قرار غير معلل ولا علاقة له بالمآثر العمرانية أو بقضية مكتب المحامي أثار إعفاء عامل مقاطعات آنفا بالبيضاء، موجة تعليقات حاولت ربط قرار وزارة الداخلية بمواضيع أخرى، غير المحددة في البلاغ الصادر مساء الاثنين الماضي، والذي عزا، بصورة مبهمة، أسباب الإعفاء إلى ما وصفه بـ "سوء تدبير ملف المحافظة على التراث التاريخي والمعماري بالدار البيضاء"، بينما ربطت تعليقات أخرى سبب الإعفاء، إلى أشياء لم تعلنها الداخلية في قرارها المعمم عبر وسائل النشر الإلكترونية والورقية، إذ عاد الحديث عن أن السبب يرجع إلى احتجاجات المحامين وإفراغ مكتب للمحاماة. "الصباح" اقتفت آثار التوصيفات التي كيفت بها أسباب الإعفاء، سواء من قبل الوزارة الوصية أو تعليقات "الفيسبوكيين"، لتقف على حقائق، لا علاقة لها بالموضوعين معا، ما يضع قرار الإعفاء في خانة "الأسرار التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في الوزارة...". إنجاز: المصطفى صفر إخلال أم تصفية حسابات؟ بتتبع الملفات الظاهرة، سواء في بلاغ الوزارة أو تعاليق "الفيسبوكيين"، حول إفراغ أو إخلاء مكتب للمحاماة، وحجم التضامن الكبير الذي خلفه الحادث، يبدو أن ثمة أشياء أخرى بين سطور هذه الملفات، كما يتضح جليا أنها لم تكن سببا لاتخاذ قرار الإعفاء، سيما باستقراء وثائق رسمية، سواء تعلق الأمر بوثائق التعمير التي تعني المآثر أو البنايات التاريخية، التي يمكن أن تكون يد العامل طالتها، أو غيرت عبقها، أو باقي الوثائق التي صدرت عن المحامي ضحية الإخلاء، أو عن النيابة العامة التي لها سلطة الملاءمة والمتابعة وتكييف التهم، خصوصا أن بلاغا أصدره الوكيل العام للملك لدى استئنافية البيضاء، في مستهل الاحتقان الذي أعقب إخلاء مكتب المحامي، أعلن فيه أن مصالح الشرطة القضائية شرعت في إجراء بحث حول ظروف وملابسات الولوج إلى مكتب أحد المحامين بالبيضاء، وذلك فور تقدم الأستاذ المعني بالأمر بشكايته. كما أن البحث سيشمل شكاية أخرى تم التوصل بها حول "موضوع شريط فيديو يظهر بعض الأشخاص بصدد شحن علب محملة بالوثائق بشاحنة، بالمكان الذي يوجد فيه مكتب المحاماة على ما يبدو، وذلك بغاية التعرف على حقيقة تلك الواقعة ومحتويات العلب، وأسباب وملابسات نقلها وتحديد المسؤول عن ذلك بغاية ترتيب الأثر القانوني". الوقائع والقرارات سالفة الذكر لا يمكن التكهن بالإجابة عنها، أو الإنابة عن الجهات مصدرة القرار في الرد عنها، بل ينبغي استقراء القرارات التي صدرت عن الجهات نفسها، سيما القضائية بعد انتهاء البحث في ملف اقتحام مكتب محام، أما بالنسبة إلى العمران التاريخي، فلا يمكن استنتاج حسن أو سوء تدبيره إلا بالاطلاع على القرارات التي صدرت في هذا الشأن، ومسؤولية العامل وسلطته عليها، حتى يتسنى الوصول إلى نسبة الخطأ، ولو على سبيل الافتراض إلى الموظف العمومي السامي، كما تقتضي ذلك أبجديات الإدارة والبحث الإداري، مع عدم استبعاد وجود حسابات، سيما بالنظر إلى البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تميز أي منطقة تدخل في تقطيع ترابي يسمى عمالة. العامل وقضية المحامي كان لا بد من تتبع مآل ملف مكتب المحاماة المخلي من قبل السلطة المحلية، ومصير الأبحاث التي أعلن عنها، ومدى "تورط" العامل فعلا في خرق القانون أو في أفعال أخرى تشكل مخالفة أو جنحة أو جناية، سيما أن النيابة العامة، أي القضاء الواقف، وضع يده على الملف، وحسم كل شك باليقين، بعد أن أناط البحث بالشرطة القضائية. من خلال ظاهر الوثائق التي تتوفر "الصباح" على نسخ منها، فإن قضية مكتب المحاماة موضوع الاحتجاجات، لم تعد ذات جدوى، خاصة بعد صدور كتاب من وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية الزجرية بالبيضاء، يخبر فيه عن مآل شكاية، مشيرا فيه إلى أنه بعد دراسة الشكاية المحالة من قبل الوكيل العام للملك لدى استئنافية البيضاء، بتاريخ 26 يونيو 2020، تقرر بشأنها الحفظ لانعدام العنصر الجرمي، وللتنازل بتاريخ 9 يوليوز 2020. إذن المحامي تنازل بعد صلح أبرمه مع مالك العمارة موضوع الإخلاء. لكن بالعودة إلى أصل الشكاية، للبحث فيها عن الأطراف المشتكى بها يتضح جليا أن العامل لم يكن بينها، فصفته غير واردة سواء في الشكاية التي رفعت للوكيل العام للملك، أو التنازل الذي وقع بعد الصلح، إذ كلامهما يشير إلى أن المشتكى بهم هم رئيس مقاطعة سيدي بليوط وقائد المقاطعة والممثل القانوني لمختبر، وهي الأطراف نفسها التي تم ذكرها في التنازل المحرر من دفاع المحامي ضحية الإفراغ. إذن خلاف المحامي مع مالك العمارة، بني أساسا على قرار لرئيس مقاطعة سيدي بليوط، الذي أصدر بموجب الاختصاصات التي يمنحها له القانون، قرارا جماعيا لإخلاء شقق بعمارة تندرج ضمن البنايات المهددة لأمن السكان والمارة. وهو إخلاء مؤقت إلى حين إصلاح البناية وتثبيتها، ويدخل ضمن التدابير الوقائية المؤقتة بسبب أقدمية العمارة والخطر الذي تشكله. والقرار بني على معاينة وخبرة ومجموعة من التدابير، قبل أن يعهد إلى السلطة المحلية بتنفيذ الأمر، وهو خلاف انتهى بوقوع صلح وحفظ الشكاية، لانعدام العنصر الجرمي. تدبير العمران التاريخي قبل خمس سنوات، دار نقاش كبير حول هدم عمارة "الجمارك سيتي" بالبيضاء، رغم ما تشكله من تراث معماري، حينها لم تصمت ولاية الجهة، وخرجت ببلاغ أخبرت فيه الرأي العام أن العمارة سالفة الذكر، والموجودة بشارع المسيرة الخضراء، ليست مصنفة تراثا معماريا للمدينة، موضحة أنها "لا تقع ضمن المناطق المحددة بالتصاميم أو الواردة باللائحة التي تم وضعها، والتي يمنع الترخيص لهدم أو تغيير البنايات الواقعة بها، دون استشارة لجنة مختلطة أحدثت بموجب القرار سالف الذكر، لما لهذه البنايات من قيمة معمارية وخصوصيات تاريخية". من هنا يبدو أن العمارات التاريخية محمية، ولا يمكن هدمها، كما أن العامل لا يد له في قرار هدمها، طالما أن لجنة مختلطة موسعة تضم في عضويتها جمعية ذاكرة الدار البيضاء "كازا ميموار"، بالإضافة إلى المصالح المختصة بوزارة الثقافة، تبت في طلبات هدم أو تغيير البنايات الواقعة بالمناطق المعنية. فما المقصود بالعبارة التي وردت في قرار الداخلية "سوء تدبير ملف المحافظة على التراث التاريخي والمعماري"؟ إعفاء غير معلل الحديث تعلق بعقار فيلا اقتناه مستثمر لتشييد مشروع سياحي عبارة عن فندق من 14 طابقا، وبطبيعة الحال، المشاريع الكبرى من هذا النوع، لا يخفى على وزارة الداخلية أنها تقع خارج يد العامل، بل يشرف عليها والي الجهة، وبالرجوع إلى رخصة الاستثناءات، التي حولت الفيلا إلى فندق، فإن الوالي هو الذي وقعها، كما أن الوثائق الأخرى تعود للجماعة الحضرية، وعليها توقيع الرئيس، إذ لم يعثر على أي وثيقة تحمل اسم عامل مقاطعات آنفا، في وثائق تشييد الفندق، بل تراخيص المشاريع الكبرى متوقفة على المركز الجهوي للاستثمار "CRI"، الذي يرأسه الوالي، كما يرأس لجنة الاستثناءات، بل جميع الوثائق تمر عبر قنوات قانونية، ولا يصادق على الهدم والشروع في البناء، إلا إذا تم التأكد من أن البناية غير محمية بموجب قرار أو تصنيف، ولا تدخل ضمن التراث التاريخي المعماري. وبالرجوع إلى وثائق التعمير دائما، فإن الأمر يتعلق بفيلا ذات الرسم العقاري 2320/دي، توجد في ملتقى شارعي الزرقطوني وأنفا، "وهي بناية بشهادة المحافظ على الأملاك العقارية ومهندس للدولة، ليست مصنفة ضمن لائحة البنايات المسجلة في خانة التراث التاريخي والمعماري، كما استصدرت في شأنها عدة وثائق ورخص قانونية من قبيل محضر معاينة ورخصة للهدم تحمل رقم دي.ام2-اس بي ياي/02/2020 صادرة في 12 يونيو 2020". وتوجد شهادة تؤكد أن العمدة رخص لاحتلال الملك العمومي، والهدم. الداخليـة تأكـل أبناءهـا إلى هنا يبدو أن ملف المحامي لم يذكر فيه العامل في الشكايات ولا متابعة فيه، والقضاء الواقف قال كلمته بحفظ الشكاية لانعدام العنصر الجرمي ولوجود تنازل، وأن ملف العمران التاريخي بدوره، فارغ، طالما أن البناية هدمت وفق القوانين الجاري بها العمل، وليس هناك ما يشير إلى أنها حظيت بتعامل تمييزي، ناهيك عن أنها مشروع استثماري، ينبغي تشجيعه لما له من انعكاس إيجابي على العاصمة الاقتصادية، وأخيرا، فوالي الجهة هو المشرف فعليا على المشاريع من هذا القبيل. وأمام كل هذه المعطيات، تظل مواقف الداخلية مبهمة في التعامل مع أطرها، وقرار الإعفاء غير معلل بأسباب جدية، بل يبدو أنه متسرع، ما يدخله في خانة الشك في وجود حسابات أخرى غير المعلن عنها، خصوصا أن الإعفاء جاء مباشرة بعد توقيف مطاعم كحولية يملكها كبار القوم، بعد زيارات ميدانية أثبتت الاستهتار بالتدابير الاحترازية من وباء كورونا. ملاحظة أخيرة لابد من إقحامها في الختام، وهي أن عامل مقاطعات آنفا، ورد اسمه في لائحة تعيينات "وهمية" انتشرت في الآونة الأخيرة عبر "واتساب"، قبل انعقاد المجلس الوزاري الأخير، وبوأته منصب والي جهة، فهل الإعفاء قطع للطريق على الرجل؟، أم إعدام إداري بغية الإبعاد من الأضواء؟ بعدما سطع نجمه بالعاصمة الاقتصادية. أسئلة ستبقى معلقة إلى حين انجلاء الحقيقة.