انتشار الظاهرة تعبير عن فشل التنشئة الاجتماعية لدى الأسر وتخلي المدرسة عن وظيفتها التربوية هيمن سلوك الغش لدى المغاربة منذ ثمانينات القرن الماضي في كل مناحي الحياة، وتم رفع قيمته، وتبخيس قيم العمل والاجتهاد والمنافسة الشريفة، فانقلبت حياة المواطنين رأسا على عقب وكثرت جرائم النصب والاحتيال والتحايل على القانون بهدف تحقيق الربح السريع، على حساب مواطنين آخرين تعرضوا إلى ظلم شديد. والغش ظاهرة اجتماعية ونفسية خطيرة نخرت المجتمع ومست كل طبقاته الاجتماعية، إلى درجة أن البعض روج مازحا أن الشيطان، الذي يقال عنه إنه شرير، ويكره الناس، ويوسوس إليهم لخرق القانون، وممارسة الكذب والغش، قرر "لحريك" خارج أرض الوطن، لأنه أصبح عاطلا عن العمل، بسبب تفوق المغاربة عليه في فنون " التخلويض"، بل إنهم استبقوا "الوسوسة الشيطانية" لإنجاز أعمال شريرة بهدف تسلق السلم الاجتماعي وربح الأموال الطائلة. وهناك آلاف النماذج من المواطنين الذين انتقلوا فجأة، من وضعية "لحمارة" إلى "الطيارة"، أي من الفقر الشديد إلى الغنى الفاحش، في بضع سنين، ودون اجتهاد. تربية الشارع والغش ظاهرة خطيرة وسلوك مشين وله صور متعددة، وأشكال مختلفة، بدأت تأخذ منحى تصاعديا وانتشارا واسعا وسط المجتمع، أولا، بسبب فشل وظيفة الأسرة في تربية أطفالها على تبني قيم الاجتهاد والتنافس الشريف، والدفاع عنهما لتحقيق الأحلام والرغبات والطموحات، قصد تحسين الوضع المادي والاجتماعي، وثانيا لتخلي المدرسة عن القيام بوظيفتها التربوية التكميلية، والتركيز فقط على التعليم لنيل الشهادة والتوظيف. وانتشار الغش، تعبير عن فشل التنشئة الاجتماعية لدى الأسر المغربية التي لم تعد تربي أبناءها على قيم التنافس والعمل والاجتهاد، عملا بمقولة "من زرع حصد"، و" من سهر الليالي نال العلا"، وتركتهم عرضة للشارع لتربيتهم على قيم الانحراف، داخل فضاء يتشكل من أشخاص هدفهم الخروج عن المألوف في السلوك المتعارف عليه، واعتبار ذلك بناء لشخصية قوية متمردة، فيما حقيقة الأمر مخالفة لذلك، إذ يسهم الشارع المغربي في تكوين شخصية مقهورة ومنخورة من الداخل، لا تتمتع بحرية اتخاذ القرار في اللحظات الحرجة، وتتعرض لهزات نفسية، وانهيار عصبي في أول مواجهة لها لأي مشكل ولو كان بسيطا. الربح السريع أصبح الغش بالمغرب يحمل معنى مخالفا لمضمونه السابق المدان، ليصبح ذا قيمة قصوى لأنه يتم بموجبه معانقة النجاح، وتحقيق الربح السريع، إذ يبحث المغاربة عن مبررات من الواقع لتبرير الغش، عبر ضرب المثل بما يحققه الغشاش من نجاح في الامتحان، أو مراكمة أرباح في التجارة والصناعة والتصدير والاستيراد، بفضل الغش والتدليس في أداء الضرائب، أو في جودة المواد المتاجر فيها، أو في الصناعات، مقارنة بالمجتهد الذي رسب في الامتحان، أو التاجر الذي تعرضت تجارته إلى الكساد، أو صناعته إلى التلف لأنه لا يغش. وشهدت ظاهرة الغش تغيرا حتى في درجة تمثل المواطنين المغاربة لها، إذ لم تعد مرادفا للنبذ، والانتقاد، والتبخيس، والسخرية والتهكم منها، واعتبارها غير قانونية، وتمس بسمعة الناس، وتعبر عن تدني درجة إيمان المؤمنين، طبقا للحديث النبوي" من شغنا فليس منا"، بل أصبحت مرادفا في تمثل المغاربة، لقيم النجاح وتحقيق الأماني وتجاوز المشاكل في شهور وسنوات قليلة. والأخطر من ذلك أن أسرا تشجع أطفالها منذ الصغر على الغش في الامتحانات لتحقيق النجاح. ما يعني أن الأسر المغربية تعرضت لمسخ كبير يتطلب مراجعة وظيفتها من قبل الدولة، حتى لا يجد المغاربة أنفسهم غدا بمجتمع معتوه ويعاني أمراضا نفسية وعقدا لا حل لها. فواتير صورية ضاعت خزينة الدولة في الملايير من الدراهم لأن أغلب المقاولين المغاربة والتجار، والمهنيين، يعتبرون أداء الضرائب، سيفا مسلطا عليهم، بخلاف الأوربيين، الذين يعتبرونها صفة لحيازة المواطنة، لذلك يغش المقاولون المغاربة للتهرب من أداء الضرائب، إذ تفقد ميزانية الدولة سنويا، 80 مليار درهم. وقالت نادية فتاح، وزيرة الاقتصاد والمالية، أخيرا، بمجلس النواب، إن مصالح وزارتها وجدت غشا وتلاعبا في أداء فواتير صورية ومزورة لمعاملات مالية وهمية، قصد استرداد الضريبة على القيمة المضافة. ويغش المغاربة في بيع منتجات بتزوير مدة صلاحية المنتوج، والتلاعب في مصدر المنتوج، إذ منعت وزارة التجارة والصناعة، قطع غيار سيارات، كتب عليها "صنع بألمانيا" وهي في الحقيقة مستوردة من الصين وغير مصنفة، ومثلها بطاريات شحن الهاتف المحمول، التي تسببت في حرق منازل كثيرة. زيت وعسل وبيض ويغش المغاربة في بيع زيت الزيتون، والعسل، وبيض الدجاج، وغيره بالنسبة للباعة الجائلين قبل رمضان، وحينما يكشف المشتري غش البائع يرد هذا الأخير، أنه "غش لكي يجمع المال تحضيرا لرمضان"، ما يثير السخرية، والامتعاض لأنه جمع بين المتناقضات في سلوكه لتبرير الغش. ويغش المغاربة في بناء الطرق التي تظهر عيوبها بعد أول قطرة ماء، وفي بناء بعض العمارات والمرافق الاجتماعية، إذ سقطت أخيرا عمارة في طور البناء، بسبب الغش في مواد البناء، وحتى إن ظلت العمارة قائمة فإن العشرات ممن اقتنوا سكنا اجتماعيا، اضطروا إلى إصلاح أمور لم تنجزها المقاولات التي اشتغلت في إطار المناولة، بالشكل المطلوب وغشت بشكل واضح. والكل يطالب بأن يصبح المغرب مثل أوربا، أو أمريكا أو الدول الصناعية الكبرى، وفي الوقت نفسه يمارس المغاربة الغش الذي يعرقل أي تنمية أو تطور أو تقدم، بل إن المغربي الذي هاجر إلى الخارج يتبنى سلوك العمل الجدي ويصبح مناهضا للغش والتحايل على القانون. أحمد الأرقام