“عطيل”… الصويرة تصنع مجدا سينمائيا

قصة كواليس فيلم أورسن ويلز الذي حاز السعفة الذهبية بـ"كان" قبل حوالي سبعين سنة، أصر المخرج الأمريكي أورسن ويلز (1915 ـ 1985) على أن يسجل فيلمه "عطيل" الذي حاز السعفة الذهبية لمهرجان "كان" السينمائي، باسم المغرب، عرفانا بالوقت الرائع الذي أمضاه صاحب "المواطن كين" وهو يصور مشاهد من شريطه الأسطوري الذي دخل به التاريخ. ورغم أن النسخة السينمائية لرائعة شكسبير جرى تصوير مشاهد منها في مدن أوربية، إلا أن أسوار موغادور كانت ملهمة للمخرج الذي استطاع أن يتجاوز الصعاب ويصور شريطه بأقل الإمكانيات، بفضل تعاون سكان المدينة الهادئة التي ظلت مفتوحة على الغرباء ومرحبة بهم. في هذا الخاص تعود بكم "الصباح" إلى جانب من كواليس تصوير "عطيل" في عودته إلى جذوره المغربية. إنجاز: عزيز المجدوب حينما وطأت قدما المخرج العالمي أورسن ويلز أرض الصويرة، ذات يوم من أيام سنة 1947، قادما إليها من مراكش رفقة صديقته الحسناء الإيطالية، لم تبارح أسوارها وأزقتها وحصونها وهي تستكين في هدوء على الواجهة الأطلسية، ذهنه ومخيلته. شعر الفنان المتيم بتراجيديات شكسبير أن حبا جديدا طرق قلبه، بعد أن قاده العشق رفقة عشيقته إلى مراكش مسجلا بذلك أولى الخيانات على زوجته، لكن سرعان ما سقط في خيانة جديدة، لكن هذه المرة مع مدينة اسمها "موغادور" كانت مفاتنها خفية ولم تثر بعد انتباه المشاهير آنذاك. كانت مراكش وطنجة والبيضاء الوجهات الأولى للمشاهير خلال النصف الأول من القرن العشرين، الأولى كان تتردد عليها أسماء عالمية بدعوة من الحاكم الأول لمدينة مراكش الباشا التهامي الكلاوي، إذ نزل في ضيافته كل من ونستون تشرشل رئيس الوزراء في المملكة المتحدة، والرسام الذي افتتن بعوالم المدينة الحمراء والمناظر الطبيعية المحيطة بها التي خلدها في لوحات شهيرة، والنجم العالمي شارلي شابلن، وقبلهما الرسام جاك ماجوريل الذي شيد بها حديقة منذ أواسط عشرينات القرن الماضي ما زالت تحمل آثاره. أما طنجة فكانت بحكم وضعها الدولي خلال فترة الحماية، ملتقى لكل جنسيات العالم، فيما حظيت الدار البيضاء بشهرة عالمية، بعد أن احتضنت مؤتمر "أنفا" خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ظهر إلى الوجود فيلم "كازابلانكا" الهوليودي الذي وإن لم يصور أي مشهد منه في العاصمة الاقتصادية إلا أنه جعل اسمها يتردد على كل الألسن. أما الصويرة فكانت تعيش وضعها الاستثنائي بحكم أنها المدينة المغربية الوحيدة التي كان نصف سكانها يهودا يعيشون في تناغم وانسجام مع إخوانهم المسلمين داخل أسوارها المنيعة، مع بعض القنصليات الأجنبية المبثوثة في أزقتها، وسمعة دولية ظلت تحتفظ بها، منذ العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر، حين أعاد بناءها السلطان محمد بن عبد الله، وجعلها مدينة ل"تجار السلطان"، ووفر لها كل ما يمكن أن ينجح تلك العملية، من ميناء وتحصينات وأبراج على الطريقة البرتغالية، لتكون منطلقا للتجارة الدولية، الأمر الذي ساهم في انتعاشها وشهرتها عقودا طويلة، قبل أن يخبو ذلك الإشعاع تدريجيا وتعود للانكفاء على ذاتها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصولا إلى عهد الحماية. ظلت الصويرة محافظة على منظرها الأزلي الذي توقف به الزمن داخل الأسوار، ولم تطل مظاهر الحداثة والعصرنة إلا الفضاءات المحيطة بها خارجا، حين لجأت سلطات الحماية الفرنسية إلى تشييد بعض البنايات القليلة مخترقة المجال الغابوي والكثبان الرملية المحيطة بها، فيما كانت الحياة في مجالها العتيق محافظة على وتيرتها البطيئة وكأنها خارج حركة التاريخ، تبدو أشبه بفتاة حسناء ظلت محافظة على شبابها، لم تطل التجاعيد ملامحها رغم مسحة الحزن التي تعلوها. لعل هذه المواصفات هي ما رسخ في ذهن أورسن ويلز وهو يكتشف هذه المدينة، التي كان يتجول فيها متأبطا ذراع عشيقته الحسناء، التي انشغل عنها بحسن هذه الفاتنة الجديدة التي ملأت عليه كيانه، وهو الذي كان ذهنه مشغولا بالتحضير لعمل سينمائي جديد، يضاهي به الإنجاز الذي حققه من خلال شريط "المواطن كين" الذي اقتحم به هوليود وحاز بفضله جائزة الأوسكار مطلع الأربعينات. مــوغــادور... المــــلاذ انتهت الزيارة القصيرة ل"موغادور"، وعاد العشيقان أدراجهما، لكن ويلز الذي بدأ حينها الاستعدادات لنقل شغفه الخاص بأعمال شكسبير إلى السينما من خلال فيلم "عطيل"، واجه بعض المشاكل، إذ كان من المقرر تصوير الفيلم في استوديوهات "دولا فيكتورين" جنوب فرنسا، وتم الاتفاق على أن تصوير المشاهد الخارجية بفضاءات مختلفة بفرنسا وإيطاليا وأيضا جزيرة قبرص التي جرت فيها الأحداث كما تصورها شكسبير في مسرحيته الأصلية. كان أورسن ويلز يبحث عن الاستقلالية في الإنتاج، لأنه منذ فيلمه "المواطن كين" لم يستطع أن يتحكم في إدارة أفلامه باستقلالية تامة، بل كانت الكلمة الأخيرة تظل في قبضة منتجي هوليوود، وهو الأمر الذي توصل إليه مع المنتج الإيطالي "سكالوني" الذي تعهد بتمويل الفيلم الجديد بشكل مستقل، وهو الأمر الذي سيوفر لويلز الاشتغال على "عطيل" بكل حرية في الإبداع غير محكوم بالمعايير والقيود الهوليودية. وضع المخرج الأمريكي خطة عمله وحدد الفضاءات التي سيصور بها، إلا أن هناك عقبة أساسية هو تعذر التصوير في جزيرة قبرص، فكان الحل بالنسبة إليه أن استعاد في ذهنه مشاهد الصويرة، التي تبدت أمامه قلعة برتغالية من القرن الثامن عشر كاملة بأبراج وأسوار وأجراس وممرات سرية وأسوار وحتى مدفع برونزي يشير إلى المحيط الأطلسي، الذي سيتحول لضرورة القصة إلى البحر الأبيض المتوسط المحيط بقبرص، فقرر العودة إليها ومعانقتها بالكاميرا، بعد أن أدرك أنها هي الملاذ. وهنا يقول أورسن ويلز في حديثه عن تجربة التحضير ل"عطيل"، قائلا "اضطررنا إلى التكيف مع سلسلة كاملة من العمليات المفاجئة، والتراجعات، أدت إلى إفشال الخطة الشاملة للتحضيرات". وأضاف ويلز ضمن برنامج "فيلمينغ أوتيللو" الذي تم نشر محتواه كتابيا في كتاب خاصة عن المخرج الأمريكي ضمن سلسلة "كايي دو سينما" (دفاتر السينما) بترجمة فرنسية، "كنا نبحث عن مواقع، وأفضل مكان ليعوض قبرص دون يكون قبرص، فكانت الصويرة بأسوارها الرائعة حيث سجلنها العديد من اللقطات". ويتابع صاحب "الرجل الثالث" "عندما وصلنا إلى الصويرة (كان ذلك في فبراير 1949) مع طاقم إيطالي مكون من حوالي أربعين فردا، كان معنا أنشيز بريزي أحد أعظم مصوري الكاميرا الإيطاليين (...) اضطررنا إلى النزول في محلات متواضعة، وهو ما كان موجودا فقط آنذاك في تلك المدينة". وأضاف ويلز أن الطاقم عندما حل بمدينة الرياح، بدأ الاستعدادات، في انتظار وصول الملابس والاكسسوارات من إيطاليا، لكن "في اللحظة التي كانت تقلنا الطائرة من باريس إلى المغرب، كان المنتج سكاليرا الرجل الكبير للصناعة السينماتوغرافية الإيطالية قد أعلن إفلاسه، لكننا لم نعلم بالأمر إلا في ما بعد، أي بعد فوات الأوان". والنتيجة كانت مخرجا مع حفنة ممثلين وطاقم تصوير ضخم بكاميرا وأسطوانات تصوير، والعمل يجب أن ينجز بشكل أو بآخر، ولا مجال للاستسلام للورطة التي وقع فيها الجميع، وعلى رأسهم أورسن ويلز الذي بدأ القلق والتوتر عليه واضحين، كما يحكي ذلك صديقه الممثل مايكل ماك ليامور الذي دون بدوره "يوميات تصوير عطيل" الذي نشرت مقتطفات منه ضمن الكتاب نفسه، إذ يحكي كيف أن عيني ويلز كانتا "دائما محمرتين ومحتقنتين بالدم" نتيجة الأرق والسهاد والتفكير الذي أعياه لإيجاد حل. وهنا يقول ويلز"كان لدي بعض المال، الذي يكفي فقط لأسبوع أو أسبوعين. في الوقت الذي كان يحاول فيه آخرون بأوربا يسارعون الزمن للبحث عن موارد إضافية لإنقاذ المشروع (...) جاءتني فكرة أنه بإمكاننا صناعة ملابس خاصة بالفيلم بالاستعانة بيهود موغادور المحليين الذين كانوا منتشرين بأحيائها ويعيشون في وئام مع "العرب" (يقصد السكان المسلمين)، ومشهورين بمهاراتهم في الصناعات اليدوية". لكن المشكل يتابع صاحب "المواطن كين" أن الملابس التي طلبها لن تكون موجودة قبل عشرة أيام على أقل تقدير وهو ما يشكل ورطة إضافية، إذ سيضطر إلى انتظار مزيد من الوقت، في حين أن إقامة طاقم ضخم مكلفة من الناحية المالية، وفي الوقت نفسه لا يمكن المكوث طيلة هذه المدة دون تصوير. لكن كيف ينطلق التصوير دون ملابس؟ وهل بالإمكان تصوير مشاهد دون أن يرتدي فيها الممثلون ملابس؟. كانت تلك الأسئلة وغيرها تقض مضجع أورسن ويلز وهو يقوم بجولاته الليلية بالصويرة، متأملا أسوارها، ومخترقا دروبها وأزقتها الضيقة، مقاوما الأرق والسهاد، إلى أن وجد الفكرة على طريقة "أوريكا أرخميدس"، وهي تصوير مشهد في حمام، يكون الممثل فيه في غير حاجة إلى الملابس، ويتعلق الأمر بالمشهد الشهير في الفيلم لمقتل شخصية "رودريغو". هنا يقول أورسن "هكذا اخترعنا مشهد الحمام، وكل ما كان علينا فعله هو إحاطة رؤوس الشخصيات بالمناشف وتصويرها فوق الحزام، وبالمناسبة لم يكن الفضاء الموجود بالمشهد حماما فعلا، بل كان سوقا عتيقا للسمك (مازال موجودا بالمدينة إلى يومنا هذا) فاقترضنا بعض البخور من الكاتدرائية المجاورة لملء الحمام بالبخار، وهكذا تم تصوير المشهد الخطير والأهم وسط الروائح المختلطة للبخور مع الأسماك المتحللة". بعد انقضاء أجل الأيام العشرة أصبحت الملابس جاهزة، وكانت مصنوعة من ثوب "الخيش" الخاص بالأكياس التي كانت توضع فيها المحاصيل الزراعية، فيما اهتدى ويلز إلى صناعة دروع المحاربين، كما يقتضيه سياق القصة، من علب السردين بعد لحمها عند الحدادين، وهكذا صورت بقية المشاهد بفضاء السقالة والميناء، قبل أن ينتقل الطاقم إلى "مازغان" (الجديدة) والتي صورت بها مشاهد بمسقاتها البرتغالية، ويتغلب أورسن ويلز على المصاعب التي واجهته وواجهت فريقه ويخرجون إلى الوجود تحفة سينمائية استغرق تصويرها بشكل متقطع سنتين وحازت عن جدارة السعفة الذهبية ل"كان" بروح "موغادور" والمغرب الحاضرة فيها. أزولاي: شاركت في "عطيل" طفلا قبل أن يكون أندري أزولاي مستشارا في عهد ملكين، ورجل إعلام وتواصل ومال وأعمال وفاعلا ثقافيا، كان واحدا من وجوه الصويرة التي شاركت في تصوير شريط "عطيل" حين حل طاقمه بالمدينة نهاية الأربعينات. ويحكي أندري أزولاي، في حديث خاص به "الصباح"، عن هذه المرحلة قائلا "كنت حينها أبلغ من العمر ثماني سنوات فقط، حين وجدت نفسي ضمن أطفال المدارس الصويرية الذين تم اختيارهم للمشاركة في تصوير مشاهد الفيلم، الذي شكل حضور طاقمه آنذاك حدثا كبيرا بالنسبة إلينا". ويضيف أزولاي "كانت المشاهد تتطلب توفير عشرات المحاربين وهكذا وجدت نفسي أرتدي ملابس حربية، وأحمل درعا مصنوعا من علب سردين أعيد تدويرها، وأركض على أرضية السقالة والميناء حين نتلقى الإشارة من المخرج، وكنت أتقاضى أجري قطع شكولاته ". ويتذكر مستشار الملك شخصية أورسن ويلز بهيأته الضخمة وقامته التي تناهز المترين وهو يجتاز أزقة ودروب الصويرة، ويعبر من قوس باب السبع وهو ذاهب إلى حانة تابعة لفندق "الجزر" حيث كان يتردد عليها يوميا بعد انتهاء التصوير. ومن الطرائف التي يتذكرها أزولاي أن ويلز كان يزور محل حلويات شهير بالصويرة باسم "با إدريس" حيث كان يقتني منها كميات وافرة يوزعها على الأطفال، ومن بينهم أزولاي نفسه، إذ كانوا ينتظرون بشغف هذا الموعد اليومي لهذا المخرج الضخم وهو يتسلى مع أطفال المدينة ويقضي معهم أوقاتا طيبة. ويتابع المتحدث نفسه أن العرفان بالجميل كان متبادلا بين أورسن وأهل الصويرة، إذ احتضنت في 1992 بمناسبة مرور أربعين سنة على تتويج "عطيل"، متلقى تاريخيا، بحضور بعض أفراد طاقم العمل منهم زوجة "تراونر" مصمم ديكور الفيلم، وأطلق اسم "أورسن ويلز" على إحدى الحدائق والساحة التاريخية للمدينة التي لم تنس المرور الجميل لهذا المبدع.

“عطيل”… الصويرة تصنع مجدا سينمائيا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

حاملو "راميد"... "ماقدو فيل"

تحت الدف

مقالات ذات صلة