ثانوية الإمام مالك… مشتل النخب

كتاب يرصد تحولات جيل السبعينات من خلال أشهر مؤسسة تعليمية بالبيضاء صدر أخيرا كتاب بعنوان "ثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء في السبعينات.. تحولات جيل" أشرف عليه ونسق مواده الباحثان أحمد لعيوني والمصطفى اجماهري، وهو عبارة عن وثيقة وفاء من تلاميذ وأطر هذه الثانوية العتيدة التي اختزنت ذاكرة أجيال تعاقبت عليها، وتركت أثرها في المغرب مثلما تركت هاته المؤسسة أثرها فيهم. في هذا الخاص تستعيد معكم "الصباح" بعضا من مضامين هذا الكتاب الذي جاء معززا بالشهادات والذكريات عن فترة كانت فيها المؤسسات التعليمية العمومية مشتلا للنخب. إعداد: عزيز المجدوب حدد الكتاب، الذي تولى تقديمه الأستاذ عبد اللطيف اليوسفي، المرحلة الزمنية التي يريد استعادتها من خلال شهادات تلاميذ وأساتذة ثانوية الإمام مالك، في المرحلة ما بين 1967 و1977، وهي المرحلة التي كانت فيها الثانويات الكبرى بالدار البيضاء، تستقطب فيها إلى جانب التلاميذ البيضاويين، أفواجا مهمة من الجهات المختلفة للمملكة، بالنظر إلى انعدام وجود تعليم ثانوي ببعض المدن المحيطة بالعاصمة الاقتصادية أو لانعدام بعض التخصصات فيها، فكانت تتوفر لهذا الغرض على أقسام داخلية لإيواء التلاميذ الوافدين. وضمن هذا السياق كانت ثانوية محمد الخامس تستقبل شعب الإنجليزية والاقتصاد والآداب العصرية والعلوم التجريبية والتقنيات التجارية والمحاسبة، وثانويتا "شوقي" و"الخنساء" كانتا مخصصتين للفتيات، وثانويتا "الخوارزمي" (المدرسة الصناعية سابقا) و"جابر بن حيان" تخصصتا في التكوين التقني الصناعي والتجاري. بينما كان يتم توجيه تلاميذ شعبة الآداب الأصلية المزدوجة حرف ألف إلى ثانوية الإمام مالك، وهي المؤسسة التي كان يطلق عليها إبان الحماية الفرنسية "مدرسة المحطة" أو "إيكول دو لاكار". إشعاع تاريخي وحسب المؤلفين أحمد لعيوني والمصطفى اجماهري فإن ثانوية الإمام مالك، على صغر حجمها، مجرد مؤسسة تعليمية عادية، وإنما كان لها إشعاع تاريخي بحكم أقدميتها في المشهد التعليمي بالمغرب. وهنا يورد لعيوني في شهادته جوانب من تاريخ المؤسسة، التي يرجع تاريخ بنائها إلى سنة 1936، وكان اسمها لحظة إحداثها "المجموعة المدرسية المحطة" بحكم قربها من محطة القطار بحي بلفدير. وكانت المجموعة تتكون من ثلاث مدارس: مدرسة للبنين وأخرى للبنات، للتعليم الابتدائي. أما الثالثة فخصصت للتعليم الأولي. كما كانت المؤسسة، بالموازاة مع ذلك، تتوفر، منذ نشأتها، على قسم داخلي يستقبل أبناء المعمرين من أبناء الجالية الأوربية الموجودة بضواحي الدار البيضاء، وكذلك بعض أبناء الفرنسيين المقيمين بالمدينة نفسها، والراغبين في استفادة أبنائهم من خدمات القسم الداخلي، من حيث التغذية والمبيت أو التغذية فقط، وهؤلاء غالبا ما كانوا يؤدون مبلغا ماليا مقابل الخدمة، أما أبناء الجالية القاطنون بالضواحي فكانت تخصص لهم منحة للتغذية والإقامة، يقول لعيوني. موقع إستراتيجي تمتعت ثانوية الإمام مالك، أو "مدرسة المحطة سابقا"، بموقع جغرافي متميز بحي بلفدير، الذي كان يزخر بالطاقات الفنية والثقافية والنقابية، إضافة إلى توفره على بنية تحتية ملائمة مثل سينما "أولمبيا" والمركز الثقافي الفرنسي بعين البرجة، ومكتبات، إضافة إلى وسائل النقل، ومحطة القطار ومقر سوشبريس، وإدارة جريدة "المحرر" فضلا عن القرب من وسط المدينة. إذن فالمحيط القريب من المؤسسة، كان في حد ذاته، مصدر معرفة ودعوة للاكتشاف، إذ كان يزخر بموروث حضاري وثقافي ورياضي مهم، فضلا أن قاطنيه كانوا يتشكلون من سكان مختلطين مغاربة وأوربيين استوطنوه منذ فترة الحماية، بل كانت به مؤسسة تعليمية فرنسية هي "أناتول فرانس" بمختلف مستوياتها، كل هذا منح الناشئة فرصة للانفتاح على عوالم ثقافية متنوعة، عصرية وحداثية، جعلت التلاميذ يشعرون وكأنهم انتقلوا من عصر إلى عصر وليس فقط مجرد انتقال في المكان، من هامش إلى مركز. ومما كان يساعد على جودة التلقين داخل الأقسام، حسب المؤلفين، هو العدد المحدود للتلاميذ خاصة في السلك الثاني، إذ كان دون الثلاثين في الفصل. وهو ما كان يتيح الاتصال الوثيق بين التلاميذ والأساتذة والاستفادة من العملية التعليمية. فعلى سبيل المثال، كان عدد التلاميذ لا يتعدى 28 في قسم الخامسة أدبية مزدوجة سنة 1970/ 71، ولم يتجاوز العدد 26 تلميذا في قسم الباكالوريا أدبية مزدوجة سنة 1971/ 72. أما القسم الداخلي فقد كان تصميمه المعماري فريدا، فهو على شكل ثكنة منعزلة بأسوار حالية، أشبه بجزيرة تحيط بها أربعة شوارع، وتتوفر على خمسة أبواب، ثلاثة منها غير مستعملة، والباقيان واحد مخصص لدخول الأساتذة، والثاني لولوج التلاميذ. والباب الأخير يحرسه بشكل دائم إطار إداري يتفحص وجوه التلاميذ عند الدخول والخروج. وقد خلق هذا الشكل المعماري إحساسا لدى التلاميذ بالقطيعة إزاء العالم الخارجي، مما ساعدهم على نحو ما، على التركيز أكثر على الدراسة وما يجول داخل المؤسسة. ويشير المؤلفان إلى أن القسم الداخلي بثانوية الإمام مالك، في بداية السبعينات، يتسع لحوالي مائتي سرير مخصصة للتلاميذ، وأغلب رواده يدرسون بالسلك الثاني من الثانوي، وافدون من محيط يمتد لحوالي 200 كيلومتر من الدار البيضاء. أساتذة مفكرون ومبدعون وقد أوكل أمر التدريس بثانوية الإمام مالك، خلال الفترة التي ركز عليها الكتاب، إلى أساتذة أغلبهم صار له شأن كبير في مجال الثقافة والأدب، منهم الراحل سالم يفوت، الباحث والمفكر والمترجم في مجال الفلسفة والابستمولوجيا، والمفكر كمال عبد اللطيف، ومحمد بلاجي والحاج علي وأمينة عوشر والناقد محمد مفتاح والناقد والأديب أحمد المديني، والناقد إدريس الناقوري، وعبد الرحمن الكاظمي، ومحمد كلزيم، والمختار العرابي، ورحال أبو الوفاء ومحمد المتيوي وفاطمة المذكوري والشاعر محمد عنيبة الحمري وزبيدة رشدي ومونيك هويير وهنري ماناهيس ومدام فلوشير ومدام غيوم وجيزيل سياح ومدام برات وروني بيريز ومدام باي. في تلك السنوات، من أواخر الستينات وبداية السبعينات، كانت أغلب المواد التعليمية تدرس بالفرنسية، وبالتالي كان أغلب الأساتذة فرنسيين، إضافة إلى نظرائهم المغاربة منهم الشباني التي تعد أول أستاذة مغربية في سلك الإعدادي بمؤسسة الإمام مالك درست العربية. بينما العربي عمور أول مدير للمؤسسة، سواء في فترة الإعدادي أو الثانوي. وكان معه من الأساتذة محمد الخرشافي، الذي سيلتحق بالجامعة، ومحمد العاقل، الذي سيصبح محاميا. وفي 1973، التحق أستاذان جديدان بالثانوية، هما أمينة عوشر لتدريس التاريخ والجغرافيا وسعيد إهراي. وكان التعليم بالمغرب خلال تلك الفترة، حسب المؤلفين، شبيها بنظيره الفرنسي، إذ كانت تدرس أغلب المواد باللغة الفرنسية (أدب فرنسي وفلسفة وتاريخ وجغرافيا ورياضيات وفيزياء وكيمياء وعلوم طبيعية) باستثناء مادتي الأدب العربي والشريعة الإسلامية، بل كان الأساتذة الفرنسيون يدرسون أيضا مواد أخرى مثل اللغة الإنجليزية والإسبانية وحتى التربية البدنية. وكانت المواد الأساسية بالنسبة إلى تلاميذ الباكالوريا هي الأدب، بشقيه العربي والفرنسي، والفلسفة، وهما مادتان أساسيتان في التكوين العام وفي بناء شخصية التلميذ، وقد تلقوها على يد أساتذة فرنسيين ومغاربة شباب ينتمي جلهم إلى اليسار أو يتعاطف معه. وحتى عندما تم تعريب الفلسفة ابتداء من 1973 فقد ظل تدريسها في السنوات القليلة الموالية بيد أساتذة تكونوا فيها باللغة الفرنسية واجتهدوا بشكل كبير من أجل إيصالها باللغة العربية والحفاظ على حمولتها النقدية. وفي سنة 1961 سلمت البعثة الثقافية الفرنسية المؤسسة إلى وزارة التربية الوطنية المغربية، فأصبحت المؤسسة تتكون من جزأين، إضافة إلى القسم الداخلي: إعدادية الإمام مالك المفتوحة للتلاميذ المغاربة، والمعهد العراقي الذي خصص لتكوين أساتذة التاريخ والجغرافيا، بانتداب أساتذة عراقيين أشرفوا على تكوين أطر تربوية مغربية معربة لتدريس هاتين المادتين لتلاميذ السلك الأول من الثانوي. وابتداء من 1965 أخلى المعهد العراقي جناحه لإيواء المدرسة العليا للأساتذة، من أجل تكوين أطر تعليمية في مختلف التخصصات. أما الجزء المخصص للتلاميذ فأحدثت به نواة السلك الثاني من التعليم الثانوية، بعد بناء ثماني قاعات للتعليم العمومي، حينها أصبحت المؤسسة تحمل اسم "ثانوية الإمام مالك". وبالإضافة إلى التعليم الإعدادي، أحدثت بالمؤسسة شعبة الآداب العصرية وأخرى للآداب الأصلية، واقتصرت على استقبال التلاميذ الذكور، إلا أنه في 1977 أحدثت الشعبة العلمية بالسلك الثانوي، بعد بناء الجناح العلمي المجاور للقسم الداخلي، وعرفت تخرج أول فوج من شهادة الباكالوريا العلمية سنة 1980، وابتداء من 1981 أصبحت ثانوية الإمام مالك مؤسسة مختلطة تستقبل الذكور والإناث. مشاهيـر المؤسسـة مر مئات وآلاف التلاميذ من ثانوية الإمام مالك، وتفرقت السبل بالعديد منهم في دروب الحياة، واستطاع الكثيرون، منهم خاصة في الجيل الذي ركز عليه الكتاب، أن يصبحوا جامعيين أو أطرا أو تقلدوا مناصب المسؤولية، أو صاروا كتابا ومبدعين معروفين، منهم المخرج مصطفى الدرقاوي والفنان التشكيلي عبد الله الديباجي والروائي محمد غرناط، والجامعي محمد البكري، والناقد السينمائي حمادي كيروم، والمسرحي محمد قاوتي، والمؤرخ عيسى العربي، وأحمد الشيخاوي والإعلامي جمال براوي وعزيز أخنوش، رجل الأعمال ورئيس الحكومة، وعزيز حسبي، الوزير السابق والكاتب، إضافة إلى أسماء قدمت شهاداتها في الكتاب منهم القاص والناقد محمد صوف، وأحمد لحلال والعربي الرباطي ومبارك بيداقي وبوشعيب المرجاني ومصطفى خولال ومحمد الداهي والكبير الفضيل وغيرهم.

ثانوية الإمام مالك… مشتل النخب

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ارتفاع عدد المسافرين بمطار مراكش

مناورات تفضح قاتل ابنه

مقالات ذات صلة