخرى وراء أمزميز، حيث الدمار في كل مكان هناك. وحدها دوريات للدرك الملكي تنتصب على طول الطريق، وحافلة للنقل الحضري تتجه إلى هناك، حيث تقل بضعة مسافرين، أغلبهم يشتغلون بالقطاع الخاص بمراكش، ويعودون إلى ذويهم ليلا بالمخيمات. حدد لنا حفيظ مكان اللقاء بالقرب من المركز الترابي للدرك الملكي، وهناك التقيناه. مراحيض الكرامة تزامن وصولنا مع وصول شاحنة كبيرة محملة بمراحيض، عصرية متنقلة، يتم وضعها للأهالي في المخيمات.. كانت الفرحة تعلو محيا حفيظ، واكتشفنا ذلك في وجوه الكثيرين هناك، «فقد وضعت قبل يومين عدة مراحيض، منها لمؤسسة عقارية وأخرى للمجمع الشريف للفوسفاط، مراحيض أنهت معاناة الكثيرين». قد يرى الكثيرون، أن هذه المراحيض شيء عاد، لكن بالنسبة لنا نحن، فإنها هبة نزلت علينا من السماء، فكانت النسوة كلما رغبن في قضاء حاجتهن، اخترن فضاء مفتوحا، وتتوجه أربع أو خمس نسوة، ويغطين بعضهن البعض بغطاء صوفي حتى لا تنكشف عوراتهن، تقول وردة ذات 35 عاما. فجولة قصيرة بهذه المراحيض، التي تم تثبيت بعضها قرب مخيمات أمزميز، تبين ربطها بشبكتي الصرف الصحي والماء الشروب. ثقافة من رحم الأطلس السكان يفتخرون بتاريخ هذه الرقعة الجغرافية من إقليم الحوز، التي ظلت لعقود طويلة طي الإهمال والنسيان، من قبل مسؤولين، اختاروا الحروب الانتخابية والانقسامات، على إعداد برامج تنموية قادرة على أن تعيد لهذه المدينة بريقها الضائع بين دروب المنتخبين. الناس هنا بالمخيم، يختارون الجلوس خارج المخيمات، يتبادلون الحديث، في انتظار وجبة العشاء... الأطفال الصغار هم الآخرون يلعبون، ويتطلعون من حين لآخر لكل غريب قادم إلى المخيم.. من عاداتهم الترحيب بكل قادم إليهم، لا يهم سبب الزيارة، المهم أن يتقاسم معهم كأس شاي، ويدعونه إلى تناول وجبة العشاء.. عندما يدركون أنك لا تتحدث الأمازيغية، فإنهم يخاطبونك بالدارجة إلا من عجز عن ذلك، وفي هذه الحالة يتكفل واحد منهم بالترجمة، ولو أن الكلام غير موجه لك أو غير معني به، في صور تعكس ثقافة احترام الآخر.. ذكريات زمن ولّى «احماد»، رجل في الخمسينات من عمره، يسترجع شريط ذكريات مرت عليها قرابة ثلاثين سنة، بعدما كانت أمزميز منطقة خضراء.. حقول وبساتين تنبض بالحياة، وكانت معاصر الزيتون واحدة من أقدمها بمدخل أمزميز الجنوبي، تحولت اليوم إلى خراب وانمحت تلك الفضاءات الخضراء التي كانت تزين وجه أمزميز، يقول احماد. يقاطعه عبد الله، ويشير لنا إلى سقاية تقطع المخيم قبالة مركز الدرك الملكي «هذه كانت حتى في عز الصيف، تحمل الماء وتنقله إلى ضيعات هناك.. كان الخير وفيرا، لكن اليوم الجفاف يزحف على هذه المناطق.. «. الحكي.. المؤنس في النسيان نتناول وجبة العشاء، ونقوم بجولة وسط الخيم، فنجد بضع نسوة اجتمعن قرب خيمة، يتحدثن عن حياة خلف جبال عصيّة، ورجالا يتحدثون إلى بعضهم البعض، عن أشجار الزيتون القريبة من مخيمهم، الفتية منها، وحتى تلك الهرمة التي تتمايل مع الريح مثقلة بتعب السنين، بعدما أصبحت هذه الأشجار شاحبة وانسل التسوس إلى جذورها. هنا الحكايات، هي المؤنس في ليل المخيمات، فتراهم يتحدثون إلى أطفالهم وأفراد عائلاتهم وأقرانهم في القرية الغارقة في الأقاصي والنسيان، كأن قلوبهم مؤلفة بروح التفاهم والإصغاء المتبادل، لا يعكر صفوها، إلا هبوب رياح تبعث فيهم الخوف من نزول المطر.. المطر الذي كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، ويصلون لأجله صار اليوم كابوسا يطاردهم في هذه المخيمات. «المطر نعمة من الله، فهو الحياة في هذه القرى، لكننا اليوم نأمل ان ينحبس علينا، لأنه سيحول حياتنا إلى جحيم»، يقول رجل من القرية ذو لحية كثة، وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض، ربما استحياء، أو هكذا خيّل إلينا. وطنية من قلب المخيم بين حكايات الأرض والتاريخ، تنبعث من حين لآخر حكايات أخرى عن زلزال مدمر، ستذكره كتب التاريخ والإنسانية جمعاء، وأمة استثنائية، هبت لمساعدة المنكوبين، وتضميد جراحهم، وجيش كان في الصفوف الأمامية، لبعث الحياة من جديد، ودول أخرى، حاولت تلطيخ كل ما هو جميل في حادث زلزل النفوس والأرواح. فقبل يومين، يحكي سكان المخيم، كان وفد صحافي سويسري، قدم إلى المخيمات، لأخذ ارتساماتهم، ولأن هذا الوفد يتكلم لغة فرنسية، اختار الأهالي عدم التصريح، حتى تأكدوا أنهم أمام صحافيين سويسريين وليسوا فرنسيين. الحكاية وما فيها «أن لا يتحول الألم الذي يسكننا إلى تجارة رخيصة، وإلى استغلال سيء للأزمة، فنحن هنا نتابع كما العالم كيف يحاولون، استغلال كل سيء مهما صغر حجمه، وفتح باب جهنم إعلاميا على بلادنا»، يقول حفيظ، الذي تحدث إلى قناة سويسرية. فالسكان، يتحدثون بكل عفوية، ويبوحون بكل شيء بصدق تلمسه في أعينهم، التي تفيض أملا في الحياة، ويكشفون لك عن إعلام مر من هنا كان هاجسه الوحيد الإساءة لكل الجهود التي بُذلت. «نحن لسنا راضين عن حياتنا في المخيمات، أليس من حقنا أن نعيش في الأمكنة الأولى، أمكنة الطفولة، حيث الحنين، والأماكن تنطق بالأحداث والذكريات»، قبل أن يستدرك محدثنا محمد ذو 42 سنة، «لكن قدر الله أكبر». كوابيس ليلية الساعة تشير إلى الحادية والربع، بدأ كل واحد ينسل إلى خيمته، وبدت الحركة ثقيلة جدا في المخيم، وما هي إلا دقائق معدودة، حتى خيم السكون على المكان، في حين اتخذنا من السيارة المركونة على بعد أمتار قليلة من المخيم، غرفة للنوم... لا حركة قرب هذه المخيمات في تلك الليلة، سوى سيارتين لمركز الدرك الملكي، اتجهتا نحو مخيم القوات المسلحة الملكية، وعادتا بعد بضع دقائق... هنا اكتشفنا أن الليل يمر طويلا على سكان هذا المخيم، وترى الحياة تلقي بكل ثقلها هنا بين الخيم، ويبحر سكانها في ظلمات محتدمة بالكوابيس... كان صراخ امرأة قادما من داخل إحدى الخيمات... نرقب من زجاج السيارة، خروج نسوة الخيمة، ويتوجهن نحو إحدى الغرف بداخل المخيم، قبل أن يعدن إلى خيمهن... يخرج عبد الله ، فنتوجه نحوه «هل الأمور بخير؟»، يضحك بعد أن فرك عينيه والنوم يغالبه، «عاد، فنحن تعودنا على ذلك، إنها امرأة مسنة، تطاردها كوابيس ليلة الفاجعة، الكثيرون هنا يصرخون. لا ينامون، والأطفال هم الآخرون يتبولون في الفراش، إنها آثار الفاجعة». لازال وقت الصبح يا بني،يقول عبد الله، ويشير إلينا بالعودة إلى السيارة لإتمام النوم، وهو يطمئننا أن الوضع عاد جدا. انبلاج الفجر... بداية يوم جديد بعد أذان الفجر بنصف ساعة تقريبا، تبدأ الحياة تنبعث من خلف الخيم، فتخرج النساء لإعداد فطور الصباح.. حساء وقهوة وقطع خبز وزيت زيتون.. ينهض سكان المخيم تباعا، منهم من يحملون قارورات من سعة خمسة لترات لجلب الماء، وآخرون يقومون برش الماء أمام الخيم، وأطفال يستعدون للتوجه نحو المدارس التي أنشئت لهم، بعدما تضررت المؤسسات التي كتنت تستقبلهم.. يدعونا باالعربي للفطور، وقد سبق حفيظ، فنبادره «صباح سعيد أبا العربي»، فيرد صباح الخير، وما أن ارتشف رشفة أولى من كأس قهوة الصباح، حتى التفت، قائلا «أي صباح يا ولدي، نحن كل صباح نمضي الى المجهول، فلا شيء يملأ يومك، ولا محطة ستصل إليها قدماك، هنا الخيام تشبه بعضها البعض، والحكايات نفسها تتشابه، وأحاديثنا نعيدها مرات ومرات.. هي نفسها نواسي بها أنفسنا».. لا شيء يحزن القلب بينما كنا نستعد لمغادرة المخيم في حدود الثامنة من صباح أول أمس (الخميس)، كان رجل يبدو أنه تجاوز الخمسين بقليل، يقف على قارعة الطريق أمام الخيم المنصوبة، يحمل طائرة ورقية بيده، يديرها يمينا ويتابع دورانها، وكلما اقتربت من التوقف أعاد دورانها، اقتربنا منه وألقينا عليه التحية فرد بمثلها، وقال «لابد للحياة أن تدور، فهذه الطائرة كلما حركتها أو هبت ريح تحركت وبدأت في الدوران، والناس هنا تساعدنا لتعود الحياة إلى الدوران»، ونادى على طفل صغير وسلمه الطائرة، وانصرف، بعد أن قال «لا شيء يحزن القلب، الحياة ستدور» وانصرفنا نحن بعد قضاء ليلة في المخيم.

ليـل النازحيـن… سفـر مؤقـت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

منظومة‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭..."‬حي‭ ‬على‭ ‬التحول‭"‬

لقطات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات