فقـدان الثقـة مـازال مسيطـرا

استمرار تغلغل سلطة التعليمات واستغلال النفوذ ضدا على الدستور بقلم: الدكتور الحسين الراجي * عجل "الربيع العربي" باقتراح دستور جديد للمملكة، صودق عليه في استفتاء شعبي سنة 2011، كان من أبرز مضامينه ما تضمنه الباب السابع منه، الذي أعلن لأول مرة عن قيام سلطة قضائية بالمغرب، مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ونص على المبادئ المؤطرة لهذا الاستقلال. تم فتح حوار وطني لإصلاح منظومة العدالة سنة 2012، والذي وإن كان يضم كل المتدخلين في مجال العدالة، إلا أن الإشراف عليه، قد أسند للجهاز التنفيذي ممثلا في وزارة العدل. وقد صدر عن هذا الحوار، ميثاق إصلاح العدالة في يوليوز 2013، تضمن مجموعة من التوصيات والإجراءات المتعلقة بالإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، تلاه لاحقا صدور القوانين التنظيمية الضامنة لاستقلال السلطة القضائية، ويتعلق الأمر خاصة بالقانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الصادر في 24 مارس 2016، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 6456 بتاريخ 14 أبريل 2016، ص 3160، وكذلك بالقانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الصادر بتاريخ 24 مارس 2016 والمنشور بالعدد نفسه من الجريدة الرسمية ص 3143، في انتظار صدور القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة الذي لم ير النور لحد الآن. سؤال الاستقلالية بعد كل هذا المسار، لازال سؤال استقلال السلطة القضائية يطرح نفسة بإلحاح شديد، خاصة في ظل تنامي الإحساس بعدم ثقة المواطنين في العدالة، سيما مع استمرار تغلغل سلطة التعليمات واستغلال النفوذ في توجيه مسار القضايا، ضدا على مقتضيات الفصل 109 من الدستور، الذي يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ويمنع تلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات، وتحثه على أن لا يخضع لأي ضغط. وهو الفصل الذي أثاره القضاة عندما حاول وزير العدل السابق المصطفى الرميد وقيادة حزبه، الضغط على قاضي التحقيق بفاس بمناسبة الملف المفتوح أمامه ضد حامي الدين، البرلماني والقيادي في حزب الوزير، في قضية اغتيال الطالب اليساري بنعيسى الجيد، وهي الواقعة التي لم يتخذ بشأنها المجلس الأعلى للسلطة القضائية ولا أية جهة أخرى أي إجراء يذكر. كورونا كشف الهشاشة سؤال استقلال القضاء، فرضته بحدة كذلك ظروف وشروط المحاكمات طوال فترة جائحة كورونا، التي كشفت هشاشة هذا الاستقلال، إذ صدرت نصوص وإجراءات عن الجهاز التنفيذي، وشملت إغلاق المحاكم خلال فترة معينة، وتم فرض نظام المحاكمة عن بعد، وإلزامية جواز التلقيح للولوج للمحاكم، وهي كلها إجراءات خارقة للدستور وللقوانين الجاري بها العمل. ليس هذا فحسب، بل إن هذه الإجراءات أوكل تنفيذها للسلطة القضائية، في شخص المسؤولين القضائيين أو من يمثلهم، إذ أن أعضاء السلطة القضائية هم من يقفون أمام أبواب المحاكم لمراقبة سير هذه الإجراءات الاحترازية، مع العلم أن وزارة العدل هي المسؤولة عن بنايات المحاكم وعن الولوج إليها، وهو ما عبر عنه وزير العدل السابق عندما بادر القضاة لتعقيم المحاكم بداية الجائحة، حيث عبر عن اعتراضه على ذلك، معتبرا بأن المحاكم شأن خالص لوزارة العدل دون غيرها. التبعية المالية للعدل أما وزير العدل الحالي، فقد أكد في أول تصريح له بعد تسلم مهامه على أنه سيتولى مراجعة الوضعية المادية للقضاة من أجور وسكن وسيارات وتجهيز مكاتبهم بالمحاكم، وهي كلها أمور تذكر من نسي بأن النصوص القانونية الصادرة بتنزيل استقلال السلطة القضائية، لم تكرس إلا تبعية هذه السلطة للجهاز التنفيذي، بمنطق أن من يملك لقمتك يملك قرارك. هنا ينبغي التذكير بالهيأة المشتركة بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي تم إحداثها آلية للتنسيق بين المؤسسات الفاعلة في منظومة العدالة، في مجال الإدارة القضائية، بهدف توفير الشروط اللازمة لضمان التدبير الأمثل للإدارة القضائية، وتأمين حسن سير مرفق العدالة، وهي الخطوة التي يرى فيها المتتبعون أنها مبادرة لمأسسة الوصاية لا غير. الاستثمار المستقبلي إن استقلال القضاء ليس مجرد مبدأ دستوري أو نص تنظيمي، إنه مشروع مجتمعي متكامل غير قابل لأية تجزئة، يشمل النصوص المنظمة له، ولكنه لن يكتمل إلا بسن سياسات عمومية في كل القطاعات التي تضمن تحقيقه، بدءا بقطاع التربية والتعليم الذي ينتج عقلية وفكر المواطن سواء الذي سيصبح قاضيا أو متقاضيا، محاميا أو خبيرا، موظفا لكتابة الضبط أو ضابطا للشرطة القضائية، مرورا بقطاعي الثقافة والإعلام اللذين يؤطران المعارف والمدارك، ويضعانها على سكتها الحقيقية ويؤطرانها بمبادئ المواطنة، وانتهاء بقطاع المالية الذي آن الأوان ليقتنع بأن أكبر استثمار يمكن لأي بلد أن يتقدم به هو الاستثمار في العنصر البشري، وبأن أية نفقات على التكوين وإعادة التكوين والتكوين المستمر، أولى من الإنفاق على البنايات التي قد يهدمها جهل المواطن. لذلك فإن أغلب الأمم التي نجحت في تكريس استقلال القضاء واقعا وممارسة، مرت أولا من مرحلة تكريس استقلال القاضي، الذي هو قبل أي شيء آخر مجرد مواطن واع كل الوعي بأن استقلال القضاء مقرر أصلا لفائدة المتقاضي وليس لفائدته هو. وسائل بديلة الإحساس بفقدان الثقة في استقلال القضاء يمكن تلمسه كذلك من خلال إلحاح المستثمرين الأجانب على فرض شروط الوساطة والتحكيم وكل الوسائل البديلة لفض المنازعات في ملفات وعقود الاستثمار الموجهة للمغرب. * محام بهيأة مراكش

فقـدان الثقـة مـازال مسيطـرا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

البيع "غير القانوني" يسقط صيدلانية بالجديدة

النيابة العامة... مرحلة البناء مستمرة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات