الإصلاح لايتم بتخطي القانون والضمانات بل بإعمالهما

الطيب عمر المحامي بالبيضاء يقول بضرورة إحداث محاكم مالية زجرية متخصصة لتفعيل الرقابة يرى الطيب محمد عمر محام بهيأة البيضاء، أن هناك تأخيرا في إحداث أقسام المحاكم المالية، على اعتبار أن الخطاب الملكي ليناير 2003 الذي تحدث عن وضعية محكمة العدل الخاصة أشار إلى قضاء متخصص في الجرائم المالية حريصا على تخليق الحياة العامة وحماية المال العام، وأضاف المحامي في حوار مع الصباح أن من بين أهم المعيقات التي عايشها خلال مساره المهني في ملفات الفساد المالي، الخلط الخطير بين ما هو جنائي، أي جناية اختلاس أو تبديد مال عام، يستحق العقاب بالسجن، وبين ما هو خطأ إداري أو مسلكي أو مؤاخذة أخلاقية تستحق الحكم بغرامة مالية. مع قرب الشروع في العمل بأقسام الجرائم المالية في بعض المحاكم الاستئنافية، في نظركم هل هناك حاجة قوية إلى إحداثها؟ للجواب على هذا السؤال ينبغي القول بأن صاحب الجلالة، منذ تسع سنوات تقريبا، كان أمر الحكومة بتاريخ 29/1/2003، بمناسبة افتتاح السنة القضائية، بأن تدرس وضعية المحكمة الخاصة للعدل وأن ترفع إليه اقتراحاتها «آخذة بعين الاعتبار ما تفرضه ضرورة وجود قضاء متخصص في الجرائم المالية حريص على تخليق الحياة العامة وحماية المال العام من كل أشكال الفساد وترسيخ ثقافة وأخلاقيات المسؤولية»، الأمر الذي لا يقتصر فقط على تأكيد الحاجة القوية إلى إحداث قضاء متخصص في الجرائم المالية، بل يعطي الدليل على أن هناك تأخرا كبيرا من طرف من تعاقب على الحكم من الوزراء والمسؤولين في تفعيل الخطاب الملكي بإنشاء قضاء متخصص في تلك الجرائم، وهو القضاء الذي لا ينبغي أن يقتصر على مجرد إنشاء أقسام داخل محاكم الاستئناف، بل يقتضي إحداث محاكم متخصصة في هذا الموضوع لما يكتسيه «تخليق الحياة العامة وحماية المال العام من كل أشكال الفساد وترسيخ ثقافة وأخلاقيات المسؤولية» من أهمية بالغة في ضمان استقرار البلاد وتوفير الأمن القضائي للعباد. يعتبر البعض أن هذه الأقسام مجرد استنساخ لمحكمة العدل الخاصة، ما يفيد أن التخلي عنها لم يكن صائبا، كيف ترون ذلك؟ لا أعتبر أن هذا القول صحيح لأن هناك فرقا كبيرا بين الأقسام المراد إنشاؤها، أو المحاكم المالية الزجرية المتخصصة المأمول إحداثها، وبين نظام المحكمة الخاصة للعدل حيث كانت المتابعة تتوقف على أمر كتابي صادر عن وزير العدل، الأمر الذي كان يغل يد النيابة العامة عن التصرف في الدعوى العمومية ويشكل تدخلا واضحا للسلطتين التنفيذية والسياسية في السلطة القضائية، مع ما كان يواكب ذلك من احتمال الانتقائية والتمييز في سلطة الاتهام وإجراءات المحاكمات بين المواطنين اعتمادا على توصيف الأفعال موضوع المتابعة، وحيث كان بعض قضاة تلك المحكمة يعينون من طرف وزير العدل، وحيث لم يكن بالإمكان إطلاق سراح من صدر لفائدته قرار بعدم متابعته متى ارتأت النيابة العامة أن الوقائع تشكل جريمة أخرى أو أن هناك دلائل أخرى على ارتكاب الجريمة موضوع المتابعة، وحيث لم تكن أوامر قاضي التحقيق تقبل الطعن، وحيث كان أجل النقض هو 5 أيام وأجل وضع عريضة النقض أقصر من المسطرة العادية، وحيث لم تكن المحكمة تعلل أحكامها إلا بأسئلة وأجوبة لا تشفي الغليل. وإذا كان هناك ما يمكن أن يؤسف عليه من نظام المحكمة الخاصة للعدل فهو، من جهة، التنظيم الدقيق لكتابة الضبط، الأمر الذي كان يسهل الإجراءات لديها ولدى المحكمة، مع سهولة الولوج إلى المعلومة القضائية وتيسير عمل القضاة والمحامين على السواء، وهو، من جهة أخرى، قصر مدة التحقيق التي لم تكن تتجاوز ستة أسابيع، ما عدا إذا تطلب الأمر إعمال فحص أو خبرة تتطلب وقتا أطول، كما يؤسف على حالات أعمل فيها الرئيس مقتضيات الفصل 19 من القانون الذي كان ينظم تلك المحكمة متى ارتأى أن التحقيق غير كامل أو إذا وقع اكتشاف عناصر جديدة بعد إحالة القضية، حيث كان يجوز له أن يأمر بجميع أعمال التحقيق التي يراها مفيدة وأن ينتدب لهذا الغرض أي عضو من المحكمة، وحيث كانت تظهر نتيجة لذلك حقائق وأدلة إثبات تفيد في إظهار الحقيقة، وهو ما يمكن القيام به دوما بالتفعيل الصحيح لمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 422 والفقرة الأولى من المادة 424 من قانون المسطرة الجنائية، والأمر الذي يؤسف له أكثر هو العدالة الفعلية، سيما خلال الفترة التي كان على رأس المحكمة المرحوم بعفو الله الأستاذ الزغاري، حيث لم نكن نشعر كمحامين بان بريئا قد أدين، وهو ما قد نفتقده في أحايين كثيرة. قال وزير العدل خلال الإعلان عن إحداث هذه الأقسام إن الغاية منها هو إحداث قضاء متخصص، كيف ترون ذلك ؟ إن عبارتي «الجرائم المالية «و «الجنايات المنصوص عليها في الفصول 241 إلى 256 من القانون الجنائي» تنطوي على تقليص كبير لمفهوم الجرائم المالية بحصرها في ما قد يرتكبه الموظف العمومي أو غيره من جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والغدر، وما لا يمكن فصله عنها أو ما ارتبط بها من جرائم، والحال أن هناك جرائم أخرى توصف بالفساد المالي، بل هي الفساد المالي عينه، من قبيل التهرب الضريبي الذي هو مد اليد إلى المال العام عن طريق استعمال الاحتيال للاحتفاظ به، ومن قبيل كل الأفعال المجرمة في القوانين المنظمة للشركات ومدونة التجارة وما يقع، تحت غطائها، من جرائم أموال في إطار مساطر صعوبة المقاولة، سواء من طرف من يصطنع عسره أو من طرف من يساعده على ذلك بالوسائل كلها، بدءا من خلق الوثائق والموازنات إلى حين تصفية آخر درهم في المقاولة، وما يتخلل ذلك من افتقار البعض بما في ذلك العمال والإدارة المالية وصناديق الضمان الاجتماعي والبنوك وغيرها واغتناء البعض الآخر ممن لا حاجة لذكرهم لأنهم يعرفون أنفسهم، ومن قبيل ما يقع بالملك العمومي البحري، والصيد البحري والمقالع والسمسرة والقوانين التي صدرت لحماية المستهلك والغش في البضائع وما تتضمنه من مقتضيات زجرية والقواعد القانونية الزجرية المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وجرائم تبييض الأموال النتنة، وما يجنيه بعض المسؤولين والمنتخبين من أموال طائلة نتيجة معرفتهم المسبقة بتفاصيل تصاميم التهيئات العمرانية ومسارعتهم إلى اقتناء الأراضي بكل الوسائل، أليست هذه كلها جرائم أموال؟ فالعبارة التي وردت في الخطاب الملكي، منذ تسع سنوات، لا تقف عند حدود جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والغدر، مما يعتبر من جرائم المال العام، بل إنها قد تجاوزت ذلك إلى «حدود تخليق الحياة العامة وترسيخ ثقافة وأخلاقيات المسؤولية «، فالمنظومة إما إن تكون كاملة متناسقة وإما أن تكون ترقيعا وذرا للرماد في العيون، وجرائم الأموال ترتيبا على ذلك يجب وضعها ضمن مدونة خاصة شاملة ويعهد بالبت فيها إلى محاكم متخصصة، وأتذكر بالمناسبة مشروع قانون خاص بالمحاكم المالية كان قد هيأه فضيلة الأستاذ مشيشي العلمي، إلا انه لم يول ما يستحقه من عناية لازمة، ولا بأس من إخراجه ليكون أرضية للنقاش حول هذا الموضوع . ثم إن التخصص المطلوب لا ينبغي أن يقتصر على الإلمام بقواعد المحاسبات العمومية وضوابطها ومالية الجماعات والجهات والقوانين الخاصة، وقضاء فترات تدريب بالمجلس الأعلى للحسابات وغيره من المحاكم المالية، بل لا بد من جعل النصوص والمعلومات وسيلة لتفتح القضاء على مجالات أخرى من محيطه وتنوير فكره، لكن الغاية القصوى هي القانون الجنائي، لأن العدالة الجنائية – مهما كان توصيف المحكمة المعينة لإعمالها - لا تقتضي نهائيا تطبيق قواعد أخرى غير قواعد القانون الجنائي بمبادئه المسطرية والموضوعية من قرينة البراءة وقواعد المحاكمة العادلة وضرورة التأكد من توافر كل العناصر المكونة للجريمة كما هي محددة قانونا وفقها وقضاء، حتى لا يتم ظلم الناس . من خلال عملكم اليومي في النيابة في العديد من ملفات الفساد المالي، ما هي المؤاخذات على طرق معالجتها ؟ إن أخطر ما شاهدناه في محاكمات قيل إنها تتعلق بجرائم الأموال هو ذلك الخلط الخطير بين ما هو جنائي أي ما هو جناية اختلاس أو تبديد مال عام، يستحق العقاب بالسجن، وبين ما هو خطأ إداري أو مسلكي أو مؤاخذة أخلاقية تستحق الحكم بغرامة مالية أو مجرد الاحتقار. لإعطاء مثال بسيط على ذلك، وللاستئناس، أسوق نص المادة 116 مكرر ب من قانون العقوبات المصري التي أدخلت بموجب القانون رقم 63 لسنة 1975 الناصة على أن « كل من أهمل في صيانة أو استخدام مال عام معهود به إليه أو تدخل صيانته أو استخدامه في اختصاصه يعاقب بالحبس ... (قانون العقوبات القسم الخاص الدكتور رمسيس بهنام ص 423) فنظيرها لا يوجد في القانون المغربي وحبذا لو وجد مع شيء من التطوير والتحديث والإضافة، ومع ذلك عوقب الكثيرون بالسجن النافذ ليس لأنهم اختلسوا أو أدخلوا إلى جيوبهم مالا عاما، بل لأنهم أهملوا صيانته أو مراقبة صرفه، أو لم ينتبهوا إلى الخطأ الذي ارتكبه غيرهم من مرؤوسيهم، أو لم تكن لهم الشجاعة الكافية لمواجهة وزير قوي أو عامل يستمد قوته منه، حيث لم يكن احد يجرؤ على الشجاعة إلا من اعتبر السجن أحب إليه . وأتمنى في هذا الإطار أن يتفرغ الباحث إلى المقارنة بين أحكام المجلس الأعلى للحسابات وما تتضمنه من مخالفات ومؤاخذات، وما تقتصر عليه في الحكم من مجرد غرامات، وبين الأفعال نفسها أو أقل منها خطورة وصفتها النيابات العامة وقضاء التحقيق في أقسام جرائم الأموال بأنها مساهمة أو مشاركة في تبديد المال العام، وللأسف فقد تتبعتها المحاكم في مناحي تصورها وأدانت أشخاصا بالسجن لسنوات . ثم إن الشعور بأن هذه الملفات خاصة لا ينتظر من القضاء، في كل مراحله، أن يكون عادلا فيها شعور موجود والصمت إزاءه موجود أيضا. ليس الإصلاح ومواجهة الفساد بتخطي القانون والضمانات بل بإعمالهما، حتى لا نعطي صورة غير حقيقية عن الإصلاح الذي نريد تحقيقه، فالبعض تدهسه أرجل القضاء دون أن يدخل لجيبه مال عام أو خاص، والبعض يعيث في المال العام فسادا ويتخذ من محاكمة غيره فرجة من جهة ودليلا في المحافل الوطنية والدولية على أن هناك محاربة الفساد من جهة أخرى . في رأيكم هل إحداث هذه المحاكم سيساهم في الحد من كل المؤاخذات التي كانت تطرح عند معالجة أي ملف من ملفات الفساد المالي؟ لا أعتقد ذلك، إذا اقتصر الأمر على تخصيص قضاة وقاعات للبت في هذا النوع من الملفات، أو اقتصر الأمر على تكوين القضاة تكوينا ماليا ومحاسباتيا دون تلقينهم أولا مبادئ الاستقلال عن أية سلطة كيفما كانت، ودون المساس أو محاولة باستقلالهم، وتلقينهم ثانيا مبادئ القانون الجنائي مسطرة وموضوعا لما في ذلك من ضمانات للحقوق والحريات، أو اقتصر الأمر على ما هو منصوص عليه في الفصول 241 إلى 256 من جنايات، دون أن يشمل غيرها من جرائم الفساد المالي، ولم يتعد الأمر حد إنشاء أقسام داخل محاكم الاستئناف إلى حد إحداث محاكم مالية زجرية متخصصة، إن أردنا فعلا تفعيل الرقابة والزجر في الجرائم المالية، وتوفير الثقة لدى المواطن ولدى جميع العاملين في الحق القضائي ، ولدى المستثمر وطنيا كان أو أجنبيا . أجرت الحوار: كريمة مصلي

الإصلاح لايتم بتخطي القانون والضمانات بل بإعمالهما

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المحاكم المالية جاءت لتصريف إرث محكمة العدل الخاصة

تكوين 50 قاضيا في الجرائم المالية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات