الفقيه بنصالح … المدينة الشبح

مهاجرون في جمعية للعاطلين ومحلات بارت تجارها والعقار في أدنى مستوياته تشعر الفقيه بنصالح الزائرين بالحيرة، فشوارعها وأزقتها مثل متاهة لا تستطيع تحديد إن كانت تنتمي إلى المدن الصغرى أم القرى الكبيرة، لكنها فاتنة بطيبوبة سكانها، و"قاسية" بمعاناتهم وأحلامهم المجهضة. المدينة الشبح يوما ما ستختفي الفقيه بنصالح من الخريطة، هكذا علق أحد السكان، وهو يتأمل مصير مدينة فقدت "هويتها" الفلاحية، إذ ابتدأ "بلاؤها" منذ أن قرر مهاجر "مجهول" مغادرتها صوب أوربا، ثم عاد محملا بالعملة الصعبة، وحزمة عقود عمل تغري شباب المدينة بالبحث عن الثروة في القارة العجوز. في أواخر التسعينات كانت الفقيه بنصالح مدينة "المهاجرين"، فالعائدات المالية لأبنائها من الهجرة إلى إيطاليا أثرت على عمران المدينة ونسيجها الاقتصادي والاجتماعي. وفي فترة قصيرة استبدلت المدينة ثوبها القروي، إذ شيدت بنايات جميلة بشارعي علال بنعبد الله والحسن الثاني، ثم تنافس المهاجرون في اقتناء البقع الأرضية، وفتح المحلات التجارية، قبل أن تغزو السيارات الفارهة المرقمة بالمدن الإيطالية الشوارع، متحدية فقر غالبية السكان. مرة وصف الشاعر الكبير الراحل عبد الله راجع الفقيه بنصالح ب"القرض الفلاح والجدارمية"، فالحياة داخل المدينة كانت تتمحور حول بناية القرض الفلاحي ومركز الدرك الملكي، ثم سرعان ما "كبرت"، وامتد عمرانها طولا وعرضا، واختفت بناية "القرض الفلاحي" والدرك الملكي بين العمارات الشاهقة. أفل نجم الفقيه بنصالح، الآن، فالأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوربا، وإغلاق القارة العجوز أبوابها أمام المهاجرين، جعلا المدينة تئن من وطأة الأزمة، فأغلقت المحلات التجارية، وبارت التجارة وأصيبت كل منتوجات المدينة بالكساد.. إنها الآن المدينة الشبح. "حين تعطس إيطاليا تصاب الفقيه بنصالح بالحمى"، مقولة تُجسد الحياة داخل المدينة، ففي ما مضى كان العائدون من إيطاليا إلى مسقط رأسهم بالفقيه بنصالح يضخون الملايين من العملة الصعبة، أما الآن، فهم عاطلون عن العمل يجوبون الشوارع ويقضون الساعات في المقاهي، فتحول الثراء إلى مظاهر للبؤس والضياع، حينها تنامت الجريمة وكثرت الأزمات الاجتماعية. حدة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها أجبرت المهاجرين على العودة قسرا إلى بلدانهم الأصلية، في ظروف تتسم بالتشتت العائلي وحالات الانفصال والهجر، وأوضاع نفسية صعبة أدت بالعشرات إلى اللجوء إلى الانتحار وسيلة للهروب من الواقع أمام العجز وانسداد الآفاق، فيما فضلت فئات محظوظة ادخار مبالغ مالية من أجل استثمارها... لكن بعيدا عن المدينة الأم. يحكي طارق كنوز، رئيس جمعية الكرامة للمجازين المعطلين بالمدينة، أن العائدين فضلوا الاستثمار في بناء الفنادق بأكادير ومراكش وطنجة، وآخرين شيدوا مصانع صغيرة في البيضاء والمحمدية، لعلمهم أن السوق المحلية بالمدينة لا تشجع على جني الأرباح، بل إن أحد المحلات التجارية المشهورة، وطنيا، أجرت دراسة لإنجاز مشروعها بالمدينة، في فترة الازدهار، وهي الآن تعاني الكساد، كما عاينت "الصباح". جولة في أزقة المدينة تكشف حجم التأثر بالحياة الإيطالية، فافتتاح المقاهي هو المشروع الوحيد المربح لكل العائدين من أوربا، خاصة مع تزايد عدد العاطلين عن العمل، ولا تحتاج إلى كثير من الجهد إلى تحديد هوية "مقاهي المهاجرين"، فهي أنيقة وتحمل أسماء المدن الإيطالية، مثل روما وميلانو ونابولي أو فضاء المهاجر... وهناك من اختار الاستثمار في البقع الأرضية، قبل الاصطدام بتراجع أسعار العقار، وآخرون ضخوا كل أموالهم في محلات بيع الملابس الإيطالية كأن الحنين يشدهم إلى الفترة الذهبية.. إنها إيطاليا في قلب الفقيه بنصالح. ربما تستغرق يوما في التجوال بشوارع المدينة، فتطوف على الأحياء الجميلة لمهاجرين سابقين أو تجلس تشرب فنجان قهوة في مقهى "إيطالية"، لكنك لن تستطيع العيش أكثر من ذلك، فالحياة، هناك، رتيبة، سيما مع الطقس البارد شتاء والحرارة المرتفعة صيفا. المدينة الشبح تنتظر من يزرع بذور الأمل في شبابها، بدل التوجه إلى فرع القنصلية الإيطالية بالفقيه بنصالح، بحثا عن فرص عمل تنقذهم من العطالة وغياب المرافق الاجتماعية. الفقيه بنصالح... الفلاحة وكرة القدم والفروسية تشتهر الفقيه بنصالح بأنها مدينة فلاحية، فقد شيدت في القرن السادس عشر ميلادي. وهي توجد في منطقة معروفة بخيراتها الفلاحية. ونظرا لتوسعها العمراني وإمكاناتها الفلاحية المهمة تحولت إلى إقليم بعد أن كانت محسوبة على منطقة تادلة أزيلال. المدينة أيضا مدينة المواهب بامتياز، إذ ذاع صيتها في ثمانينات القرن الماضي بفريقها في كرة القدم، ففريق اتحاد الفقيه بنصالح لعب سنوات في الدرجة الأولى لكرة القدم. وقتها كان "الملعب البلدي" دون عشب أخضر، لكن تقنيات لاعبي الفريق كانت تشد الانتباه وتجذب آلاف المتفرجين من أبناء المدينة والقرى المجاورة، لمشاهدة مباريات الفريق العميري (نسبة إلى قبيلة بني عمير). أما في الوقت الحالي، فقد غاب فريق كرة القدم عن الأنظار، بالمقابل منحت الأولوية لرياضات أخرى مثل الفروسية، بعد تشييد مركب للفروسية. "الروفولي" ... مأساة اجتماعية هناك من اختار العودة من أوربا إلى الفقيه بنصالح طواعية، لكن فئات أخرى اضطرت إلى العودة بعد طردها، فحسب إحدى الجمعيات المختصة بالمهاجرين، فإن العائدين عنوة إلى المدينة كانوا يضخون ما مجموعه الملايين شهريا، ما دفع عدة بنوك إلى فتح مقرات لها، قبل أن يتقلص الرقم الآن بشكل كبير جدا. ولا يخفي "روفولي" أن معاناتهم بالمدينة أشد بؤسا، فهم ضحايا الضيا ، ويحكي بعضهم عن ظاهرة الانتحار في صفوف المهاجرين داخل السجون الإيطالية، فالشباب يرفضون العودة قسرا، حتى ولو فقدوا أعمالهم، نظرا للنظرة الاجتماعية التي تصفهم بالفاشلين، مشيرين إلى ضرورة إيجاد حلول عاجلة لأوضاع المهاجرين السريين، والتخفيف من حدة الأزمة التي مست جيلا بأكمله مازال يعاني من خيبات أمل وإحباطات. إدماج مهاجرين عاطلين قال طارق كنوز، رئيس جمعية الكرامة للمجازين المعطلين بالفقيه بنصالح، إن الجمعية منذ تأسيسها سنة 2011 انتبهت إلى أن التوظيف أصبح مستحيلا، ما دفع جميع الأعضاء إلى التفكير في طرق جديدة لتشغيل المجازين العاطلين. وأوضح كنوز أن الجمعية فتحت حوارا مع المسؤولين في الإقليم، بعد خوض عدة أشكال نضالية، منها وقفات احتجاجية واعتصامات، وتمكنت من الاستفادة من خمسة مشاريع: مشروع معصرة للزيتون، فالمنطقة غنية بالزيتون، كما تساهم بالثلث في الإنتاج الوطني الإجمالي منه، وبما أن بعض أعضاء الجمعية لهم إلمام بالفلاحة، فقد نجح مشروع المعصرة التي يشتغل بها سبعة عاطلين. وبخصوص المشروع الثاني، فهو فضاء للألعاب الترفيهية للأطفال، إذ لاحظت الجمعية أن المدينة لاتتوفر على فضاء للأطفال، مما جعلها تقترح الفكرة التي تجسدت على أرض الواقع بتوفير متنفس جديد للأطفال يحتوي على عدة ألعاب، ويشرف على تسييره سبعة عاطلين. أما المشروع الثالث، فهو عبارة عن 13 كشكا تقدم خدمات القرب للمواطنين، وأغلبها يقع قرب الإدارات العمومية لنسخ الوثائق، وفي بعض الأحياء من أجل بيع الأكلات السريعة. والمشروع الرابع عبارة عن مدرسة خاصة ستفتح أبوابها، ويشرف عليها 20 مجازا عاطلا، ونجحت الجمعية في توفير التمويل، وإنجاز كل الإجراءات الإدارية الضرورية، في حين أن المشروع الخامس عبارة عن ممون للحفلات استطاع توفير عدة مناصب للشغل، علما أن الجمعية تعمل، حاليا، على مشروعين آخرين من المنتظر أن يوفرا 14 منصب شغل. وكشف كنوز أن عمل الجمعية لم يكن مفروشا بالورود، فمنذ تأسيسها خاضت أشكالا احتجاجية عديدة، قبل أن تتوصل إلى حلول مع المسؤولين، مشيرا إلى أن "ما يميز جمعية الكرامة أن لا علاقة لها بالسياسة، بل كل ما تبحث عنه هو تمويل مشاريع من أجل تشغيل المجازين العاطلين، وهي الحقيقة التي لمسها كل المسؤولين في المدينة". وفي سياق آخر، يرى كنوز أن الفقيه بنصالح تعتمد في مداخيلها المالية على موردين أساسيين، وهما العملة الصعبة، وعائدات الفلاحة، إلا أن المدينة تضررت بشكل كبير من انخفاض عائدات هذين الموردين. وقال كنوز:" إن العملة الصعبة الناتجة عن الهجرة كانت تحقق رواجا تجاريا كبيرا جدا، إذ يستحيل أن تجد في المدينة أسرة لا يشتغل أبناؤها بأوربا، خاصة بإيطاليا، إلا أنه مع الأزمة الحالية في القارة العجوز تراجعت عائدات العملة الصعبة بشكل كبير جدا، فحتى الشباب الذين يسافرون الآن لا يعثرون على فرص عمل، فالمصانع، هناك، أغلقت أبوابها..". ويوضح كنوز أن شبابا حاصلين على الإجازة توجهوا إلى إيطاليا من أجل تحسين وضعيتهم الاجتماعية، فاصطدموا بالواقع الجديد لأوربا وغياب فرص العمل، ما اضطرهم إلى العودة مجددا إلى المدينة، قبل أن يكتشفوا أن الحكومة تدير وجهها عنهم. فمن سيحتضنهم؟ يتساءل كنوز قبل أن يشير إلى أن جمعية الكرامة احتضنتهم لتوفرهم على كل شروط الانخراط فيها، ومنهم من أدمج في المشاريع السابقة. وهناك مفارقة كبيرة لدى المسؤولين، يقول كنوز، فحين يجلب المهاجرون العملة الصعبة يستقبلون استقبال الأبطال وحين مست الأزمة أوربا تم التخلي عنهم. وبخصوص الفلاحة، ذكر كنوز، أن المدينة عانت مجموعة من الاختلالات، ما أدى إلى تراجع مدخولها، فالفلاح الصغير أصبح يعاني ضعف المداخيل، حينها تراجعت بشكل كبير. ويعترف كنوز أن المنطقة لم تنل حظها من الاهتمام الحكومي، فسهل تادلة منطقة فلاحية بامتياز تمنح للمغرب منتجات بوفرة، فهناك الحليب والخضروات ومناطق فلاحية شاسعة، كما أنها تتوفر على أكبر "مغسلة" للفوسفاط، وكانت تتوفر على فريق كبير في كرة القدم لُقب ب"قاهر الكبار"، ورغم ذلك لا تتوفر على أبسط بنية تحتية. وعدد كنوز الخصاص المهول بالمدينة، فهي لا تتوفر على مصحة خاصة، ولا جامعة، ما يضطر طلبة القانون إلى التوجه إلى مكناس. أما التكوين المهني فهو شبه غائب، ولا توجد إلا دار للشباب واحدة، وتنعدم مراكز لإيواء المتخلى عنهم، والفضاءات الخضراء، ومكتبة وسائطية، ومسرح ومتحف يؤرخ لموروث المنطقة... فالدولة يجب أن تُنقذ المدينة من الاندثار. روبي... نجمة بني عمير يتبرم سكان الفقيه بنصالح من الحديث عن كريمة محروق المشهورة بلقب "روبي"، فقضيتها مع رئيس الوزراء السابق برلسكوني جعلت المدينة تدخل "العالمية" في كل الصحف العالمية. قليلون يتحدثون عن "روبي" ويرفضون الكشف عن هوياتهم حرجا نظرا لعلاقة الجوار مع أفراد أسرتها بالمدينة، لكنهم لا يخفون أن سكان المدينة، في تلك الأيام، أصبحوا متخصصين في قراءة الجرائد لمعرفة جديد أخبارها والإبحار في مواقع التواصل الاجتماعي علهم يعثرون على إحدى قصصها المثيرة. ولم تهدأ عاصفة "روبي"، رغم أن القضاء الإيطالي برأ، في ماي 2015، برلسكوني بعد أن أدانته محكمة ابتدائية بالسجن 7 سنوات بتهمة إقامة علاقات جنسية مع كريمة حين كانت تبلغ من العمر 17 عاما، لقاء مبالغ مالية واستغلال السلطة. ما يحز في عدد ممن التقتهم "الصباح" أن قضية كريمة انحرفت عن مسارها، فقد مثلت مع 22 متهما أمام المحكمة ، بعدما وجهت لهم تهم تضليل العدالة والإدلاء بشهادات كاذبة خلال محاكمة برلسكوني. وظهرت الفضيحة الجنسية ل"روبي" إلى العلن سنة 2011، وهي عبارة عن حفلات جنسية ماجنة أقامها برلسكوني في فيلاته الخاصة بميلانو بمشاركة عدة فتيات، وأطلق عليها "حفلات بونغا بونغا". وكريمة المحروق ولدت في المغرب سنة 1992 ورحلت مع أسرتها إلى صقلية في إيطاليا حين كانت تبلغ من العمر 9 أعوام، قبل أن تفر من منزل أسرتها حين كانت في الرابعة عشرة من العمر. واكتشفها مقدم البرامج التلفزيونية، وهو صديق برلسكوني، في مسابقة جمال في صقلية، لتعمل بعد ذلك راقصة في ملهى ليلي في ميلانو، تملكه وكيلة نجوم مقربة أيضا من رئيس الوزراء السابق. وقالت الصحافة الإيطالية بعد فضيحة "روبي غيت" أو حفلات "بونغا بونغا" أن نيكول مينيتي، التي كانت تعمل مستشارة إقليمية لحزب برلوسكوني، عمدت إلى "توظيف" روبي، حين كانت قاصرا، لتسلية زعيم الحزب. خالد العطاوي (موفد الصباح إلى الفقيه بنصالح)

الفقيه بنصالح … المدينة الشبح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

عمر الشمري: العراق.. مبادرات وتسويات بلا حدود

توقيف مشروع سكني يطيح بموظفين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات