في ذكرى رحيل رجل متعدد أبدع فنانا وديبلوماسيا وإطارا ليس بالإمكان الحديث عن المسرح المغربي في بداياته الأولى بشكله الحديث الذي تجاوز الأنماط ما قبل المسرحية المتمثلة في فنون الفرجة الشعبية وروافدها، دون استحضار اسم الراحل عبد الصمد الكنفاوي. هذا الاسم الذي كاد أن يطويه النسيان بعد مرور 47 سنة على رحيله، بحلول مارس، انبعث من رقاده خلال السنوات الأخيرة، بعد ظهور مهرجان باسمه في العرائش، وأيضا من خلال أعماله الكاملة التي طبعت أخيرا بمجهود خاص بذله أصدقاؤه والمقربون منه، على رأسهم زوجته "دانييل الكنفاوي"، التي ظلت وفية لذكرى زوجها وحريصة على جمع تراثه وتقديمه للأجيال الحالية والقادمة حتى يتسنى للجميع التعرف على رجل استثنائي، أبدع على واجهات مختلفة، فنية مسرحية وديبلوماسية وحكومية ونقابية. إنجاز: عزيز المجدوب أن يحقق المرء قصب السبق في مجال ما يشفع له كثيرا حتى لو كانت البداية متعثرة أو ينقصها النضوج الكافي المترتب عن توالي التراكمات، فكيف الأمر إذا كانت هذه البداية قوية وناضجة من أولها، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الراحل عبد الصمد الكنفاوي الذي يعد رائدا مؤسسا للمسرح المغربي بصورته المحدثة. والمتأمل للنصوص، المسرحية منها على وجه الخصوص، التي أبدعها الراحل عبد الصمد الكنفاوي، في محطات مختلفة من حياته، خاصة خلال مراحل بداياته الأولى في عقد الخمسينات أو مستهل عقد الستينات، يتبين له (المتأمل) أنها نصوص امتلكت القدرة على تجاوز اللحظة التي أنتجت فيها، وشكلت نصوصا عابرة للزمن، حتى إنه لما جرت إعادة تشخيصها على خشبة المسرح منذ بضع سنوات، أظهرت أنها ما زالت تحتفظ بنضارتها وراهنيتها. لكن المسرح لم يكن سوى وجه من الوجوه "النردية" للراحل عبد الصمد الكنفاوي، فالرجل عُرف عنه تعدد مشارب اهتماماته والمجالات التي اشتغل فيها، ورغم أنها مجالات تبدو متباعدة يتقاطع فيها السياسي بالنقابي والدبلوماسي بالوظائف السامية، إلا أن بصمة الكنفاوي "المبدع" ظلت حاضرة فيها، وانعكست فيها شخصيته المركبة والغنية. لكن عناصر هذه الشخصية المركبة والغنية، لم تكن سوى نتاج الظروف السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها عبد الصمد الكنفاوي، فضلا عن الملكات الفردية والخصائص الذاتية التي كانت يتمتع بها الرجل، والتي أجمعت شهادات من عرفوه أنها تتمثل في مخايل العبقرية والنبوغ التي ظهرت عليه في سن مبكر. قصة حب لكسوسية كانت العرائش هي المدينة التي شهدت ميلاد عبد الصمد الكنفاوي سنة 1928، وهي المدينة ذاتها التي سيتعلق بها قلب الأديب الفرنسي "جان جنيه" وسيختار ربوة بها، من دون ربى العالم، لتكون مستقرا سرمديا لجسده بعد أن أوصى بدفنه هناك. ترى ما هو السر الذي يميز هذه المدينة والتي التقى على حبها قلبا "جان جنيه" و"عبد الصمد الكنفاوي"؟ فإن كان الأول قد عبر عن حبه لها، بالطريقة سالفة الذكر، فإن الكنفاوي ظل يلهج بعشقها إلى آخر نبضة في قلبه، وكان واحدا من أوفى أبناء "ليكسوس" ومن أشد الغيورين على تاريخها وحاضرها. فكيف لا وقد احتضنت أزقة ودروب العرائش وحي القصبة، تحديدا، حيث نشأ الكنفاوي في حضن جده، شغبه الطفولي وهناك تلقى مبادئ القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر له من القرآن، قبل أن يلتحق بمدرسة فرنسية بالحي الذي نشأ فيه. كما وفرت مدينة العرائش، بعمقها الحضاري وعراقة حواريها وأزقتها، لعبد الصمد الكنفاوي، مجالا خصبا تعرف فيه على التراث والفنون الشعبية، ومختلف الطقوس الاحتفالية التي كان يشهدها حي القصبة العريق والأحياء المجاورة له، والمتمثلة في "ليلات" كناوة وجيلالة وحمادشة والتي كانت زوايا المدينة وأضرحتها مسرحا لها. وسط هذه الأجواء، درج الطفل عبد الصمد على الاهتمام بالتراث والفنون الشعبية، وهو ما سيفسر إقباله خلال مراحل النضج إلى استعادة ما خزنته ذاكرته من صور ومشاهد وتعابير أعاد توظيفها في العديد من أعماله المسرحية وكتاباته في ما بعد. النبوغ المغربي المزعج خلال انتقاله إلى مدينة الرباط لمتابعة تعليمه الثانوي بعد التحاقه بثانوية "مولاي يوسف"، دخل عبد الصمد الكنفاوي مرحلة جديدة في حياته، خاصة بعد أن أبدى تفوقا ملحوظا على زملائه وأقرانه في الفصل، لكن تفوقه أتى بنتائج عكسية بالنسبة إليه، إذ تعرض للعديد من المضايقات على يد بعض الأساتذة الفرنسيين الذين كان يزعجهم ويغيظهم المتفوقون من التلاميذ المغاربة، ومنهم الكنفاوي الذي تمكن من الحصول على شهادة الليسانس في القانون سنة 1951. بعدها اشتغل الكنفاوي قيما على مكتبة الثانوية نفسها التي كان يدرس بها، وأتاحت له هذه الوظيفة تعميق مداركه في المجالات التي كان مهتما بها، إذ كان يقضي ساعات طويلة في المطالعة، وهو ما ساعده أيضا في تنمية مواهبه الفنية خاصة في مجال المسرح الذي كان يعشقه ويسيطر على كيانه. وكانت الفرصة الذهبية التي أتيحت لعبد الصمد الكنفاوي، هي الاستفادة من التداريب التي احتضنها مركز "المعمورة" بداية الخمسينات، وكانت تتم تحت إشراف فرنسيين هما "نوران" ولوكا" اللذان انتبها إلى موهبة الكنفاوي وتعلقه الخاص بالمسرح، فنميا فيه تلك الموهبة. وبفضل التدريب الذي تلقاه عبد الصمد الكنفاوي ب"محترف معمورة"، كانت له القدرة على الإشراف، رفقة صديقه الطاهر واعزيز، على التدريب التأسيسي لأول فرقة مغربية محترفة مثلت المغرب سنة 1956 في مهرجان "الأمم" بباريس وحصلت على الرتبة الثانية عن طريق مسرحية "الشطابة". وخلال الفترة نفسها التحق عبد الصمد الكنفاوي، بالسلك الديبلوماسي مسؤولا في قنصلية المغرب في بوردو، وبعدها بسنتين ملحقا ثقافيا في سفارة المغرب بالعاصمة الفرنسية، إضافة إلى مهام ديبلوماسية أخرى بستراسبورغ وموسكو. ولم تحل انشغالات الكنفاوي الديبلوماسية والنقابية والحكومية، في ما بعد، دون مواصلته الاهتمام بالمسرح وكل ما يتصل به، بل وسع دائرة اهتماماته الثقافية لتشمل مجالات أخرى منها انكبابه على جمع الأمثال الشعبية وإعداد الكلمات المتقاطعة التي كان يتفنن في إنجازها ونظم الشعر، فضلا عن التأليف المسرحي والترجمة والاقتباس من المسرحيات العالمية، بشكل فردي أو ضمن محترفات جماعية رفقة العديد من رفاقه منهم أندري فوازان والطاهر واعزيز وأحمد الطيب العلج. ورغم اضطلاع الكنفاوي بوظائف سامية وحكومية، منها تمثيله الحكومة المغربية في مؤتمر منظمة العمل الدولية في جنيف، فإنه انحاز بداية الستينات بشكل مثير للفئات الكادحة، وانخرط في صفوف العمل النقابي، بداية بإشرافه على مدارس التكوين النقابي التابعة للاتحاد المغربي للشغل، كما سيشغل منصب المستشار التقني لوفد العمال بالمنظمة الدولية من سنة 62 إلى 70، فضلا عن تمثيله للاتحاد المغربي للشغل بكل من الفيتنام والصين وكوبا والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، وكذا لدى اتحاد النقابات العالمي. أما عن مهامه الحكومية فقد شغل الكنفاوي بداية السبعينات منصب مفتش وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية والشباب، كما عين أمينا عاما للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى حين وفاته يوم 31 مارس 1976. ووسط زحمة هذه الانشغالات استطاع الكنفاوي الحفاظ على شخصية المبدع والفنان الكامنة فيه، وتجلى ذلك في ظهور العديد من أعماله المسرحية المؤلفة أو المترجمة أو المقتبسة، والتي ضمّنها آراءه ووجهات نظره تجاه ما يعتمل في المجتمع المغربي، كما وجه من خلالها نقدا لاذعا لكل مظاهر الظلم الاجتماعي والفساد والرشوة والنفاق. "سعدات اللي رضى عليه الكنفاوي" هذه العبارة وردت في واحدة من التسجيلات العديدة لأغنية "الحصادة" لمجموعة ناس الغيوان، ورغم أن توظيفها كان بشكل عرضي إلا أنها كانت تترجم نوعا من العرفان بالجميل من قبل أعضاء المجموعة للراحل عبد الصمد الكنفاوي. هذا "الجميل" كما يحكي الفنان عبد العزيز الطاهري، أحد أعضاء المجموعة في بداياتها الأولى قبل أن يلتحق بجيل جيلالة، يتمثل في الدعم والاهتمام الخاص الذي حظيت به المجموعة من طرف الراحل عبد الصمد الكنفاوي، لدرجة اعتباره واحدا من ملهميها. ويقول الطاهري إن "الكنفاوي كان واحدا من الذين شجعونا على الاهتمام بالتراث الشعبي المغربي وكافة الأشكال الفرجوية ومختلف فنون القول لتوظيفها في الأغاني التي كنا نقدمها". ويضيف الطاهري أن الكنفاوي استفاد أيضا من صداقته للسعيد الصديقي الشهير ب"عزيزي"، شقيق الطيب، وكان لهذه الصداقة دور كبير في تعزيز الاهتمام المشترك بينهما بفنون الفرجة المغربية، كما أن الرؤى بينهما كانت متقاربة في ما يخص الشعر وتجميع فنون القول والرباعيات. ويحكي الطاهري عن لقائه الأول بالكنفاوي قائلا "كان ذلك نهاية الستينات حين التحقت بمدينة الدار البيضاء قادما إليها من مراكش، وكثيرا ما كان الراحل يتردد على منزل شخص يدعى عبد الجليل بنكيران، كان أشبه بصالون أدبي، حيث يلتقي فيه مع العديد من أسماء الفن والأدب في المغرب منهم الراحل أحمد البيضاوي والطيب الصديقي وشقيقه السعيد والمرحوم كمال الزبدي (...) وكنت قبل ذلك من أشد المعجبين به بحكم أنه كان كاتبا مسرحيا مرموقا وأحد مؤسسي قواعد الكتابة المسرحية بالمغرب". وأضاف الطاهيري "وفي إحدى الجولات التي قامت بها مجموعة ناس الغيوان بالجزائر سنة 1972، رافقنا الكنفاوي وكان خير موجه لنا خلال تلك الرحلة، وحثنا على تقديم أغنية "يا بني الإنسان" وكأنه أراد أن تكون هذه الأغنية بمثابة رسالة ودعوة سلام موجهة إلى الجيران".