تقلدت مناصب الزعامة وسيرت أمور الشعب ويشهد لها التاريخ بالجدارة في تحمل المسؤولية بقلم: مراد علوي (*) إن الواقع المتدني الذي تعيشه المرأة الأمازيغية اليوم هو الذي عاد بنا إلى الوراء بحثا عن الصورة المشرقة لها في كتب التاريخ وأحاديث الأولين. فقد كانت المرأة الامازيغية موضوع احترام وسط قومها. ينظر إليها الرجل نظرة إجلال وتقدير. وكانت تحمل مشعل القرارات الأسرية وتتقلد مناصب الزعامة فتسير أمور الشعب كقائدة حربية وملكة ويشهد لها التاريخ بالجدارة في تحمل المسؤوليات الكبرى هاته. ومن الأدلة اللغوية التي تفيد أن المرأة الأمازيغية حظيت بمكانة عالية داخل المجتمع الأمازيغي منذ فجر التاريخ، كلمة تمغارت التي تعني الزعيمة وسيدة القوم ومذكرها أمغار، الذي يعني الزعيم سيد القوم، كما حظيت بالمكانة المتميزة نفسها داخل أسرتها، بتحملها لنسب العائلة، أو ما يسمى بالأسرة الأميسية. وما يزال الأمازيغ، إلى اليوم، ينسبون رابطة الإخوة للمرأة، حيث تأخذ كلمة كوما/ وولتما، أي الأخ والأخت، وآيت ما/ إست ما، أي الإخوة والأخوات، معانيها الاشتقاقية من الأم. حارسة الفن والتراث لقد تحدت النساء الأمازيغيات، المحافظات على تراث حضاري لا يقدر بثمن، قرونا وعصورا من خلال نجاحهن في الحفاظ على هذا الإرث ونقله عبر الأجيال، إلى أن وصل إلينا في الألفية الثالثة. ولا أدل على ذلك استمرار اللغة الأمازيغية منذ العصر الحجري الحديث إلى يومنا هذا، في الوقت الذي انقرضت فيه لغات حضارات عظيمة حول البحر الأبيض المتوسط، مثل بونيقية الفينيقيين أو لاتينية الرومان أو لغة الفراعنة. ما يميز النساء الأمازيغيات، أنهن جميلات، خدومات لأسرهن، وللتذكير لا غير، كانت لهن الريادة والزعامة منذ العهود القديمة، والتاريخ يخبرنا عن أمازيغيات حكمن شعبهن ودافعن عنه أو ساهمن في استقراره، والمرأة الأمازيغية لا زالت لها الزعامة لكنها حرّفت نتيجة خضوعها لشروط الراهن وإكراهاته، فتم اختزالها في قيادة أسرتها من خلال رعايتها لها وتوفير متطلباتها، لأن مكانتها داخل النسيج القبلي زجت بها في موقع المنتِج، وما يحسب لها أنها نصبت نفسها حارسة للفن والتراث الأمازيغي حتى لا يضيع بين قدمي متغيرات العصر. فلا زالت تنسج الزرابي وتنتج المشغولات الخزفية وتزين العمارة، كما تعيش حالة اندماج وتوحد مع هذا التراث من خلال جسدها الذي حولته إلى فضاء تزينه بالأوشام وبنقوش الحناء وتكسوه بالأزياء التقليدية وتتحلى بالحلي الفضية فتصبح هي نفسها أيقونة فنية. ملكة وزعيمة تمتعت المرأة الأمازيغية في القديم بقيمة اعتبارية لا يمكن نكرانها، فلم يتم وأدها، وتحققت لها المساواة مع الرجل، فشاركت في الحرب إلى جانبه وتفوقت عليه في بعض الأحيان واستطاعت أن تكون هي التي تقوده. ومن أمثلة ذلك، الملكة الأمازيغية ديهيا التي ولدت في 680 م وتميزت بالجمال والدهاء، وحكمت جزءا من المغرب، وقال عنها ابن خلدون:"ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأت بمثلها زمان، كانت تركب حصانا وتسعى بين القوم…وتحمل السلاح لتدافع عن أرض أجدادها". هناك أيضا كنزة الأوْربية، ابنة زعيم قبيلة أوربة الأمازيغي، تزوجت بالمولى إدريس الأول الذي التجأ إلى المغرب بعدما نجا من بطش العباسيين، وكانت خير معين له على إرساء الدولة الإدريسية بالمغرب، وامتد إسهامها في الحكم إلى ما بعد وفاة المولى إدريس فعملت على تيسير السبل لابنها المولى إدريس الثاني لتحمل أعباء الحكم. أما الأميرة زينب النفزاوية، زوجة الملك العظيم يوسف بن تاشفين اللمتوني، الذي بنى مراكش، فتركت بصماتها على الإمبراطورية المرابطية (1054-1147). ولدت عام 1039، وتتحدر من نفزاوة، بالجنوب التونسي، وتنتمي حسب بعض المصادر إلى قبيلة هوارة. كانت حازمة ولبيبة وذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور. لكن في الوقت الراهن، أضحت زعامة المرأة الأمازيغية المغربية منتهكة من الرجل الذي وظف سلطته الذكورية ليجعل دورها يقتصر على ما يحرره من الكثير من الأعباء والواجبات، الأمر الذي جعله في راحة شبه دائمة، فأضحت هي من يقوم بكل متطلبات الأسرة. فإضافة إلى مهامها داخل البيت، تقوم بسقي الماء وجلب حطب التدفئة والطهو وجمع المحاصيل ورعي القطيع. هوية وأصالة انهمكت المرأة الأمازيغية المغربية منذ القديم في الحفاظ على هويتها ورموز أصالتها. فضمنت استمرارية العادات والتقاليد والفنون التراثية كنسج الزرابي وصناعة الخزف والحلي الفضية والأزياء وفن أحيدوس (رقص وغناء جماعي)، والأوشام التي تزين جسدها. ورغم الإكراهات والصعوبات التي تعيشها، فإنها في خضم التغيرات التي عصفت بالكثير من القيم والعادات والفنون، ظلت متشبثة بهويتها وبخصوصيتها، فلم تدعها تنفلت منها حتى لا تضيع في مهاوي الحياة المعاصرة. وعلاقة المرأة الأمازيغية بالألوان وطيدة، فوظفتها في الوشم والزخرفة وفي نسج الزرابي، وركزت على الألوان الأساسية والصافية، كالأزرق والأحمر والأصفر والأخضر. إنها ألوان صاخبة وضاجة بالحياة، وقد استمدتها من سخاء الطبيعة المحيطة بها، وتسيّد اللون الأحمر الذي تستكثره في زرابيها، يحيل على العشق والدفء الأسري والشجاعة والقوة، إنها ألوان تمس الروح وتوحي بمشاعر شفيفة وبغموض آسر، أما الأشكال الهندسية والحيوانية والزخارف التي تزين بها مشغولاتها الخزفية وزرابيها وبيتها ووشم أجزاء من جسدها، فهي علامات تحيل على اتساق وتكامل إبداعي متداخل وعلى رموز دينية وميثولوجية قديمة. وبخصوص الوشم فنا تزيينيا عند النساء الأمازيغيات، يقول الرسام الدانمركي هاين فرينكل: "في أحيان كثيرة تجدهن في الحقول أو المسالك الوعرة بالجبال يرددن صيحات غنائية لا يضاهيها في الحدة والجمال سوى مرأى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن أو جباههن وأحيانا على أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال يصر على تحدي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية… جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال… الطبيعة بالإنسان… والألوان بالملامح... الصور بالأصوات... الغناء بالرسم على الجسد". تقاليد وفنون وما يمكن تأكيده، هو أن كل الفنون الأمازيغية تعد جزءا من الحياة اليومية للمرأة الأمازيغية وتفشي عن خطاب إبداعي وجمالي وفني وثقافي ونفسي، يجعلها تسهم في حفظ التراث الذي تأكدت أهميته من خلال انفتاح الكثير من الفنانين التشكيليين المغاربة روادا ومعاصرين عليه والاغتراف منه لتحقيق أصالة أعمالهم وخصوصيتها. إن استقصاء الثقافة البصرية المغربية أو المنتوج التشكيلي المغربي يجعلنا نقف على حضور الفن الأمازيغي في هذا المنتوج، وقد لاذ الفنان التشكيلي المغربي بالفنون الشعبية والتراثية وغاص في الأصالة المغربية حتى لا تبقى الذات المبدعة حبيسة المدارس الفنية الغربية، وسأضرب المثل بفنانين اثنين هما أحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية اللذين لم ينفصلا عن الموروث الثقافي والشعبي رغم اعتبارهما من رواد الحداثة بالمغرب، لأنهما حققا مصالحة أكيدة بين التراث والحداثة الغربية، فرفدا تجربتهما بالفن الأمازيغي والإسلامي، فتحقق من خلال أعمالهما التنويع في المشهد التشكيلي المغربي وليس المغايرة، ولم ينفردا بمحاولة تأصيل الفن التشكيلي المغربي، وإنما سار الكثير من الفنانين المغاربة على خطاهما فاستثمروا التراث لتحقيق أصالة وخصوصية تجاربهم، والفنان أضحى واعيا بقيمة الموروث الثقافي والتراثي، فوثق علاقته به من خلال أعماله. وما يمكن تأكيده في الختام هو تمكن المرأة الأمازيغية من الحفاظ على التقاليد والفنون الأمازيغية وضمان استمراريتها، هذه الفنون التي أصبحت من روافد الفن التشكيلي المغربي الحديث والمعاصر، فأضحى الفنان التشكيلي يزج بنفسه في عوالمها ليخرج بتجارب ترقى بفنه إلى مدارج جمالية تتحقق معها خصوصية أعماله وأصالتها وتفتح له بابا على العالمية. (*) باحث في علم الاجتماع