كدروري سعيد: ايحاءات من وحي ذكرى الميلاد

و في ذكرى عيد مولدي ما بعد الخمسين، أعتقدُ أنّي تغيّرت … و بالتّمام، نضجت !
لكنّي حتما نضجتُ بشكل مختلف جدّا و أنا أعيشُ على قيدِ حياة شاحبة مُعتلّة تَبعثُ على الكفر ببؤس النّعم و بكلّ ما جرت به المقادير و تفضي إلى التشكيك حتّى في عدالة السّماء في تقسيم الأرزاق؛
نضجتُ على كلّ حال … ولم أعد أخشى تهديدا و لا تأنيباً و لا وعيدا و لا عقابا ولا عذابا و لا فناءً…، فكلّها تلوينات للمشاهد المُتنافرة من شريط عمري الشاحب و بينها جميعاً، خبايا عديدة لا زالت محجوبة في تجاويف الفؤاد.
نضجتُ …و لم أشأ العبور – بعدُ- إلى وضع الاتزان الروحي الذي سطّرت قوانينه عاداتنا القديمة و قوانيننا المُنهكة والكثير من شرائع السّماء، و كنت من اللاهية قلوبهم حينما تشابه عليّ المنافقون و صادقو السّرائر.
نضجتُ … و ثُبْتُ باكراً عن خطب المنابر، و لم ألتزم الشعائر المتجلّدة والترنيمات الفاترة المتكرّرة كهراء الحمقى بمداخل المدن و على أرصفة الشوارع، و لم أعرضُ عن لغو الحديث حينما ينتصر للمنسيّين و المغبونين و المعذّبين بين ظهرانينا، كما لم أستطب فخامة الجوامع المُقابلة لفظاعة بؤسنا و شقائنا نحن الأحياء الموتى فوق جحيم هذه الفجوة المُعتبرة وطناً.
نضجت لّمّا تشكّلت خيّاراتي، و حملتُ كمّاً ممزوجاً من الانفعالات و الأحاسيس؛ فلم أعد بتلك الطُيبة التي يعهدها منّي الأقربون، و لا بذلك السّوء الذي يحسبُه فيّ الحانقون، و لا بكل الوفاء الذي يتوهّمه المتخيلون، و لا بحسّ النّفاق الذي يُجامِل به المتملقون… فلست صلباً كفاية و لا قوياً و لا مُنتشياً و لا تعيساً و لا مؤمناً و لا أميناً … إنّما كنتُ منصهراً في قالب كخليط متآلف و غير متجانس، كالهجين الذي لم يفلح يوما في أن يكون سوياً بموازين الجماعة و لا أن يُصبح شيئا جيّدا بمقياسه الفردي.
نضجتُ…و تشكّلت مفاهيمي كثيرا، فاختبرتُ فنون الكتابة و مسك الريشة و ضبط الموسيقى، واختلقْت الكثير من الخزعبلات الفنية، النثرية منها والشعرية و التشكيلية والطربية بشكل مُبهرج و مُنمّق، لا حركية فيه و لا حياة، فوجدتُني أُبدع – في النّهاية –بذاءات سُريالية لم تَشْف غليلي بالمرة، سرعان ما عَدلتُ عنها جميعا بعد تواتُر إخفاقاتي و أنا موقنٌ بأنّي مبدعً فاشل.
نضجتُ … و أدركت مع الوقت – وبعد فوات الوقت- كم كنتُ مغفّلا حين راهنت على حياة الاستقرار داخل زنزانة النّكاح الشرعي و طوق الانجاب و دوامة القوامة الزّوجية … بتكراراتها المملّة و تردّداتها القاسية التي لا تختلفُ عن تعداد الخيبات الملزمة لحياتنا، و تناسيت –حينها- أنّي روحٌ حُرّة مُتمرّدة تعيشُ فوضى الحواس وهستيرية عشق الموج ونكهة المطر و رجفة الرّياح و سُكون القمر و سطوة العيون و اقتحام كلّ الخطوط المُلتبسة في متاهات المغامرة و الإثارة و التحرّر؛
نضجتُ … فنزعتُ هالة القداسة عن البشر والأشياء والفِكر، و اكتفيتُ، بالمقابل، بالإيمان بالمبادئ الكونية المشتركة التي أحسبُها –لوحدها-من أسمى درجات الورع والتقوى وأكمل صُور الفضيلة في دين الانسانية، حيث الالتزام بعدالة الخالق في معاملة المخلوق أهمّ من أحكام الطّهارة و ذِكْر السّنن والرّواتب، و حيث بناء الانسان على شعيرة الحبّ وبذل العطاء أوجب و أجدى من عمارة المساجد.
نضجتُ … وأدركت أن لا امرأة تستطيع تحمّل حماقاتي و عنادي و وِزْر اختياراتي المُتسرّعة و التي تكون – مع ذلك – أكثر صواباً، و صرتُ أحمل عبء نفس تميل إلى الانسحاب القسري بدل مرافقة القطيع و قبول أنصاف الحلول و التستّر وراء زيف الأوهام و الأكاذيب؛
و في النّهاية حينما نضجتُ …
أدركتُ أنّي لم أكن -في النهاية- لا زوجا مثاليا و لا أبا متميّزا و لا إنساناً صالحاً و لا حتّى كائناً افتراضيا مُؤنسا، فلا شيء من كلّ ذلك عاد مُهماً بقدر تلك الأشياء البسيطة التي تُؤنسني و تشغلني عن الجميع فيما يُشبه الأنانية المفرطة… على الأقل لعام آخر قبل النّبش مُجدّداً في أعماق الذّاكرة عن آخر تحديث لإنسانيتي.