قد تخبو وتتضاءل، أو تختفي لحظات، لكنها لا تموت أبدا. الإنسانية معطى وجودي ثابت وأصيل ومتأصل منذ الخلق الأول، ولا يمكن محوها بمجرد خلافات واختلافات عابرة، أو حتى بحروب ونزاعات وصراعات دامية. لذلك، كان لا بد أن يأتي "ريان" من أقاصي جبال الريف، ليذكرنا جميعا بأن هناك أشياء جميلة فينا، ينبغي أن نحافظ عليها ونستثمر فيها، ونشد عليها بالنواجذ. قد يكون "ريان" اليوم، ويمكن أن يكون آخرون في الأيام والسنوات المقبلة. بشر أنقياء سيُعهد إليهم (في لحظات فارقة من تاريخ البشرية) حمل الرسائل العظمى، وتقديم الدليل بأن قيم التضامن والحب والتعايش والتعاون والتطوع والصبر، هي الأبقى والأصح والأطول عمرا، والباقي كله مشاعر مزيفة. ريان كان، أيضا، درسا مغربيا بامتياز. هذا الطفل الذي لم يتجاوز خمس سنوات، كان سببا في أن نعيد اكتشاف الرجال والنساء الأحرار، ونفض الغبار عن المعادن النقية، التي تسكن هذه الرقعة الجغرافية من العالم. رجال وقاية وخبراء في الإنقاذ، ومهندسون وطوبوغرافيون وحرفيون وسائقو آلات ضخمة للحفر بأنواعها، وحفارون ونباشون بالأيدي، ومتطوعون من جميع الأعمار، ومتدربون في الإغاثة والهلال الأحمر ومجتمع مدني ورجال درك وجيش وعناصر من القوات المساعدة ورجال سلطة وآخرون مما لا يعد ولا يحصى. كلهم كانوا في الموعد، واصلوا الليل بالنهار على امتداد 100 ساعة، دون كلل أو شكوى، أو تذمر، هدفهم الأسمى إنقاذ روح تنبض تحت الأنقاض، واستطاعوا أن يحولوا جبلا من مكانه في أيام، من أجل الوصول إلى الصغير ريان في عمق أكثر من 32 مترا. إنها المعجزة المغربية التي تابعها العالم بأسره وحبست قلوب الملايير وشدت الانتباه لخمسة أيام متتالية، وأوقفت القنوات الدولية الكبرى برامجها، وجعلت من مسرح الإنقاذ بشفشاون نقلا مباشرا بالصوت والصورة دون انقطاع. إنها واحدة من الملاحم الإنسانية التي صنعها شعب وملك عظيم، ظل يتابع عن كثب المجريات والأحداث والأخبار، دقيقة بدقيقة، وهو يحث المسؤولين بمختلف مستوياتهم، على بذل أقصى المجهودات والاستعانة بجميع الإمكانيات والخبرات الموجودة، وتعبئة الموارد البشرية واللوجستيك للوصول إلى مكان الطفل، مهما كلف الأمر. وجاءت تعزية الملك ومكالمته الهاتفية لوالدي الطفل مباشرة بعد استخراج جثته، لتؤكد خصال قائد كبير يحب شعبه. يحزن لأحزانهم ويفرح لأفراحهم، ويساندهم في السراء والضراء. لكن، في مثل هذه المواقف الكبرى، يوجد دائما من يفسد الحكاية، كما يقول القاص المغربي أحمد بوزفور، بل يفسد كل شيء في إصرار منقطع النظير على اقتراف البشاعة والقبح. البشاعة التي زينت لبعض المؤثرين وأصحاب المواقع والصفحات وعبيد "أدسنس" تحويل مأساة طفل غارق في بئر إلى مادة لجمع المشاهدات وحشد "اللايكات" التي تصرف إلى دولارات يتوصل بها هؤلاء نهاية كل عملية. لهؤلاء ولغيرهم من تجار الحروب وأغنيائها، نقول لهم خسئتم. فقد كانت لكم فرصة أن تكونوا بشرا، لكنكم اخترتم الطريق الخطأ.