جشع النخبة وانهيار القيم

بوز الباحث في العلوم السياسية أكد أن الشعبوية حشرت المواطنين في ثنائية «الشعب النقي» و»الطبقة الحاكمة الفاسدة» أكد أحمد بوز، الباحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، أن أكبر عنوان تظهر من خلاله أزمة الثقة، هو البروز المتنامي للشعبوية، التي أصبحت تحتل مساحات مهمة من الفضاء السياسي. وأوضح بوز في حوار مع « الصباح»، أننا فعلا أمام أزمة ثقة في هيآت التمثيل والوساطة، وتحديدا المؤسسات المنتخبة والأحزاب. في ما يلي نص الحوار: أجرى الحوار: برحو بوزياني > أصبحت أزمة الثقة تخيم بظلالها على خطاب الفاعل السياسي. كيف تشخصون أسبابها وجذورها في المشهد السياسي؟ > هناك أكثر من مؤشر يدل على أننا فعلا أمام أزمة ثقة في هيآت التمثيل والوساطة، وتحديدا المؤسسات المنتخبة والأحزاب. وأعتقد أن أكبر عنوان تظهر من خلاله هذه الأزمة، هو هذا البروز المتنامي لما نسميه الشعبوية، التي أصبحت تحتل مساحات مهمة من فضائنا السياسي، لأن الشعبوية، كما يتم التنظير لها، تضع نصب أعينها القضاء على «مؤسسات الحكم»، ومحاولة إقناع الناس بأنهم يمكن أن يحكموا دونما حاجة إلى طبقة سياسية أو مؤسسات أو هيآت الوساطة، وفي مقدمتها الأحزاب، والتأسيس لعلاقة مباشرة بين الزعيم وشعبه، «الشعب النقي الطاهر»، كما أنها تنبذ الانتخابات، حتى ولو أنها تستخدمها وتوظفها من أجل الاحتفال بالزعيم، وتكرس بالتالي أزمة الثقة في المؤسسات وفي الأحزاب. طبعا هذه الأزمة في السياق المغربي، ليست وليدة اليوم، بل لها جذور في الماضي، وكانت نتيجة تراكم ممارسات أساءت للعمل السياسي والحزبي، كما أنها ليست مرتبطة بعامل واحد، بل تتداخل في صنعها عوامل متعددة، وإن كانت في حقيقة الأمر تعكس عدم قدرة مؤسسات التمثيل والوساطة على إيجاد حلول لمشاكل الناس، وعجزها عن إنتاج خطاب وإبداع آليات، من شأنها أن تشعر الناس بالأمل في المستقبل. > تهدد أزمة الثقة بتعميق العزوف السياسي. ما هي مسؤولية الأحزاب في تكريس نفور الشباب من العمل الحزبي؟ > لست متفقا كليا مع هذا الربط بين أزمة الثقة والعزوف الانتخابي. نعم العزوف هو أحد تمظهرات أزمة الثقة، لكن الأمر ليس كذلك دائما. فصعود الشعوبية، الذي هو أحد عناوين أزمة الثقة، حتى في الديمقراطيات التمثيلية العريقة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع دونالد ترامب، كانت محفزا على المشاركة، ودفعت الكثير من الناس إلى صناديق الاقتراع، بما في ذلك أشخاص انقطعت علاقتهم مع الانتخابات أو لم تتأسس أصلا. لماذا؟ لأن الخطاب الشعبوي رفع سقف الرهانات، أو على الأصح الوعود، واستطاع إقناع شرائح واسعة من الناس بأن تصويتهم يعني طرد الطبقة الحاكمة «الفاسدة» المسؤولة عن مشاكلهم، وحشر الناس في ثنائية قطعية بين «الشعب النقي» و»الطبقة الحاكمة الفاسدة»، وبالتالي استعادة الشعب للسلطة والسيادة التي سلبت منه، من قبل نخبة يعتبرها الشعبيون أنانية ولا تخدم إلا مصالحها. وفي تقديري، إن قضية العزوف الانتخابي، ولا أقول السياسي، يصعب ربطها فقط بأزمة الثقة، فبقدر ما لا يجب أن نغفل أزمة الثقة، والذي هو عامل سياسي بدرجة أولى، بقدر ما يجب أيضا استحضار أن للعزوف أسبابا أخرى، سوسيولوجية وثقافية، تتعلق بضعف ثقافة المشاركة، وتقدير فئة من الناس أن العمل السياسي، وفعل المشاركة هو «حق» لفئة معينة ولنخبة معينة، وأنه «فرض كفاية وليس فرض عين» على كل مواطن. > حملت بعض الأحزاب المسؤولية في تعميق أزمة الثقة إلى الدولة من خلال تشجيع ما يسمى أحزاب الإدارة. ما صحة هذا الترافع؟ > أتساءل بدوري عن مدى نجاعة الاستمرار في استعارة مفاهيم للتحليل، لا يبدو لي أنها لا تزال صالحة لفهم الحياة السياسية المغربية، وتصنيف الأحزاب التي تتحرك فيها، مثل هذا المفهوم الذي ذكرته حول «الأحزاب الإدارية». ربما قد يكون هذا المفهوم ما زالت له بعض الراهنية، إذا كنا ننظر إليها من حيث كيفية نشأتها، وكيف أنها ولدت بمبادرة من قيادات في الدولة، ولم تخف في بعض الأحيان أهدافها في محاصرة اتجاهات وأحزاب أخرى، لكن الأمر يختلف عندما ننظر إليها من زاوية الممارسة والسلوك. وهناك تماه كبير بين الأحزاب، مع بعض الاستثناءات المحدودة جدا. فكل الأحزاب تقريبا تسلم أو تكاد بأن وظيفتها الرئيسية هي تطبيق البرنامج القار المعد سلفا، لا البرنامج الذي يفترض أنه حصيلة التعاقد بين أعضائها وبينهم وبين ناخبيها المفترضين. نعم لجأت الدولة، منذ الستينات إلى تأسيس أحزاب، وعادت إلى هذه الممارسة في نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، بعدما كان الاعتقاد السائد أن الانفتاح السياسي قد سمح بالقطع مع مثل هذه الأساليب. لقد عملت الدولة بتلك الممارسات على تسييج الحياة السياسية والحزبية، وأضعفت كثيرا الحقل الحزبي، بل يمكنني القول إنها أجهزت على أهم ما يجب أن يتوفر للأحزاب، ألا وهو استقلالية اتخاذ القرار. لكن هذا، لا يجب أن يحجب حقيقة أن الأحزاب، وعلى وجه التحديد نخبتها القيادية، ساهمت بشكل كبير في إنتاج هذا الواقع. عندما أظهرت قياداتها جشعا كبيرا لتغيير مواقعها الاجتماعية والسياسية، وعندما حولت الممارسة السياسية إلى حرفة ومهنة ومصدر دخل، كما سعى بعضها إلى تمثل الأحزاب التي يقودونها، كما لو أنها شركات لتوزيع الأرباح، أو ضيعات قابلة للتوريث. إن فظاعة ممارسات بعض النخب الحزبية تفرض أن نتساءل مثلا حول الرسالة، التي يمكن أن يقدمها أمين عام حزب تاريخي، عندما يغادر حزبه، لكي يترشح بحزب آخر فقط، لأنه فشل في الحصول على تزكية للترشيح في المدينة، التي كان عمدة لها وممثلا لها بالبرلمان، وقضى كل الولاية، وهو يقدم شهادات طبية لتبرير غيابه. هل هناك من يمكن أن يصدق بأن هذا تم «من أجل الوطن»؟ وهل يمكن أن يكون لذلك تفسير آخر، غير ما قلته من قبل، عن جشع النخبة وانهيار القيم؟ > ساهم تعمق ظاهرة الترحال في تعميق أزمة الثقة. ألا ترون أن هذا الوضع يشكل تهديدا للديمقراطية؟ > أولا يجب التوضيح أننا لسنا في نظام ديمقراطي، حتى نقول إن مثل هذه الممارسات تشكل تهديدا للديمقراطية. عندما نكون إزاء ديمقراطية راسخة، فإن مثل هذه الممارسات قد تشوش عليها، ولكنها لا تشكل تهديدا لها، لأن الديمقراطية، كما يقال، تخلق وسائل حماية نفسها بنفسها، ويصعب على أفعال مثل الترحال أو ما شابهه أن تمثل خطرا عليها. لم نخرج اليوم بعد مما نسميه في علم السياسة حالة الانفتاح السياسي، ويمكن لممارسات وأفعال من هذا القبيل، أن تكون مساهمة في طول المسافة التي استغرقها هذا الانفتاح، لكنها ليست مسائل جوهرية في جميع الأحوال، وهي تدخل في إطار «مختلفات»، في جدول أعمال التحول الديمقراطي. وإذا لم يحل هذا العطب الجوهري، فإن مثل هذه الممارسات ستبقى قائمة، لأنها تعكس تعبيرا عن حاجة حزبية، بل وحاجة للدولة نفسها للحفاظ على التوازنات السياسية، حتى لا أقول للتحكم في الحقل الانتخابي والسياسي. كيف تنظرون إلى واقع أحزاب اليسار التي تواجه صعوبات في اختراق جمهور العازفين؟ > يجب التدقيق هنا في اليسار المقصود، هل اليسار الذي شارك، ويشارك في الحكومة، أم اليسار الذي ظل ولا يزال متخندقا في المعارضة. فاليسار المشارك تمكن، في وقت سابق، من فرض نفسه انتخابيا، عندما نستحضر مثلا كيف أن الاتحاد الاشتراكي تصدر نتائج انتخابات مجلس النواب المباشرة لثلاث ولايات متتالية (1993، 1997، و2002)، وربما حقق النتائج نفسها قبل التسعينات، لولا التزوير الذي كانت تعرفه الانتخابات، لكنه تراجع لأسباب تتعلق بعدم استثماره لفعل المشاركة، ولمبارحته قيمه واختياراته والتماهي مع خطاب وسلوكات الأحزاب، التي كان يقدم نفسه بديلا عنها، فضلا عن أسباب أخرى، مثل الانشقاقات.... وبالتالي تطرح عليه رهانات أخرى لاستعادة موقعه السابق، وتغيير الصورة التي يكونها عنه الناس اليوم، باعتباره يسارا عجز عن استثمار الفرص التي أتيحت له، وظهر في مرحلة المشاركة متنكرا لقيمه وشعاراته واختياراته، أو على الأقل لم يعرف كيف يدافع عن مشاركته. اليسار ووضع الاحتجاج إن مشكلة اليسار المعارض، هو أنه لم ينجح في مبارحة وضعه يسارا احتجاجيا ويسار مواقف، وبالتالي ما زال ينظر للانتخابات، باعتبارها مجرد لحظة للتواصل مع الناخبين، وليست فرصة لتعزيز رصيده من الأصوات والمقاعد، التي تسمح له بأن يفرض صوته في فضاءات مؤسسات التمثيل. إن مشكلة اليسار لا تتعلق فقط بوجود أو عدم وجود الأعيان في الانتخابات، لأن جزءا منه، أقصد اليسار المشارك، تصالح وطبع مع الأعيان، بل لم يعد يفوز إلا حيث يرشح الأعيان، ونتائج آخر انتخابات تشريعية خير دليل على ذلك. أما اليسار المعارض، فإن مشكلته تكمن في نوعية الخطاب السياسي الذي يسوقه، وفي النظرة التي لا تزال تحكمه للانتخابات وللمؤسسات، التي تنبثق عن الانتخابات. في سطور - من مواليد فاتح يناير 1971 - أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط - حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية - عضو في هيآت مدنية في مجال الإعلام وحقوق الإنسان. - صدرت له العديد من الدراسات والكتب: «الدستور المغربي سياق النشأة ومسار التطور 1900-2011». «المال والسياسة... دراسة في مالية الأحزاب» «القانون الدستوري والأنظمة الدستورية النظام الدستوري المغربي في ضوء المبادئ العامة».

جشع النخبة وانهيار القيم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

وعـود وهميـة

بورتري

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات