الساعة الثالثة زوالا، يسند الرجل بمعطف أسود وعكازة معدنية ظهره، إلى عمود لوحة إشهار بتقاطع شارعي الزرقطوني وأنفا بالبيضاء. عيناه لا تلويان على شيء غير الضوء الأحمر الذي ما إن يشتعل، حتى يزحف بتثاقل نحو السيارة البيضاء التي تقودها فتاة. يلف، بحركة سريعة، ناحية الباب الأمامي، ويطلب من المرأة أن تفتح زجاج النافذة، متوسلا إليها بإيماءة من كفه التي يربت بها على فمه. تتردد الفتاة في فتح النافذة، تلتفت إلى الجهة الأخرى، في محاولة لصده، ثم ترفع بصرها إلى إشارة المرور كأنها تتوسل "الضوء الأخضر" كي يشتعل بسرعة. ينقر صاحب المعطف الأسود والعكازة المعدنية على الزجاج، وهي طريقته للضغط النفسي على صاحبة السيارة التي ما إن تلتفت جهته، حتى يكشف عن بطنه التي تخترقها أنابيب بلاستيكية تنتهي إلى كيس به سائل أحمر مربوط في حزام سروال دون سحابة. ترتعب الفتاة، وتضع كلتا يديها على وجهها. يشتعل الضوء الأخضر. تنطلق السيارات ومعها زعيق المنبهات. تنزعج الفتاة أكثر وتضغط على الدواسة، وتعبر إلى الجهة الأخرى. بالتثاقل نفسه، يعود الرجل بمعطف أسود وعكازة معدنية إلى مكانه تحت لوحة الإشهار، في انتظار ضوء أحمر جديد. وفي الطريق، يضع يده تحت سترته من أجل إخفاء الكيس والأنابيب البلاستيكية ثم يسحب سيجارة شقراء، يشعلها وينفث دخانها منتشيا في الهواء. دقيقتان، تفتح الإشارة من جديد، يزحف الرجل ناحية سيارة بلون أسود. صاحبها يضع كفه على حافة زجاج النافذة المفتوح، ويتحدث في هاتفه المحمول. يمد المتسول يده لطلب صدقة، قبل أن يحاول الكشف، بحركة سريعة، عن أشيائه المخبأة في بطنه، يرمقه السائق، ويطلب منه الكف عن ذلك، ثم يسحب ورقة نقدية ويغرسها في يده ويأمره بالانصراف. يقلب الرجل بمعطف أسود وعكازة معدنية الورقة النقدية بين أنامله، وهو يعرج وسط السيارات منتشيا بحصاد كبير، ثم يلوي في الزقاق الصغير المتاخم لمحطة بنزين ويختفي عن الأنظار. مثل الرجل بمعطف أسود وعكازة معدنية بشارعي الزرقطوني وأنفا، يوجد "كثيرون" يستعملون الأسلوب نفسه في استدرار عطف السائقين والمارة، قليل منهم غادروا بالفعل غرف الجراحة، بعد عمليات قاسية تركت ندوبا كبيرة على أجسادهم، وآخرون يمثلون "الدور" على أكمل وجه، في إطار المنافسة الشرسة التي يشهدها قطاع "مربح" ينحو للاحتراف والخبرة و"العلم". التسول بـ"الأمعاء المفتوحة" لا يحتاج سوى لحزمة أنابيب وأكياس بلاستيكية تجمع من قمامة المستشفيات، ولصاق طبي يباع في الصيدليات، ثم شخص "خبير" يتكلف بربط كل هذه المعدات حول البطن، ويضع طرف الأنبوب في الجهة اليسرى ويغطيه بكتلة من اللصاق ويصب عليه سائلا أحمر، ثم يخرج الأنبوب ويربطه بكيس بلاستيكي به سائل يميل إلى الأسود. يضاف إلى هذه "الأوكسسوارات"، وجه سينمائي يتقن أدوار البؤس، ولسان متعب من شدة الألم، (ويستحسن أن يكون التواصل عن طريق الإيماءات)، ثم يقظة كبيرة في تقاطع الشوارع والمدارات الطرقية، ورصد للفئات الهشة من السائقين التي تتجنب رؤية هذه المشاهد المقرفة، بالدفع المسبق. يوسف الساكت