لطالما اعتبر حميد نفسه «عصاميا»، قادته الأقدار من مسقط رأسه بمنطقة سيدي بنور، النائمة في عمق الشاوية، خلال فترة التسعينات، إلى الدار البيضاء، التي كانت تمثل آنذاك، «أرض الفرص» بالنسبة إلى شباب العالم القروي، الذين جلدت شمس الجفاف أجسادهم وأرزاقهم. تنقل الشاب العشريني بين المهن و»البريكولات» لأشهر وسنوات، قبل أن يستقر به المقام في حرفة، لا تتطلب ذلك القدر من المهارة والخبرة. يعلق ضاحكا على الأمر، «واش القرد الشارف يتعلم»، في إشارة إلى أن سنه لم تكن تساعده على تعلم أصول حرفة معينة. تسويق زيوت التشحيم وتغييرها في محركات السيارات، لم تكن «المهمة المستحيلة» بالنسبة إلى الشاب الدكالي.تدرج في هذه الحرفة، التي يصر على تسميتها «بريكول»، على مدى سنوات، ليتمكن من استئجار محل خاص به في حي السلامة بالبيضاء، والاستقلال بمشروعه الشخصي، حتى ولو كان صغيرا، فالمهم بالنسبة إليه حينها، الخروج من عباءة «المعلم» أو «مول الشي». جسده النحيل وقمصانه المتأنقة، التي لا يخفي تناسق ألوانها أصوله البدوية، فلكنته التي تحسنت شيئا فشيئا بالاحتكاك مع الزبناء، ظلت محافظة على ملامح تشير إلى منشئه، الذي لا يخجل في التباهي به، بل ويستخدمه لاستدرار تعاطف هذا الزبون أو ذلك. يحكي حميد بعفوية، كيف بدأت أول فصول «الترفيحة»، حين ادخر مبلغا ماليا لشراء سيارة مستعملة، وقام بعد ذلك بإعادة بيعها، ليحصل منها ربحا مهما، ثم انطلق في تكرار العملية، وانغمس في هذه التجارة برقم معاملات ما فتئ يتزايد بشكل تدريجي، قبل أن يتحول إلى تاجر سيارات مستعملة بالجملة، وصاحب حافظة زبناء مهمين.فخر وغرور يطبعان نبرة حميد، وهو يتحدث عن زبنائه، فتارة يقول أعرف القاضي فلان والمهندس فلان، وتارة أخرى يغطي على هذا الانطباع، بالتأكيد على أهمية المال في حل أي مشكل، والاستعاضة عنه بدل العلاقات، وهو ما تظهر أهميته في جزء مهم من تجارته، يفضل تركه في الظل، يتعلق الأمر بـ»همزة»، تعرف عليها عن طريق أحد أصدقائه التجار، تهم بيوعات المزادات العلنية، التي لا تشمل السيارات المستعملة فقط، مجال تخصصه، بل تمتد إلى عقارات ومنقولات أخرى. ربح سريع يراكمه التاجر في عملية واحدة، لا تحتاج بالضرورة إلى التوفر على رأسمال، إذ غالبا ما يتخلص من مشترياته وهي في المحجز، بمجرد رسو المزاد لصالحه، وهي نتيجة تفترض مهارة ويقظة كبيرتين.في الحديث عن المزادات العلنية، ارتسمت إشارات الحذر على محيا حميد، الذي أشار إلى أهمية السرية في الحفاظ على حظوظ الفوز في المزاد العلني، ذلك أن كل تاجر متخصص في هذا النوع من الجارة، يتوفر على شبكة من المخبرين، تضم سماسرة صغارا ومفوضين قضائيين، وكذا موظفي كتابة الضبط، الذين يزودونه باستمرار بالمعلومات حول المزادات العلنية، وشروطها، وفي أحيان كثيرة، أسعارها، ومعلومات عن هوية المشاركين المحتملين فيها، مشيرا إلى أن الولوج إلى دائرة المعلومة أصبح متاحا، بالاستفادة من الهواتف الذكية ووسائط التواصل الجديدة، التي يظل تطبيق «واتساب» أكثرها استخداما، ذلك أنه يوفر، حسب حميد، إمكانية تبادل المعلومات صوتا وكتابة، وكذا صورة أيضا، إذ يتم تصوير عروض المزادات العلنية وتداولها بكل يسر.يصر حميد على مطالعة كافة الجرائد الوطنية مساء كل يوم، عند أحد أصدقائه، الذي يمتلك كشكا لبيع الجرائد والتبغ، والهدف ليس الاضطلاع على أخبار الساعة، أو إغناء ثقافته العامة، بل يتوجه بصره مباشرة إلى المساحات الإعلانية الخاصة بالمزادات العلنية، إذ يعمد إلى معاينتها وإجراء اتصالاته للتزود بمعلومات إضافية حولها، تسهل عليه مهمة الفوز بالمزاد، وترفع حظوظه مقارنة مع منافسيه، الذين يتبعون الطريقة ذاتها تقريبا.بدر الدين عتيقي