أول امرأة مغربية تقود طائرة راحت ضحية اغتيالات فجر الاستقلال "ثريا الشاوي" اسم بوقع خاص لدى مغاربة الخمسينات، الذين ارتبط لديهم بشابة جسدت صورة من صور "النبوغ المغربي" بصيغة المؤنث، وارتبطت في ذاكرة المغاربة بفتاة مقدامة كانت لها الجرأة في اقتحام مجالات لم تكن في متناول "الرجال" المغاربة أنفسهم. فتاة فعلت كل شيء مبكرا بما فيه رحيلها الفجائعي في ظروف غامضة لم تنجح في تحديد ملابساتها الشهادات التي تناسلت خلال السنوات الأخيرة متناولة تلك المرحلة الحساسة والانتقالية من تاريخ المغرب. إعداد: عزيز المجدوب من يتأمل في سيرة "ثريا الشاوي" وما خلفته من ذكر طيب لدى المغاربة، ومن يطلع على جزء مما أنجزته خلال حياتها القصيرة، يصعب عليه التصديق بأن هذه الفتاة التي تمكنت من نحت اسمها في ذاكرة المغاربة، رحلت عن عالمنا ولم يتجاوز سنها الثامنة عشرة. نعم في سن الثامنة عشرة، وقعت ثريا الشاوي على مسار حافل يعادل أضعاف سنها، برهنت فيه على أنها كانت فتاة استثنائية بكل المقاييس، وأنها تنتمي إلى زمرة العباقرة والمشاهير الذين رحلوا في سن مبكرة أمثال أبي القاسم الشابي (25 سنة)، وجيمس دين (24 سنة)، وبوجميع، عضو مجموعة ناس الغيوان (30 سنة)، ومحمد الزرقطوني (27 سنة) وغيرهم. ثريا الشاوي اغتيلت يوم فاتح مارس سنة 1956، أي خلال التباشير الأولى لاستقلال المغرب، والبلد أحوج ما كان إلى كل طاقاته وأبنائه خاصة المتعلمين والنابغين منهم، خاصة أن خيار الاستقلال معناه كذلك التخلص من الوصاية الفرنسية، والاعتماد على الموارد البشرية المغربية التي كانت، حينها، عملة نادرة. ذكاء مبكر برز اسم ثريا الشاوي خلال السنوات الأولى لعقد الخمسينات، باعتبارها واحدة من الفتيات النشيطات، وأثارت الطفلة ثريا انتباه الجميع بفضل المؤهلات التي توفرت عليها. وظهرت مخايل الذكاء على الشاوي منذ سن مبكرة، بعد أن رأت النور يوم 14 دجنبر سنة 1937 بحومة "القلقليين" بمدينة فاس، وسط أسرة متشبعة بقيم الثقافة العصرية التي بدأت حينها تتسلل إلى البيوت المغربية. وظهر تشبث الطفلة ثريا بعالم الطائرات منذ صغرها، إذ كان لها ولع خاص بالألعاب الميكانيكية الصغيرة، وحدث أن أصيبت ثريا في الثالثة من عمرها، بداء "العواقة" فنصح الطبيب والدها بأن يُركبها طائرة في الصباح الباكر علها تشفى من الداء. وهو الأمر الذي سعى والد ثريا، عبد الواحد الشاوي، إلى تنفيذه مستغلا صداقته بضابط طيار بمدينة مكناس، الذي مكنه من حمل طفلته على متن طائرة وشفيت فعلا من الداء، لكنها ابتليت بداء آخر، لكنه جميل هو الولع بعالم الطيران. والتحقت ثريا في سن السادسة بمدرسة "دار اعدييل" بحومة واد أرشاش بفاس، وأبدت خلال هذه المرحلة تفوقا واضحا على أترابها، كما وجدت ثريا نفسها في خضم أحداث سنة 1944 بالعاصمة العلمية، إذ قررت معلمتها إعلان الإضراب في المدرسة احتجاجا على ممارسات العنف، ولم تجد أمامها سوى ثريا لتكليفها بأمر تبليغ زميلاتها بالفصل بمقاطعة الدروس، وهو ما كان. وشرعت الشرطة الفرنسية في البحث عن الفتاة التي كانت وراء تحريض التلميذات، وكانت المفاجأة عندما اكتشفوا أن الأمر يتعلق بطفلة صغيرة، لم تفلح تحقيقات الشرطة معها في جعلها تعترف بمن لقنها ما تقول لزميلاتها. وسنة 1946 حصلت ثريا الشاوي على شهادة الدروس الابتدائية، بعد التحاقها بمدرسة حرة كانت تابعة لحزب الاستقلال ويديرها الهاشمي الفيلالي، كما انتقلت بعدها إلى تونس لدراسة الاختزال والرقن على الآلة الكاتبة، حيث قضت بها 6 أشهر، إلى أن حصلت بها على شهادة التدريس في الاختزال ولم تبلغ بالكاد سنتها الثانية عشرة وكانت بذلك أول مغربية تحصل على هذه الشهادة. الكفاءة في الطيران من تيط مليل والتحقت ثريا بالوكالة المغربية للأنباء والإشهار والسفر موظفة كاتبة، في تلك السن، وفي الوقت نفسه واصلت مسارها الدراسي بمدرسة الطيران بتيط مليل (نواحي الدار البيضاء)، وكان الأمر مكلفا بالنسبة إلى أسرتها إلا أن والدها تجشم عناء مصاريف دراستها، إلى أن حصلت على شهادة "البروفي"، في ستة أشهر، ثم شهادة الكفاءة في الطيران. ولم يكن حصولها على الشهادة الأخيرة بالأمر اليسير في ذلك الوقت، خاصة أنها كانت الفتاة المغربية الوحيدة، وسط 41 تلميذا فرنسيا، ومع ذلك حصلت على الرتبة الأولى في أول امتحان لها، وتعرضت بسبب ذلك للعديد من المضايقات بسبب مشاعر الغيرة والحسد التي انتابت زملاءها بالفصل الدراسي. فضلا عن أن ثريا الشاوي لم تكن منفصلة عن الجو السياسي المحتقن الذي كان يعيش على إيقاعه المغرب خلال تلك الفترة، إذ كانت لها الكثير من الأفكار ووجهات نظر إزاء الممارسات الفرنسية بالمغرب، وهو الأمر الذي لمسته عن قرب من خلال تصرفات بعض الأساتذة الفرنسيين معها، سيما خلال يوم الامتحان التطبيقي، إذ تعمدوا أن يكون ذلك خلال يوم مكفهر الجو، بعد التزام والدها بمصاريف تحليق الطائرة وكذا تحمله مسؤولية حياة ابنته إن تعرضت لمكروه. وكانت المفاجأة أن اجتازت ثريا الاختبار بتفوق وبشكل أثار دهشة لجنة الامتحان، إذ حلقت الفتاة المغربية بالطائرة على علو 3000 متر، وقطعت مسافة على شكل دائرة محيطها 40 كيلومترا، قبل أن تعود إلى المكان المحدد لها، والشيء نفسه بالنسبة إلى الامتحان الشفوي الذي اجتازته ثريا بنجاح. وفي اليوم الموالي تصدر خبر فوز أصغر طيارة في العالم بشهادة الكفاءة في الطيران، وصارت اسم "ثريا الشاوي" على كل لسان، ومفخرة للمغاربة الذين رأوا فيها نموذجا للفتاة التي يحتاجها المغرب، سيما خلال لحظات التوتر القصوى بين الإقامة العامة الفرنسية والسلطان محمد الخامس خلال النزع الأخير للحماية. التحليق فوق القصر الملكي وكان أول شيء أقدمت عليه ثريا، هو اتصالها بالقصر الملكي، وأخذت الإذن للتحليق فوقه وإلقاء باقة من الزهور على رحابه، وهو الشيء الذي كان، إذ امتطت ثريا طائرة من نوع "بيبر" وقطعت المسافة الفاصلة بين البيضاء والرباط، وقامت بتحية القصر وسكانه. وصارت ثريا بذلك اسما متعدد الأبعاد، إذ لم يرتبط فقط بمجال الطيران، الذي فتح لها أبواب القصر وصارت مقربة من أهله، بل كانت لها أنشطة متنوعة في المجال الاجتماعي، وكل ما له علاقة بالنهوض بأوضاع المرأة المغربية، وكانت بذلك رائدة في هذا المجال، فضلا عن مشاركتها في الأنشطة الفنية إذ سبق لها أن مثلث دورا في شريط "الباب السابع". وكانت لثريا الشاوي اتصالات بالأندية النسائية بأوروبا وشمال إفريقيا، وسبق لها أن انتقلت إلى هناك، وعادت إلى المغرب وسعت إلى نشر رسالتها في العديد من المناطق المهمشة بالمغرب، وهي رسالة كانت تتضمن تحرير المرأة المغربية من إسار العادات والتقاليد الجامدة، وأيضا دعوتها إلى المساهمة في معركة التحرير. وبسبب حركية ثريا الزائدة ونشاطها الدائب، صارت محط اهتمام العديد من "حسادها" وتعرضت لأزيد من أربع محاولات للاغتيال، من قبل فرنسيين، بعد أن تبين لهم أنها كانت تساند المقاومين، إلا أن القدر كان متربصا وحال دون استمتاعها بثمار الاستقلال الذي كافحت من أجل نيله، إذ اغتيلت يوما واحد قبل الإعلان عنه، في خضم فوضى الاغتيالات العشوائية التي ابتلي بها المغرب، بعد أن اختار قاتلوها الإجهاز عليها أمام منزلها. كتابات عن الشاوي خلف رحيل ثريا الشاوي المفاجئ، صدمة كبيرة بالنسبة إلى الكثيرين، خاصة الذين عاينوا عن كثب النجاحات المتتالية التي حققتها المعجزة المغربية الصغيرة. ويعد عبد الحق المريني، مؤرخ المملكة والناطق الرسمي باسم القصر الملكي حاليا ومدير التشريفات والأوسمة سابقا، من السباقين، إلى تخليد سيرة الشهيدة ثريا الشاوي، مباشرة بعد وفاتها، في كتاب ألفه بتنسيق مع والدها. ولظروف ما صدر الكتاب في طبعته الأولى خلال الخمسينات، بتوقيع اسم مستعار هو "المهدي السلاوي"، بعد خلاف بسيط بين المريني ووالد ثريا الشاوي حول صورة لها وهي تروج لمشروب غازي، رفض الأول أن تنشر بالكتاب. وكاد النسيان أن يطوي أمر الكتاب خاصة أن طبعته نفدت منذ عقود، قبل أن تقرر مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، نفض الغبار عنه، فصدر في 2009 بتوقيع صاحبه الأصلي. ومن أهم المفاجآت التي يتضمنها الكتاب ملحق خاص، يضم كتيبا ألفته ثريا الشاوي لتعليم الطيران، لخصت فيه ما تلقته خلال دراستها.والكتاب يعتبر وثيقة تاريخية هامة تعرض لحياة فتاة استثنائية. كما صدر في 2017 كتاب باللغة الفرنسية بعنوان "أختي ثريا.. أول ربان طائرة بالعالم العربي" للكاتب والفنان التشكيلي صلاح الدين الشاوي عن منشورات "لارماتان".