لغة الشارع في جغرافيا الفكر

يتدرب الشعب على الصراع الطبقي السياسي.. يتعلم بالتجريب كيف يصنع أدوات نضاله، انتقامه الهادئ أو مواجه الآخر.. يتنوع الأسلوب و يتعدد الخطاب بفعل الزمن مما يشرخ أسطوانة عجز الجماهير عن مواجهة الاستبداد و الاستغلال.. فالإبداع الشعبي كلما انزاحت عنه قيود التحكم البيروقراطية و التحجيم الليبرالي.. إلا و تجلت آيات إبداع و تقاليد نضالية ربما أقبرتها النقابة و أحزاب المعارضة.. لغة الشارع لا تنضب، الاحتجاجات تواجه بالقمع، النضال العمالي ينتهي عند عتبة ملتمس الحوار.. لغة النضال هذه أنتجت في الآونة الأخيرة شعار: «النقابات لا تمثلنا» و في حراك الريف «الأحزاب جزء من المشكل و ليست جزء من الحل» و «السلمية نضال و الطقطقة إبداع».. في الأطلس «أروگو و أگمام و الفاتورة ديال الحمام».. بعد قمع احتجاج الريف و جرادة.. و جمود منظمات النضال التجأ الكادحون لحماية قدراتهم الشرائية بحملة المقاطعة عنوانها «خليه إريب» مواجهة المقاطعين بمألوف القمع لم يجدي نفعا أمام نضالهم الافتراضي المترجم على أرض الواقع، في غمرة المقاطعة تجلى إبداع الكادحين (رسومات، أغاني، فكاهة و تهكم و هلم فيديوهات للرد على الهجمات و تشويه الشركات التي تمتص دم الكادحين). رغم تعدد أساليب المسح و التعتيم و التسفيه و الالتفاف و المنع و القمع... خطاب الكادحين صوت الهامش شفاف معبر صادق -في حدود الحرية- يتجلى أيضا في الشارع عبر وسائل جديرة بالتأمل و لعل ذلك ما ألهم مفكرين كان لهم السبق في التطرق لخطاب الشارع كلغة تعكس الرؤى الفكرية و النفسية لحياة العديد من فئات الشعب أذكر كتاب «هتاف الصامتين» للمفكر المصري سيد عويس، الذي أوضح صوت الهامش من خلال العبارات المكتوبة على السيارات، و على نحو مُقارب سار كتاب «خطاب الشارع.. تحولات الحياة والموت في مصر» لمؤلفه محمد شومان، محاولاً رصد تغيرات الشخصية المصرية من خلال عدة خطابات متباينة المستوى. هذه البحوث ربما تنطبق على جل البلدان العربية رغم بعض الاختلافات. في مجتمعنا خطاب الشارع يخرج إلى العلن و يُصر على مشاركة الآخر، بتوريطه في أن يكون طرفاً في هذا الخطاب أو ذلك، فالعديد من الأساليب و العبارات المدونة سواء على: وسائل المواصلات، الجدران، المحلات التجارية، مطرح نفايات الحي.. تستعمل سواء لمواجهة الآخر "المفترض"، للتحذير من خطر ما أو للانتقام مما يحيط .. الى غير ذلك من تدافع و أهداف خفية و معلنة. السيارات الخاصة: أشكال مواجهة الآخر تكتسي طابع الاطمئنان على الشيء أو التباهي بالانتماء بتبيان الحالة و المكانة و ما في ذلك من مزايا، فنجد على السيارات: أيقونات، علامات التأمين، ملصقات إشهارية دعائية كملصقات الأطباء و الصحافيين و القضاة أو وضع قبعة أو ما يوحي بالانتماء للشرطة أو الجيش.. وسائل المواصلات و النقل: أسلوب المواجهة متنوع، بغض النظر عن الانسجام مع الشكل الفني للعربات و المستوى التعليمي.. اللغة المتداولة شعبوية بسيطة الى فلسفية عميقة نماذج: حدوة حصان مرفقة بعبارة«عين الحسود فيها عود» أو «عيش اوماتحضيش» و «لا تسرع يا أبي فإن أمي ستتزوج غيرك».. تستعمل كذلك ملصقات أنيقة بإيحاء ديني: «هذا من فضل ربي» و «اللهم صلي على المصطفى الحبيب».. و ملصقات إشهارية دعائية، منظم مناسبات و خط نقل.. سيارات الأجرة القطاع الأكثر حيوية يساهم بدوره في الدعاية و الإشهار.. أسلوب المواجهة يبدأ بعبارة "أغلق بلطف" المكتوبة على الباب، باقي الأساليب لا تختلف عما هو متداول من أيقونات، آية قرآنية، تسبيح، راية.. جل وسائل المواصلات من عربة، طريبورتور، سيارة، حافلة، شاحنة.. يوحدها الشارع الذي تسير عليه، و بلغة المؤلف السالف الذكر، فكل وسائل المواصلات تسير و الشارع قادر على استيعاب الجميع في الطريق، هناك لحظات قد تشعر من خلالها بحالة من المساواة، لكنها في الأساس مساواة افتراضية، فهذه الفئات رغم تجاورها، فهي بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، بل أن هناك حالة مزمنة من التربص و الحذر، يتكلل المشهد في النهاية بالضوضاء المنفلتة، و الضجيج الذي أصبح السمة الكبرى.. لغة الرصيف، و الأسواق: الرصيف المكان المُعد للمشاة، يختلف من مكان لآخر فوسط المدينة يتم استعماله لأغراض اقتصادية.. أحيانا يكون فرض الانضباط ضروريا سواء بالمنع أو بالتوافق أو نصب حواجز حديدية مؤقتة أو دائمة تفرض السير لمسافات من أجل العبور أو صعود درج قنطرة العبور (أو التحايل للعبور رغم خطر السيارات المسرعة) هنا السلامة و الله يستر العبارات الأكثر تداولا. بخصوص الأسواق الأسبوعية و الدائمة، المعروضات تعكس ما يستهلك، الأزياء يلخص ما يرتدى.. في "الكرنفال المنصوب" ترى و تسمع زخم عجيب من الإبداعات و المعروضات، خطابه السوق المتنوع المُربك تنتجه لغة الباعة و اختيارات الزبائن، الحرية على مداها أو على هوى أصحابها، لكنها مقيدة بسياسة سوق الإعلام و الأزياء التي يتحكم فيها مصممو المشهد العام و العولمة.. أسماء المحلات و الشوارع..: على الواجهات لافتات تدل على الهوية المفروضة على المارين أو المتعاملين، التشويش البصري و الدلالي يتجلى بحرية حيث زخم الأشكال و الألوان و الأضواء (ماركات تجارية، أسماء فرق و رياضيين و مشاهير و عبارات دينية..) باستثناء الحالات العادية يتشكل الانطباع بأن الأمر يتجاوز التنوع الى العشوائية و الهوس الهواياتي أو العقائدي.. أما السكن "حي الشمع" لغياب الكهرباء "حي الشمس" لأنه على قمة الجبل و "حي ليلى" لأنه دائم الظل.. الجدران فسحة التعبير: لمواجهة الآخر، أو من أجل الإبداع.. تستعمل الكتابة بكل اللغات أو صور و رسومات كرافيتي.. الجداريات غير مرتبط بفئة عمرية محددة أو مستوى ثقافي معرفي بقدرما ترتبط بمزاج أو هدف يتم تصويبه بسلاسة، الكتابات الحائطية لا يمكن تصنيفها إلا في إطار لغة الشارع المتجددة باستمرار، نجد لوحات مبدعين، لافتات للتوجيه أو المنع مثلا «ممنوع رمي الأزبال هنا.. غرامة مالية» هناك عبارات خادشة للحياء و عبارات بأهداف متباينة مثلا : «أنقذوا الفريق..» أو «الرئيس.. ارحل» و «دايرة كي المعزة..» هذا النوع من الكتابات يصبح أكثر خطورة لما يتجاوز الخطوط مثلا بأساليب عنصرية.. مما يعجل بالتدخل للمنع أو المسح.. هناك حالات تعبر بمستوى عالي بأبعاد سلبية مؤسفة نموذج: على سور مؤسسة تعليمية كتب «الدراسة للجبناء...!! الشجعان يتركونها على الله» و على دار للثقافة كتب «أوعوا الفكر المتجمد». يختلف الإبداع من زمان و مكان الى آخر، بمراحيض الجامعات كانت العبقريات تتفتق، تجد الشعر، الفلسفة، العلم.. و علماء تعرف بوجودهم لأول مرة، هناك ما يثير الاشمئزاز و التساؤل ما الذي يدفع هؤلاء للكتابة هنا مادامت الحليقات تتجاوز كل الخطوط؟ لكن خارج الأسوار رغم الفضاء الفسيح يتبين أن هامش الحرية فيه شبه منعدم فوسائل التعبير و النشر لها ضوابطها الخاصة.. تتعدد وسائل التعبير و مواجهة الآخر، فالمناضلين و الهمشين أو الصامتين.. غالبا ما يجدون مساحات أو ثغرات تمكنهم من توصيل رسائلهم، هكذا تتشكل فسيفساء لغة الشارع و الرؤى الفكرية و النفسية المتباينة المستوى، يتبين أن الوعي له ضوابط خاصة، فالرأي العام و التوجه العام.. لا تصنعه النخب فقط بل تخلقه شخصيات أقل ما يقال أن الوضع يؤشر لتحول مجتمعي ما، هناك ساسة، رؤساء جمعيات، مديري منصات رأي و أخبار، شخصيات تناقش الرأي و الفتوى.. بمستوى تعليمي بسيط أو بدون، لكن الإنتاج الفكري الواعي و الدور الذي تؤديه هذه الفئات بنجاح و بلا تكوين أكاديمي، هو ما يشفع لها فيُأخذ بآرائها و أفكارها. إذا كان الوعي يساوي فهم طبيعة الصراع فهنا تبدأ الأسئلة: لماذا لا تنخرط النخب لرفع مستوى التعبير الفكري لتغيير جغرافية الفكر المرسومة بهذا الشكل؟ هل النخب غائبة أم حاضرة متواطئة، تنعم بالدخل الشهري غير مكترثة بما يحاك ضد الإنسانية؟ هل الصفوة سلبية غارقة في الفئوية و الانغلاق أو دراويش معادين لكل ما أنجزه العقل من تطورات "بدع"؟ من يشكل الوعي الجماهيري العام بقضايا النهضة و مفاهيمها إذا اختفت النخب عن المشهد؟ التاريخ لا يمهل و لا يهمل ! خلاصة القول، لغة الشارع العام رغم تنوعها فإنها متقاطعة متصلة الى متكاملة على خريطة جغرافيا الفكر، الوعي يساوي فهم طبيعة الصراع و هناك فرق شاسع بين الجهل و الأمية و بين الوعي و القراءة.. فالأمي بالحروف لا يعني جهله بالأشياء بقدر ما تعتبر الأمية سببا معرقلا في مسايرة الحياة. فالشهادة العليا في مجال ما، لا ترفع وعيا و لا تزيل جهلا إذا كان العالم جاهلا بتخصصه. فالوعي و الإدراك يساعد في تقديم صورة حقيقية عن الواقع و الذات، و الإنسان الواعي لا يمكن أن يعيش بدون كرامة أو يرضى بالذل أو بالظلم له أو لغيره.. هنا تبدأ أو تصمت لغة الشارع

لغة الشارع في جغرافيا الفكر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اعتقال شخص متهم بهتك عرض قاصر

اللجنة الأوربية تشدد على أهمية التعاون مع المغرب في مجال الهجرة والأمن

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات