النفايات الإيطالية… الحقيقة الغائبة

الصباح اقتفت آثارها ببيسكارا وزارت شركة إسمنت بألمانيا تستخدمها وموقف الحكومة زاد الوضع التباسا بعدما حطت حرب النفايات أوزارها وسكنت العاصفة قررت الجمعية المهنية لشركات الإسمنت تنظيم زيارة صحافية لمقر الشركة مصدر الشحنة التي أثارت موجة الاحتجاجات في شبكات التواصل الاجتماعي، قبل أن تنتقل إلى الساحة السياسية وتجاذبات الأحزاب كل من موقعه. والغريب في الأمر أن حتى حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، والذي من المفروض أن تتوفر لديه كل المعلومات المتعلقة بالشحنة، باعتبار أن وزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة، المعنية بالملف، يشرف عليها أحد أعضاء الحزب ذاته، طالب هو الآخر بتوضيحات في الموضوع. وبدل أن يبادر الوزير إلى توضيح الأمور، فإنه فضل الصمت وتبرأ من الملف، ليزيد الوضع غموضا، وتوالت الضربات من تحت الحزام، حتى وصل الأمر إلى تزوير بعض الوثائق وتسريبها إلى بعض المواقع لصب الزيت على النار، على غرار الوثيقة التي تشير إلى تورط شركة إسرائيلية في نقل الشحنة إلى المغرب، ليتحول الموضوع، بعد ذلك، إلى مادة إعلامية دسمة تتسابق كل وسائل الإعلام لتحقيق السبق بشأنها. ويطرح التساؤل، حاليا، بعد أن هدأت العاصفة الإعلامية، عن حقيقة الأخبار التي تم الترويج لها ومصدر الشحنة ومدى خطورتها. زارت "الصباح" مقر الشركة المصدرة للشحنة ومصنعها، وانتقلت إلى ألمانيا، البلد الأكثر تشددا في قضايا البيئة للإطلاع على المحروقات التي تستعملها شركات الإسمنت بهذا البلد. كانت أولى الحقائق التي وقفت عليها "الصباح" أن الشحنة جلبت من مدينة بيسكارا الإيطالية وليس من نابولي كما تم الترويج لذلك في أحد المواقع الإلكترونية الذي نقل عن وسائل إعلام إيطالية، أن شحنة 2500 طن من النفايات التي وصلت إلى ميناء الجرف الأصفر بالقرب من الجديدة جزء من نفايات منطقة "تافيرنا ديل ري" (Taverna del Re) بالقرب من نابولي وأثارت الجدل، وفرضت بشأنها السلطات الأوربية غرامات على إيطاليا لإخلالها بشروط السلامة البيئية. "بيسكارا" مصدر الشحنة صحيح أن لجنة الاتحاد الأوربي غرمت إيطاليا بسبب عدم احترام المعايير الأوربية في تدبير النفايات، لكن الموضوع يعود إلى حوالي 20 سنة، إذ أن الشحنة الموجهة إلى المغرب جاءت من شركة "ديكو"، إحدى الشركات الصغيرة بضواحي مدينة بيسكارا الواقعة على البحر الأدرياتيكي. لم يتردد مسؤولو الشركة في فتح أبوابها في وجه ممثلي الصحافة المغربية للوقوف على طبيعة النفايات التي تعالجها الشركة بمصنعها. استغرب المدير العام للشركة الطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام المغربية ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن الشحنة التي تم تصديرها إلى المغرب. ونفى نفيا قاطعا أن تكون الشحنة تتضمن مواد سامة كما تم الترويج لذلك. وأكد ألا علاقة لشركته بفضيحة نفايات "تافيرنا ديل ري" وتحدى أن يكون اسم "ديكو" ضمن لائحة المتهمين بالإخلال بمعايير السلامة البيئية، مشيرا إلى أن المصنع يعالج نفايات عادية تتشكل أساسا من البلاستيك والكارتون والورق والخشب، التي تتم معالجتها، قبل أن يصبح وقودا بديلا يستخدم، غالبا، في أفرنة شركات الإسمنت. نفايات البديل الحراري (RDF) يتم استقبال الشاحنات المحملة بالنفايات من قبل الشركة، قبل أن يتم فرزها ووضعها في ظروف تقنية معينة من أجل تجفيفها، وتتطلب هذه العملية على الأقل 14 يوما، وقبل أن تمر إلى عملية التحلل البيولوجي، يتم طرحها في مطحنة لتحويلها إلى جزيئات وفق معايير مضبوطة لضمان الحصول على قطع صغيرة لا يتجاوز طولها 3 سنتيمترات، وتمرر، بعد ذلك إلى حاملة متحركة من أجل تعبئتها على شكل مكعبات مربعة، قبل تلفيفها بالبلاستيك للضغط عليها من أجل الحصول على الشكل الأمثل للتحميل. توجد بساحات المصنع الآلاف من هذه المكعبات التي يصل حجمها إلى متر مكعب بوزن 100 كيلوغرام، تنتظر تحميلها لتصدر إلى الخرج، في حين أن النفايات المعالجة الموجهة إلى إيطاليا، التي تمثل 70 % من حجم الإنتاج الاجتماعي، تحمل عبر شاحنات دون تلفيف. ورغم وجود هذه النفايات بساحة بالهواء الطلق لا تنبعث من المصنع، الذي تحيط به منازل وفيلات أي روائح كريهة، التي تظل حبيسة مصنع المعالجة فقط. ولا يتردد أحد المسؤولين عن المصنع في مسك عينة من هذه النفايات بيده دون أي قفازات واقية، ليفرز المكونات التي تتشكل منها نفايات البديل الحراري المشتق من النفايات (Refuse Derived Fuel)، وهي عبارة عن أخشاب وورق مقوى وكارتون وبلاستيك. وتمثل هذه النفايات بديلا للمحروقات التقليدية التي تستعملها شركات الإسمنت مصدرا للطاقة، كما أنها أقل ضررا على البيئة، بالمقارنة مع الفيول أو العجلات المطاطية. وتجدر الإشارة إلى أن طنين من نفايات البديل الحراري يعادلان ما يوفره طن من البترول من الحرارة عند الاحتراق. وتخضع صناعتها بأوربا لمعايير صارمة. أطلعنا فابريزيو ديبيرو، المدير العام للشركة على مجموعة من شهادات الجودة واحترام معايير البيئة التي حصلت عليها الشركة مثل إيزو 9001 و إيزو 14000، وشهادة إيماس (EMAS) الأوربية المتعلقة باحترام معايير السلامة البيئية. الحكومة...الموقف المتذبذب أبانت أزمة النفايات عن تذبذب في الموقف الحكومي الذي لم يتضح حتى الآن، إذ ظلت النفايات تستورد طيلة سنوات دون أي مشاكل، كما أن هناك عددا من النصوص القانونية التي تؤطر هذا المجال. لكن كان يكفي أن تطلق جمعية محلية من المجتمع المدني إنذارا حول شحنة نفايات البديل الحراري لتنتشر كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي، قبل أن يصل لهيبها إلى قبة البرلمان والحكومة. لم تبادر الحكومة إلى الحديث عن الموضوع حتى بدأت أسئلة الأحزاب السياسية، التي ركبت على الموضوع دون التوفر على أي معطيات علمية مدققة حول الشحنة، إذ لحد الساعة لم تتأكد نتائج الأبحاث المخبرية حول الشحنة موضوع الضجة. وقررت الحكومة في اجتماع مجلسها في 14 يوليوز الأخير إيقاف استعمال الشحنة الحالية في انتظار استكمال التحريات لاتخاذ القرار النهائي بشأنها، كما تقرر إيقاف استيراد أي شحنة من النفايات، دون أي تحديد. وجاء القرار غامضا وفضفاضا، ما جعل هامش التأويل واسعا، خلال تنفيذ القرار، لتتوقف كل عمليات استيراد النفايات بكل أصنافها. وكان لهذا الأمر الأثر الكبير على سير عمليات الإنتاج بالعديد من الصناعات التي تستخدم النفايات وقودا في إنتاجها، مثل صناعات الصلب ومواد البناء، وأنابيب الكلوريد بولي فينيل وعدد من الصناعات الأخرى، وكاد النشاط أن يتوقف بهذه الوحدات مع قرب نفاد مخزونها من المحروقات. وأمام هذا الوضع خرج مصطفى الخلفي بتصريح ليفتح المجال أمام الأصناف التقليدية من النفايات والمتلاشيات، إذ أكد أن المقصود بقرار المنع نفايات البديل الحراري، وأن الأصناف الأخرى مسموح باستيرادها. الرضوخ لضغوط فيسبوك الغريب في الأمر أن الحكومة قدمت مشروع معالجة النفايات وإنتاج الوقود البديل منها، خاصة نفايات البديل الحراري، خلال المؤتمر العالمي حول المناخ في دورته الأخيرة "كوب 21" في إشارة منها إلى استحضار البعد البيئي في السياسات العمومية، ولاقى المشروع استحسانا من قبل مختلف البلدان المشاركة. وشرعت الوزارة المنتدبة المكلفة بالبيئة في تنزيل المشروع على أرض الواقع، إذ حددت 18 مركزا لمعالجة وتثمين النفايات في خطوة أولى لبداية عملية إنتاج نفايات البديل الحراري محليا وفتحت الحوار مع شركات الإسمنت ومستعملي هذا الصنف من الوقود من أجل الإسهام في المشروع، بالنظر إلى أن هذه الصناعات تعتبر الأكثر استعمال للوقود البديل، وتقرر، أيضا، تجهيز شركات الإسمنت بأفرنة ومداخن تتوفر فيها معايير المطلوبة لمراقبة الانبعاثات، وبالفعل تم تجهيز هذه الشركات بالتكنولوجيات المطلوبة. وتقرر بداية استيراد نفايات البديل الحراري، في مرحلة أولى، مع إجراء الاختبارات المطلوبة بشأنها. وكان من المفروض أن تكون الشحنة موضوع الجدل بمثابة اختبار إلى حين اكتساب الخبرة المطلوبة، وبالفعل تم إنشاء مركز لفرز النفايات بمطرح أم عزة بجهة الرباط سلا. لكن جاءت العاصفة التي أحدثتها شحنة نفايات البديل الحراري لتقرر الحكومة توقيف كل المشاريع تحت ضغط احتجاجات شبكة التواصل الاجتماعي، وتنصلت من كل شيء وتعاملت مع الموضوع وكأن لا علم لها به وأن نفايات البديل الحراري أمر غريب عليها لم يسبق أن تمت مناقشته، بل تبنيه. ومما لا شك فيه أن مسلسل النفايات سيستمر وسيزداد تشويقا مع اقتراب الحملة الانتخابية. ألمانيا أكثر البلدان استعمالا لها لا يقتصر إنتاج واستيراد واستعمال نفايات البديل الحراري على إيطاليا، بل كل البلدان الأوربية والمتقدمة والتي تعرف بتشددها في قضايا احترام شروط السلامة البيئية، مثل سويسرا وألمانيا، تستورد هذا الصنف من النفايات. لذا كانت الوجهة نحو ألمانيا وبالضبط إلى منطقة "إنغلو" بالقرب من مدينة "دورثموند" الألمانية، حيث يوجد مصنع مجموعة "هايدلبرغ سيمنت". كانت المفاجأة كبيرة عندما اكتشفنا وجود العديد من الإطارات المطاطية بساحة المعمل والشاحنات تتوافد على المصنع لإفراغ شحناتها. وأكد عبد المولى باوي، المغربي الذي يرأس فريق البحث بالمجموعة، أن هذه العجلات تستعمل بالفعل وقودا بفرن المصنع، لكن نسبتها تراجعت بفعل اللجوء المكثف لنفايات البديل الحراري. وأوضح أن استخدامها يمكن من تقليص انبعاثات الغاز بناقص 28 %، مقارنة مع المواد التقليدية، وخاصة نفايات المواد العضوية، التي تقلص الانبعاثات بشكل ملحوظ. وأضاف أن إنتاج طن من الإسمنت عن طريق المواد التقليدية يؤدي إلى انبعاث 0.8 طن من ثاني أكسيد الكاربون. لذا تمثل نفايات البديل الحراري، حسب الخبير المغربي، الحل الأمثل لتقليص انبعاث الغازات وتأثيراتها على البيئة، مشيرا إلى أن ألمانيا تستهلك 3 ملايين طن في السنة من نفايات البديل الحضري. ويستعمل مصنع "هيدلبيرغ سيمنت" هذا الصنف من النفايات بنسبة 82 %، لإنتاج احتياجاتها الحرارية. من جهته، اعتبر جان طولين (Jan Theulen)، مدير الموارد البديلة بالمجموعة ذاتها أن المغرب يتوفر على إمكانيات كبيرة لإنتاج نفايات البديل الحراري، خاصة أن نفايات المغرب تتوفر على نسبة كبيرة من المواد العضوية، التي تعتبر الأقل إنتاجا للانبعاثات الحرارية، مقارنة بالنفايات المادية الأخرى. وأكد بدوره، خلال زيارة لمخزن المصنع المخصص لنفايات البديل الحراري، أن استعمالها يعتبر أقل ضررا من المواد الأخرى وأن المصنع يستخدمها بنسبة كبيرة من أجل إنتاج احتياجاته الحرارية لإنتاج الإسمنت. وشرع أمام الوفد الصحافي المغربي في فرز مكونات عينة من هذا الصنف من الوقود البديل بيديه عاريتين دون أي قفازات واقية، ما يعني أن هذه المكونات لا تتضمن أي مواد سامة. ويؤمن المصنع احتياجاته من وقود البديل الحراري عبر اتفاقيات شراكة مع شركات مختصة في إنتاجها، مثل "إيمريك"، التي تنتج وقودا بديلا من النفايات الصناعية. وأوضح مدير الشركة أنه يتم استقبال العشرات من الشاحنات القادمة من ألمانيا وبعض البلدان المجاورة محملة ببقايا صناعية، خاصة تلك المرتبطة بالنسيج والبلاستيك والأخشاب، وذلك مقابل 15 دولارا عن كل طن من هذه البقايا تؤديها الشركات الصناعية للشركة المعالجة، وتوجه المنتوج المعالج (نفايات البديل الحراري) لشركات الإسمنت بسعر 5 دولارات للطن، علما أنها تكون مضطرة، عندما يكون العرض وافرا، إلى الأداء لشركات التأمين لتخليصها من هذه النفايات. وتعالج "إيرميك" 40 طنا من النفايات على رأس كل ثماني ساعات، علما أن المصنع يشتغل على مدار الساعة، ما يعكس الطلب التنامي على هذا النوع من النفايات، التي يظل استهلاكها مرتبطا بأسعار البترول، إذ كلما كانت أسعار النفط مرتفعة يكثر الطلب عليها ويقل عندما تنخفض الأسعار. ولم تسجل شركة "هايدلبرغ سمنت" ، حسب مسؤوليها، أي شكايات أو احتجاجات من السكان المحيطين بالمصنع. إنجاز: عبد الواحد كنفاوي (موفد الصباح إلى إيطاليا وألمانيا)

النفايات الإيطالية… الحقيقة الغائبة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اختفاء أغنية من أرشيف التلفزة

حكام من بوركينافاسو للفتيان أمام غينيا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات