في ذكرى رحيل رائد آلة «الأورغ» الذي نافس الأصوات الغنائية بأنامله تحل يوم 2 مارس المقبل، الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الفنان عبده العماري، عازف الأورغ الذي قادته أنامله إلى دروب الشهرة والمجد، فكان واحدا من أشهر العازفين وأمهرهم على الآلة، لدرجة أن اسمه تألق في فترات من تاريخ الأغنية المغربية، ملحنا وعازفا يقدم معزوفاته في ألبومات وأسطوانات خاصة، حاول من خلالها فتح آفاق تجديدية أمام الأغنية المغربية دون الانفصال عن جذورها التراثية من إيقاعات ومقامات وأنغام. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا العازف الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب عبده العماري واسمه الحقيقي "محمد بنعمر" أو محماد كما ينطقها أهل سوس بحكم أن العماري يتحدر من منطقة تافراوت، حيث رأى النور سنة 1945، قبل أن يغادرها في اتجاه مدينة الدار البيضاء ولم يتجاوز بعد العاشرة من عمره. كان انتقال عبدو العماري إلى البيضاء في هذه السن المبكرة "اضطراريا"، بعد أن حاول اللحاق بوالده الذي "تخلى" عن الأسرة بتافراوت، وتزوج مرة أخرى بعد أن كبرت تجارته بالبيضاء، وكان لهذا التصرف من جانب الوالد الأثر الأكبر على نفسية الطفل "محماد". وهكذا انتقل عبدو العماري رفقة شقيقه الأكبر "علي" إلى كازا بلانكا، رغبة في إيجاد ظروف عيش أفضل، إذ توجه الشقيق الأكبر نحو امتهان التجارة بالمارشي الكبير لعين السبع، فيما اشتغل عبدو بمحل للجزارة بحي بوركون بالقرب من سينما "الفنون". وخلال هذه الفترة سيظهر ولع عبدو العماري بالموسيقى والغناء، إذ كان مأخوذا بالموسيقى الشرقية التي كانت سائدة، آنذاك، منها أغاني فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهما، وكانت أولى الفرص التي مكنت العماري من اكتشاف هذه الأغاني هي الليالي التي كان يبيت فيها مضطرا داخل سيارة نقل اللحوم، وكان يؤنس وحدته بالاستماع إلى مذياع السيارة ساعات طويلة، ما يتسبب في إفراغ بطاريتها وبالتالي يعرض العماري للعقاب على يد المشغل كل صباح. بعدها عرض عليه شقيقه الالتحاق به والاشتغال معه في التجارة، لكن عبدو رفض ذلك وطلب من أخيه أن يساعده على الالتحاق بالمعهد الموسيقي، لكنه رفض معتبرا الأمر ضربا من العبث. ولحسن حظ العماري أن شخصا إنجليزيا مقيما بالدار البيضاء يدعى "ترومان" كان صديقا لشقيقه علي، تفطن لولع عبدو بالموسيقى، فتكفل بمهمة تسجيله بالمعهد، وفي الوقت نفسه مكّنه من تعلم حرفة أخرى يكسب منها قوته هي الحلاقة العصرية التي أجادها العماري وكان أحد روادها. وهكذا التحق عبدو العماري بالمعهد البلدي للموسيقى بالدار البيضاء سنة 1962، وتعرف على مجموعة من الأصدقاء منهم على وجه الخصوص المنشط التلفزيوني والزجال محمد بنعمر (يحمل الاسم الحقيقي نفسه لعبدو العماري) الذي ارتبط معه في علاقة صداقة دامت مدة طويلة. واختار عبدو العماري تلقي مبادئ الصولفيج وآلتي العود والبيانو، اللذين أبدى فيهما عبده تفوقا خاصا، كما أن المعهد كان يدرس به خلال تلك الفترة، على عهد مديره الفرنسي أندري ماريطون، عدد من الأسماء التي سيصير لها شأن، في ما بعد، في مجالي التمثيل أو الموسيقى، منهم الثنائي مصطفى الداسوكين ومصطفى الزعري، ولحسن زينون والمطرب والملحن الحبيب الإدريسي وعبد اللطيف بن الشريف إضافة إلى الحاج يونس، وعبد الحق الليلاني. "أوريكا يا جنة" وتمكن عبدو العماري من المزاوجة بين دراسته للموسيقى وبين تعلمه فن الحلاقة، إذ افتتح أول صالون له خاص بالنساء بالمدينة القديمة، وهناك تعرف على شريكة حياته فاطمة العروسي التي تعد رائدة في مجال الكوافير النسائي والتزيين، وأسس رفقتها العديد من مدارس الحلاقة بالبيضاء وغيرها. كما لحن أولى أغنياته بعنوان "أوريكا يا جنة" التي نظم كلماتها صديقه محمد بنعمر. في هذه القطعة الغنائية سيتبدى توجهه الموسيقي القائم على التحديث والتطوير على مستوى توظيف الآلات الغربية، خاصة أنه كان أيضا مستمعا جيدا للموسيقى الغربية في شقيها الكلاسيكي والعصري، ما أتاح له فرصة التشبع بأنغامها، وفي الوقت نفسه دفعه تحدره من منطقة سوس، إلى محاولته النهل من التراث الموسيقي الأمازيغي وتوظيفه بطريقة حديثة. وهو الأمر الذي سيبدو من خلال الكثير من المعزوفات الصامتة التي ألفها عبده العماري خلال النصف الثاني من عقد الستينات، والتي تضمنت نفحة تجديدية سابقة لعصرها، من أشهرها قطعة "لا تلمني". وخلال الفترة نفسها سيؤسس العماري أول فرقة شبابية على الصعيد الوطني مختصة في عزف الموسيقى الغربية بأسلوب حديث حملت اسم "فوجيتيف"، ستشرع في إحياء السهرات الخاصة بالفنادق أو السهرات العمومية، كما ستجد لها مكانا على شاشة التلفزيون المغربي بفضل مساعدة مجموعة من الأشخاص، على رأسهم المخرجان محمد الركاب وحميد بن الشريف. ولم يكن توجه عبدو العماري ورفاقه في مجموعة "لي فوجيتيف" إلى تقديم الموسيقى الحديثة يمر دون أن يخلف موجة من الرفض لها خاصة من طرف "التيار المحافظ" داخل الإذاعة لذا وجد العماري صعوبة كبيرة في اقتحامه بلونه الموسيقي الجديد، فكان يضطر إلى تسجيل أغانيه ومعزوفاته مع شركات الأسطوانات. ربع الصوت... الفتح الموسيقي كان سلاح عبدو العماري اقتناعه بجدوى رسالته الفنية، مضيفا إليها تمكنه من آلة "الأورغ"، هذه الآلة التي كانت تبدو غريبة آنذاك، التي عرف كيف يخضعها لتنفيذ ما يجول برأسه من خواطر وأفكار موسيقية، ويطوع ملامسها لأنامله التي كانت تصول وتجول فوقها مصدرة أنغاما ما كانت لتخرج منها لولا براعة عازفها وامتلاكه لأسرار هذه الآلة الموسيقية. فقد كان العماري أول مغربي تمكن من إدخال "ربع المقام" على آلة "الأورغ"، واعتبِر الأمر حينها بمثابة "فتح موسيقي" التقطه عدد من المطربين المغاربة الذين سعوا إلى احتضان هذا "الفتح" من خلال التعامل مع عبده العماري قصد توظيف هذه التقنية في أغانيهم كما هو الشأن بالنسبة إلى الموسيقار عبد الوهاب الدكالي الذي وظف "أورغ العماري" في بعض أغانيه منها "مرسول الحب". وبفضل مهارته وحنكته الموسيقية التحق عبدو العماري بالجوق السمفوني الملكي كأول عازف للأكورديون بأمر من الراحل الحسن الثاني، ثم مع الجوق الوطني للإذاعة وكذا الجهوي التابع لإذاعة البيضاء. إلا أن العماري لم يكن ليقنع بوظيفة عازف محدود المهمة، فقد كان طموحه أن يجعل من العازف الموسيقي "نجما" مستقلا بذاته، كما هو الشأن بالنسبة لنظرائه في الشرق أمثال عمر خورشيد، عازف الكيتار الشهير، أو هاني مهنى، عازف الأورغ، إلا أن طموح العماري كثيرا ما اصطدم بعراقيل كثيرة انتصبت وسط مشهد فني لم يولد في نفسه سوى الإحساس بالإحباط الذي لازمه طيلة السنوات الأخيرة من عمره. ومع ذلك لم يتوان عبدو العماري عن العطاء على كافة الأصعدة، إذ قدم العديد من المعزوفات الصامتة مثل "ليالي الصيف" وليالي الربيع" و"زفاف في الفضاء" و"رجفة العيون" ثم "معزوفات 2000" التي ضمنها عددا من الأنغام الشعبية قدمت بآلتي "الأورغ والسانتيتيزور" لاقت نجاحا كبيرا. كما تعامل عبدو العماري مع جملة من الأسماء الغنائية منها الحبيب الإدريسي وعبد الواحد التطواني وحميد شكري وفاطمة مقدادي وليلى غفران وعائشة الوعد، فضلا عن تعامله مع المطربة نعيمة سميح من خلال أغنيات طبعت مسارها الغنائي أشهرها "رماني الريح" و"توحشناك" و"خلاني غريبة". ولم يقتصر تعامل العماري فقط مع رموز الأغنية العصرية، بل انفتح أيضا على الموجات الشبابية الجديدة وكان وراء تأسيس فرقة "كازابوي" المختصة في فن "الراب" وقدم لها مجموعة من الألحان الخفيفة، أما آخر أغنية لحنها فهي قطعة "لعبك مفضوح" التي كتب كلماتها الشاعر الغنائي الراحل علي الحداني. العماري والعروسي... ثنائي الفن والتجميل يوم 29 نونبر سنة 1967 تاريخ لن ينمحي أبدا من ذاكرة فاطمة العروسي، إذ هو اليوم الذي تعرفت على شريك حياتها الفنان عبدو العماري، الذي كان حينها قد بدأ اسمه يشتهر شيئا فشيئا عازفا على آلة الأورغ، وفي الوقت نفسه كان أحد الرواد المشتغلين في مجال حلاقة النساء والتزيين، الأمر الذي أوجد نقط اهتمام مشتركة بين الطرفين على الصعيدين العاطفي والمهني. هذا التجاذب بين فاطمة العروسي وعبدو العماري أثمر زواجا تم رسميا سنة 1970، وشكلا معا ثنائيا متميزا إذ اشتغلا معا في أول محل حلاقة خاص بهما بالمدينة القديمة يحمل اسم "فيغارو". وبحكم علاقات عبدو العماري بالوسط الفني خاصة في مجال التلفزيون إذ كان صديقا حميما لكل من المخرجين الرائدين محمد الركاب وحميد بن الشريف، وأتيحت الفرصة كذلك لفاطمة العروسي لاقتحام مجال التلفزيون بعد أن وقع الاختيار عليها لتكون أول ماكيير في التلفزيون المغربي خلال نهاية الستينات. لم يكن صالون "العماري والعروسي"، تقول فاطمة، مجرد صالون حلاقة عاد، بل كان يتردد عليه أغلب نجوم الفن والتلفزيون آنذاك، كما أن العماري كان يمتع زبائن المحل بعزفه على آلة بيانو كانت موضوعة به. بعد المحل الأول دشنت العروسي رفقة عبدو العماري ثلاث مدارس للحلاقة بكل من البيضاء ومراكش وآسفي تخرج منها مئات التلاميذ، خلال النصف الأول للسبعينات، وشكلت بذلك أولى قواعد فن الحلاقة والتجميل بالمغرب. وأواسط السبعينات زارت العروسي رفقة العماري العاصمة البريطانية لندن، وشاركت في أول تدريب لها خارج أرض الوطن، وواصلت تألقها في مجال التصفيف والتزيين، حتى بعد انفصالها عن عبده العماري، لتظل محتفظة بذكراه وذكرى السنوات الجميلة التي قضياها معا.