أوراش للدمج الاجتماعي وكسب احترام الذات واستعمال الإبداع للتخفيف من صعوبات التمدرس تهدف الورشات الفنية المخصصة للأشخاص في وضعية إعاقة ذهنية إلى تكريس التفاعل وترسيخ الاندماج وتقبل الاختلاف، ارتكازا على اعتبار التعبير الفني وسيلة مهمة للاندماج الاجتماعي، يساهم في التنمية البشرية، إذ باستثناء بعض الإيديولوجيات المتطرفة تأكدت حقيقة معترف بها عالميا، مفادها أن إطلاق العنان للخيال والإحساس الفنيين والتعبير عنهما، أخذ مكانه بين العوامل الأساسية لرفاهية الإنسان في واحدة من أكثر نظريات العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية. إنجاز: ياسين قطيب بدأت تتأكد فاعلية الأنشطة الإبداعية في علاج التوحد على الصعيد العالمي وأخذت جمعية التدخل المبكر للأطفال في وضعية إعاقة البادرة لإطلاقها في المغرب، بالتعاون مع مختبر علم الاجتماع وعلم النفس ومجلس مدينة البيضاء، بتنظيم منتدى خاص يهدف إلى فتح لقاءات مباشرة بين الأسر وأطفال التوحد مع الفنانين والخبراء والباحثين لمناقشة العلاقة بين الفن والتوحد، سواء تعلق الأمر بالسينما أو الغناء أو الموسيقى أو المسرح أو الفنون البصرية والأدب والرقص. واشتملت أجندة الملتقى ندوات علمية أكاديمية مختصة لعرض نتائج البحوث والدراسات حول فاعلية الأنشطة الفنية ومساهمتها في علاج التوحد، وتجميع معطيات تتيح إنتاج فيلم وثائقي عن الفن والتوحد، بالإضافة إلى ورشات عمل فنية تتوزع بين الفنون البصرية والموسيقى والرقص والمسرح يشرف عليها ويقودها علماء نفس وفنانون ومهنيون، وعروض يقدمها أشخاص يعانون اضطرابات طيف التوحد وجلسات استماع إلى شهادات أمهات آباء وأفراد أسر أطفال توحديين ومهنيين وفنانين. الاعتراف الاجتماعي يعتبر المتخصصون في علم النفس والاجتماع أن التعبير الفني عامل أساسي في التنمية المجتمعية، شريطة التفكير في الظروف التي يمكن بموجبها لهذا العامل أن يعزز رفاهية الفرد بشكل فعال، وبشمولية أكثر اندماجه الاجتماعي. لكن خصوصية الأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد، أن قدراتهم المعرفية وطرقهم في معالجة المعلومات، تمنعهم من الاستجابة للمعايير المتعارف عليها للتعبير الفني، ذلك أن الظروف المواتية لتنمية إنتاجهم الفني وتعبيرهم ليست هي نفسها تلك المتاحة للأشخاص الذين لا يعانون أي اضطراب، وبذلك وجب تطوير بيئة الإنتاج الفني وتكييفها حسب احتياجاتهم. ورغم أن الفن التشكيلي للشخص في وضعية إعاقة يمكن تشبيهه بالفن المعاصر، إلا أن إنتاجه الفني يستجيب بصعوبة لتوقعات الجمهور، سواء تعلق الأمر بلوحة أو نحت أو أداء مسرحي، لا يتماشى بشكل مباشر مع الفن المعاصر، في ما يخص المعايير المشتركة للتقدير الجمالي. الدمج واحترام الذات تمييز النظريات الحديثة في موضوع الدراسات الاجتماعية بين بعدين أساسيين للاندماج الاجتماعي، بدءا من الرفاهية التي يشعر بها الفرد، والتي يعبر عنها وتتم ملاحظتها من الخارج من خلال سلوكه المرن وتكيفه الاجتماعي، كمصدر احترام للذات، من شأنه أن يعزز الرغبة في المشاركة الاجتماعية ويولد شعورا بالاندماج الاجتماعي. لكن ذلك يتطلب في نظرها أكثر من هذا البعد الذاتي، وهو ما يفتح الباب للتفكير في المحيط ، لأن احترام الذات يسهل الاعتراف الاجتماعي ؛ والاعتراف يولد احترام الذات، لأن الفرد لا يمكن أن يشعر برفاهية اجتماعية كبيرة حينما يكون عرضة لمواقف الاستصغار، وحتى الازدراء، وهو لا يتمتع بالاعتراف الضروري للاندماج الاجتماعي. ويجمع أهل التخصص على أن التعبير الفني للأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد، وسيلة مهمة لتطورهم الشخصي واحترامهم لذاتهم. فالمراكز الفنية المتخصصة تختبر ذلك بشكل يومي، ودفعت النتائج إلى طرح أسئلة، من قبيل إلى أي مدى يمكن أن يكون موقف الجمهور حيال الإنتاج الفني لهؤلاء الأشخاص، مهما كان حماسه، نتيجة لشكل من أشكال الشفقة والإحسان أكثر من أنه نتيجة تقدير حقيقي لجمالية العمل الفني. وحتى لو زاد احترام الفنان لذاته من خلال أدائه أو إنتاجه، فلن يكون قد اكتسب بعد اعترافا اجتماعيا حقيقيا، لذلك وجب فهم الدور الشامل الذي يمكن أن يلعبه الفن في حياة الأشخاص في وضعية إعاقة، شريطة القدرة على التمييز بين التأثير الذي يمكن أن يحدثه التعبير الفني على تقدير الذات، وتأثيره على الاعتراف الاجتماعي. الوساطة العلاجية يمكن للتدخل العلاجي بواسطة الفن من التعامل مع الفرد بعيدا عن زاوية الإعاقة أو صعوبة التكيف، بالقطيعة مع المقاربة الاختزالية التي تنظر للشخص في وضعية إعاقة من منظار العجز، وبذلك يهدف هذا التدخل العلاجي بشكل أوسع إلى تحسين جودة حياة الشخص ومساعدته على تطوير مهاراته المتفردة وتشجيعها من خلال تفردها. ومن خلال توفيره مساحة من أنماط التعبير المختلفة، والتي تأخذ بعين الاعتبار القيود الوظيفية التي فرضتها وضعية الإعاقة، يتيح العلاج بالفن إمكانية إنشاء رابط مستقل عن المهارات اللغوية، خلال العلاقة الثنائية التي تربط المعالج بالشخص في وضعية إعاقة. وبالمثل، فإن العلاج بالفن يمكن أن يسمح للمريض بإحياء نرجسيته من جديد، من خلال بناء تجارب ترفع من تقديره لذاته، بإنتاج مواضيع ذات قيمة اجتماعية، على استعادة الشعور بالكفاءة وتقدير الذات لدى الشخص الذي أضعفته وضعية الإعاقة. وتقترح النظريات عددا من مسالك العلاج بالفن تبدأ بالانخراط في نشاط مشترك يعتمد على الخيال والإبداع، مع محاولة استعادة متعة التفكير والتخيل وإنتاج موضوع يمكن مشاركته اجتماعيا، واكتساب ثقة أكبر بالنفس من خلال النشاط الفني، واستعادة صورة الذات بشكل أفضل من خلال تعزيز تنمية الشعور بالكفاءة، ثم بتحفيز الإبداع عاملا من عوامل التصالح مع النفس، مما يساعد على التغلب على مختلف الصعوبات المتعلقة بالإعاقة، ومحاولة جعل الإحساس أكثر مرونة حتى يتسنى للفرد أن يعبر عنه بسهولة، والتواصل الاجتماعي من خلال تعلم التقنيات الفنية، وصولا إلى الاحتراف الفني. مسؤولية الفنان المؤطر تتمثل المراحل المختلفة للخطة العلاجية في دعوة الفرد للتعبير عن وضعه، وأن يرمز إلى وضعية الإعاقة لمعالجة المشاعر المرتبطة بها قبل دمج موقفه الذاتي في سرد شريط حياته، من خلال تقديم تجربة إنسانية مقرونة بالمشاركة الفنية ومهارات التواصل وتزويده بما يساعده على بناء هويته المتفردة. ويعتبر الفنان المؤطر مسؤولا عن تلقين الإبداع الجماعي أو الفردي، يقترحه ويكيفه ويدعم المشاركين في تنزيل أهدافه، ويساعد الأطفال على التعبير عن دواخلهم بعمق باعتماد منهج بيداغوجي محدد للدعم والتمكين والتجريب، من خلال التقدم وإعادة الانطلاق، بإثارة اهتمام خاص لعالم المشاركين ولتعبيرهم ولتاريخهم وقدراتهم وحدودهم، وما يظهر حديثا في عملهم من أجل تطوير إمكاناتهم وصقلها. وتسمح هذه الطريقة للفنان في وضعية إعاقة، بمتابعة الإنجاز الكامل لقدرته الإبداعية لأنه لا يعمل على قيادة هذا الشخص، ولكنه يرافقه جيدا في عمله الفني ولهذا، تعتبر ورشة عمل المركز الفني بمثابة دعم وإثبات "أنا" الشخص بعيدا عن وضعية إعاقته، كما أن وجود فضاء من الحرية والمجهول ضروري للتعبير الفني، ذلك أن كل شيء لم يتم إنتاجه بعد يسير بالموازاة مع شهادة الثقة في الفنان في وضعية إعاقة وقدراته الشخصية على الإبداع والتطوير وإدراك الذات. تطور مستمر تتقاسم مسار العلاج بالفن ثلاثة تطورات مهمة في سياق التعبير الفني الأسرية والمهنية والتقنية، وهي تستحق تسليط الضوء عليها، فالمقاربة الأسرية حاضرة لأن العمل يتكون من التبادلات اليومية بين الفنانين المؤطرين والفاعلين الاجتماعيين والمشاركين، الجميع فيها يعرف الجميع في هذا التنظيم المبني على تقريب الرؤية، إذ يتم فيها الحديث عن الشخص نفسه، وإبداعاته ومكانته في المشروع ككل، بعيدا عن إعاقته، وهنا يتعرف المشاركون بشكل وثيق على ورشة العمل الخاصة بهم، على المشروع بأكمله وعلى إبداعاتهم الجماعية. وبالإضافة إلى البعد الأسري، هناك المسار المهني الذي أخذ دورا متزايد الأهمية على مر العقود، بسبب مساهمة الفنانين المؤطرين، الذين تتمثل وظيفتهم، من بين أخرى ، في نشر وتداول أعمال الفنانين في وضعية إعاقة، وبالتالي فهم يعملون بشراكة مع أماكن النشر مثل "متحف لييج"و "فن وهوامش بروكسل"، ، وأماكن انتشار الفن المعاصر، إذ منذ حوالي ثلاثين عاما، سهل رفض السلطات العامة الاعتراف بمبادرات الجمعيات في توسيع رقعة هذا النشر، وبذلك أصبح الضامن المحتمل للاعتراف العادل بالشخص في وضعية إعاقة عقلية كفنان. ويبدو أن المساهمة المحتملة لتقنيات الاتصال الجديدة مهمة في ما يخص هذا المجال، إذ أظهرت تقنيات المعلومات والتعبير بالفعل إمكاناتها الكبيرة في مجال التواصل للأشخاص في وضعية إعاقة، وقد تم بالفعل تحديد المسارات المتفائلة لاستخدامها في سياق التعبير الفني، بدليل أن هناك إنتاجات فنية حقيقية من خلال الأجهزة الذكية، كما يتضح من العمل الأخير "لديفيد هوكني". ويتم حاليا تنفيذ أساليب تربوية وأعمال بحث معدلة لدراسة وتطوير استخدام هذه التقنيات للإنتاج الفني، من قبل الأشخاص ذوي الإعاقات العقلية، و نذكر هنا الوسائل المهمة التي نفذتها في هذا المجال صناديق دعم "مارغريت ماري دولا كروا". وتتمتع تقنيات التواصل الحديثة بالنسبة للأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد بدور مساعد على الدمج الاجتماعي من ناحيتين بشكل مباشر بالنظر إلى المكانة التي تحتلها التقنيات الجديدة في مجتمعاتنا الرقمية، فإن الوصول إلى استخدامها هو في حد ذاته وسيلة دامجة محتملة من خلال التغلب على الفجوة الرقمية، ثم بشكل غير مباشر، على اعتبار أن تقنيات المعلومات والتعبير يمكن أن تشكل وسيلة فعالة للتعبير الفني، الذي يولد احترام الذات والاعتراف الاجتماعي وتقرير المصير وتمثيل الذات. تخفيف صعوبات التمدرس يمكن للفن أن يكون في خدمة إشكاليات الإعاقة قضية اجتماعية وإنسانية، مثل طيف التوحد، حيث يمكن للتعابير الفنية بألوانها المختلفة وصيغها الغنية أن تساهم في التخفيف من صعوبات الإدماج المدرسي والاجتماعي لهؤلاء الأشخاص، قصد التعبير عن معاناتهم وإبراز الصعوبات التي يواجهونها، إذ تمتد العلاقة بين التوحد والفن إلى العلاج والتدخل وإعادة التأهيل. هذا ما يسمى عموما "العلاج بالفن" أو "ورشة العمل العلاجية بوساطة الفن" أو "ورشة العلاج النفسي الوسيط" أو "ورشة العمل للتعبير الإبداعي"، وأيا كانت التسمية، فإن الأنشطة الفنية تعتبر أدوات فعالة لتطوير العديد من المهارات والوظائف، التي تكون ناقصة لدى الأطفال الذين يعانون اضطرابات طيف التوحد ، مثل المهارات التواصلية أو الاجتماعية أو العاطفية أو الإدراكية والحسية، وقد ثبت ذلك من خلال التجارب السريرية والدراسات التجريبية، والتي تشكل امتدادا لكل المحاولات التاريخية القديمة في الطب النفسي وعلم النفس، التي حاولت استثمار الفن في خدمة الصحة العقلية.